
(1)
الدور التقليدي للمثقف العضوي
ليس من قبيل الاكتشاف القول إن فكر الفيلسوف الايطالي الماركسي (أنطونيو غرامشي) استدعى، منذ لحظة صدوره وحتى كتابة هذه السطور، الكثير من النقاشات وأثار العديد من الجدالات التي لم تكن تخلو من مظاهر التعصب أو التطرف في بعض الأحيان، ليس فقط على صعيد الواقعين المحلي/ الايطالي والإقليمي/ الأوروبي فحسب، وإنما على مستوى العالم بشرقه وبغربه بشماله وجنوبه كذلك. ذلك ان مضامين ذلك الفكر تجرؤ - وللمرة الأولى - على زحزحة التصورات وخلخلة اليقينيات وفككت المفاهيم، لأشهر منظومة فكرية وفلسفية ألا وهي (الماركسية). ولهذا فقد وصف الفيلسوف الايطالي (كروتشة) أن غرامشي هو من "أعظم مفكري أوروبا في هذا الوقت".
والحال ليست فقط تلك (الجرأة) العقلية و(المقدرة) المعرفية التي تمتع بها غرامشي، هي ما أسبغ على أفكاره وطروحاته المستحدثة في حينها ذلك الصيت من الشهرة وذاك المدى من الانتشار فحسب. وإنما لكونها صدرت من داخل تلك المنظومة التي ظن أنها محكمة الصياغة ومتينة البنيان ليس ميسوراً لأي كان نقد مقولاتها أو التشكيك في استنتاجاتها، فضلاً عن أن من قام بهذه البادرة/ المغامرة هو أحد أبرز قادتها السياسيين وألمع منظريها الإيديولوجيين كذلك. وهو الأمر الذي خلق له (غرامشي) الكثير من الخصوم والمناوئين سواء من داخل الحركة الشيوعية أم من خارجها، من دون أن يحظى بقدر مماثل من المساندين لطروحاته والمؤيدين لتوجهاته، بحيث تسببت له تلك الأنشطة الخطرة والمواقف المتطرفة بالعديد من المشاكل السياسية المتراكمة والمعاناة النفسية المتفاقمة، والتي لم يبرأ من عواقبها أو ينجُ من تداعياتها حتى لحظة وفاته في سجون الفاشية الايطالية.
ولعل من أبرزتلك الابتكارات المفاهيمية، والاستنباطات الابستمولوجية، والتحليلات السوسيولوجية التي اجترحها غرامشي، يمكن عدّ مفاهيم (المثقف العضوي) ونظيره (المثقف التقليدي) أكثرها شهرة في مجال الايديولوجيا وأشدها جاذبية في مجال السوسيولوجيا، نظراً لكونها سمحت للعوامل الجغرافية والثقافية والنفسية أن تكون موازية في الاهمية، مقارنة بدور العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في تشكيل البنى وتكوين الظواهر. ولكن بقدر ما أفضت تلك المفاهيم إلى تعميق معارفنا وتوسيع مداركنا لجدليات وديناميات تلك البنى والظواهر، بقدر ما تسببت في ارتكابنا العديد من الإخفاقات ليس فقط في تحديد ماهية (المثقف) فحسب، وإنما في التباس دور ووظيفة هذا الأخير وفقاً لأنماط تصنيفه بين (العضوية) و(التقليدية) كذلك.
وبما أن المثقفين العضويين - كما لاحظ الباحث المتخصص في حياة غرامشي وأعماله (جون كاميت): "الذين هم جزء من طبقة مسيطرة، يقدمون الأشخاص اللازمين لأجهزة الإكراه في المجتمع السياسي"، فان ذلك كفيل بتغيير دورهم واستبدال وظيفتهم ونزع صفتهم (العضوية) وترشيحهم، ومن ثم لاكتساب صفة (التقليدية). أي بمعنى أن المثقف (العضوي) حين يقوم بدوره (الطبقي) ويمارس وظيفته (الإيديولوجية)، سيكون مضطراً إلى مراعاة مصالح الجماعة التي ينتمي إليها ويمثل توجهاتها ويحمل رسالتها، بصرف النظر عن طبيعة الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تبشر بها تلك الجماعة، حتى ولو كان هذا الموقف (الدفاعي) لا يمثل أو لا ينسجم مع مصالح الجماعات الأخرى في المجتمع.
ولأن دور المثقف (العضوي) - كما تنص أطروحة غرامشي - ينصب على تمثيل مصالح الجماعة (المسيطرة) سياسياً والمهيمنة (إيديولوجياً)، الأمر الذي يترتب عليه استنفار طاقاته المادية وتعبئة قدراته الذهنية، ليس فقط لتبرير مواقف جماعته وتسويغ تصوراتها وشرعنة سياساتها فحسب، وإنما للحيلولة دون حصول تغييرات بنيوية تمس موقعها الاجتماعي، وتهدد مصالحها الاقتصادية، وتعرض دورها التاريخي للخطر. من هنا تشرع بدايات انسلاخه عن (عضويته) وتمظهر استحالته إلى مثقف (تقليدي)، من حيث كونه أصبح مدافعاً عن ثبات الأوضاع الاجتماعية واستقرار النظام السياسي وداعية للهيمنة الإيديولوجية.
والمفارقة إن هذا التحول/الانقلاب (الكيفي) في الدور والوظيفة، لا يشترط بالمثقف (العضوي) أن يكون (واعياً) به أو مخططاً له، وإنما يحدث تلقائياً، لاسيما وان الصلة أو العلاقة ما بين المثقف (العضوي) ونظيره (التقليدي) لم تنقطع تماماً كما أكد على ذلك غرامشي، ولهذا فإن صفة (العضوية) تحتم على المثقف الأول أن يكون مدافعاً عن مختلف الممارسات (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) والسعي لاستمالة بقايا المثقفين (التقليديين) الذين يسميهم غرامشي (حطام الطبقات) المهزومة تاريخيا.
(2)
الدور العضوي للمثقف التقليدي
لا بد من السؤال: إن كان بالإمكان حيازة المثقف (التقليدي) لدور المثقف (العضوي)، ومن ثم قدرته على انتزاع وظيفته والفوز بصفة (العضوية)، وها نحن نقدم – في هذا الموضوع - الإجابة التي نأمل أن تكون منطقية ومقنعة. والحال غالباً ما حظي شخص المثقف (التقليدي) بالازدراء والاستخفاف من لدن الغالبية العظمى من الصحفيين والكتاب والباحثين المهتمين بالشؤون الفكرية والثقافية؛ ليس من منطلق إدراكهم طبيعة هذه الشخصية المركبة واستيعابهم لما تشتمل عليه من سمات وصفات، وإنما من باب ما تحمله صفة (التقليدية) الموشوم بها من إيحاءات مستكرهة وانطباعات مستهجنة، جرى استبطانها واجتيافها نتيجة الجاذبية القوية التي تتمتع بها خاصيتا (النمطية الذهنية) و(النسقية الثقافية).
ولهذا نلاحظ أن معظم أشكال (التبشيع) و(التشنيع) المساقة – حقاً أو باطلاً - ضد هذا النمط من الفاعلين الثقافيين، صادر من عناصر هي بالأساس مبتلاة - دون أن تعي ذلك - بالخصائص (التقليدية) و(النسقية) الموروثة، لا في وعيها الذاتي وتصوراتها الجمعية فحسب، وإنما في سلوكها اليومي وعلاقاتها المعاشة كذلك. ولذلك فهي حين تصدر أحكامها المتسرعة وتصوغ مقولاتها المبتسرة ضد ما تعده مخلفات ورواسب (تقليدية)، لا تنطلق مما يقع خلف المظاهر من علاقات وسيرورات وما تحت السطوح من ديناميات وصراعات، وإنما من منطلق مسبقات تصورية ومسلمات عرفية جرى حفظها في اللاوعي وأرشفتها في الذاكرة. ولهذا يكفي أن يوسم مثقف ما بـ(التقليدية) حتى تتداعى الذهن جملة من الصفات السلبية والخصائص المنبوذة، التي من شأنها الحط من قيمته المعرفية والنيل من اعتباره الرمزي.
والآن، ما الذي يرشح المثقف (التقليدي) للقيام بدور المثقف (العضوي)، ويسمح له، من ثم، بممارسة وظيفته النوعية، وهو الذي يوصف بتقاطع مواقفه السياسية وقيمه الثقافية وتوجهاته الإيديولوجية، مع اتجاهات وسيرورات التطور التاريخي والحضاري للمجتمع؟! الحقيقة أن تفسير هذه الظاهرة يعتمد على رؤية أن المثقف (التقليدي)، هو - بالدرجة الأولى - كائن إنساني يعيش في كنف بيئة اجتماعية لها تاريخ وثقافة ودين وهوية ينفعل بها ويتفاعل معها، والتي غالبا "ما يكون إيقاع التغييرات في بناها والتحولات في أنساقها بطيئا "تحتاج معه إلى آماد زمنية متطاولة، وهو الأمر الذي يجعل الجماعات المقصودة تبدي حرصا "أكبر إزاء مواريثها القديمة وممانعة أشدّ حيال ثقافاتها الأصولية. من هنا يبدو المثقف (التقليدي) يتمتع برصيد اجتماعي أغنى من نظيره (العضوي) لدى تلك الجماعات، كونه بمثابة الحارس المؤتمن على حماية تلك المواريث والثقافات من عوارض التغيير والتطوير. ولهذا فقد عبّر بدقة المتخصص بحياة غرامشي وأعماله (جون كاميت) عن هذه الحالة قائلاً: "المثقفون التقليديون، والذين لهم أهميتهم في المجتمع المدني، فيبدون أكثر ميلاً للتفاهم مع الجماهير وللحصول على الموافقة (العفوية) على النظام الاجتماعي".
ولعل حصول المثقف (التقليدي) على هذا الامتياز السوسيولوجي والتفوق الإيديولوجي، متأت من امتلاكه أدوات (الهيمنة) السيكولوجية، فضلاً عن قدرته على ممارسة فرضها على تلك الجماعات التي تشاطره مواقفه وقناعاته بطريقة ناعمة. لذلك يستخلص (كاميت) حصيلة مهمة جداً مفادها "إن حصول المثقف (التقليدي) على قبول دوره (العضوي) في المجتمع، طالما انه يحقق هدف (الهيمنة) على المكونات الاجتماعية، عبر أساليب القوة (الناعمة) بدلاً من أساليب القوة (الخشنة). لا بل انه وبحكم باعه الطويل في مجال الأساليب الناجعة لتحقيق (الهيمنة)، حينما كان في السابق يحتل ويمثل دور المثقف (العضوي) يمنحه الأفضلية، ليس فقط في مجال الاستحواذ على اهتمام الجماعات التي أشرنا إليها وينال رضاها فحسب، وإنما في مجال التأثير على نظيره المثقف (العضوي) ومنافسته إياه في مضمار استمالة الفئات والشرائح المعدومة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً صوب الآراء والأفكار التي يروجها ويدعو لها، فضلاً عن استدرار تعاطفها باتجاه القضايا والمسائل التي يتبناها ويدافع عنها، وبالتالي حيازة القدرة على التحكم بتصوراتها الإيديولوجية وتوجهاتها السياسية. ولهذا فقد لاحظ بحق بعض الباحثين أن "تأثير شريحة ثقافية ما على الشريحة العضوية السائدة ليس مباشراً، ولكن قوة إيديولوجيتها وقدرتها على تنظيم البروليتاريا ذات نتائج حاسمة على حركة الأفكار العامة باعتبار أن المثقفين السائدين لم يعودوا يحكمون بدون شريك منذ تلك اللحظة".
وعلى هذا الأساس يمكننا تفسير ظاهرة تفوق المثقفين (التقليديين) في المجتمعات المتخلفة على نظرائهم المثقفين (العضويين)، في مضمار تحقيق (الهيمنة) الإيديولوجية و(التحكم) السيكولوجي على شرائح واسعة من تلك المجتمعات، وبالتالي نجد صعوبة بالغة في انحسار دورهم الاجتماعي، وتلاشي تأثيرهم الإيديولوجي، وتقليص شأنهم السياسي.
قد نختلف مع ما ذهب اليه الاستاذ ثامر عباس في تحليله بعض طروحات غرامشي بشأن المثقف العضوي وانه (لا يشترط ان يكون واعياً) ذلك ان الوعي هو الذي يحدد المواقف والرؤى كما ان (المثقف التقليدي) لا يمكن ان يتحول الى مثقف عضوي بسبب جموده وتخلفه وعدم مواكبة حركة التطور على عكس ما اورده الكاتب.. لكننا ننشر المقال ايماناً منا بحرية الكتابة واثارة للجدل والنقاش عند قرائنا...محرر ( أدب وفن)