
في كل سطر بل في كل جملة يُصدم القارئ بفاجعة تنكأ جراح تفاصيل حياة حروب مريرة عشناها ونجونا منها بأعجوبة. سرد مذهل لأحداث أراد البيضاني جعلها وثيقة تاريخية أدبية لمن عاشها ولمن لم يعشها من الأجيال الحديثة وقد اشتبكت عليها الكوارث وتكررت المآسي بألوان وصيغ دموية مختلفة.
يروي البيضاني في ليلة واحدة مجريات تفصيلات انسحاب العراق من الكويت وتعرض قواته وجنوده لقصف مسعور من قبل قوات التحالف عام 1991، مستعيدا في الوقت نفسه أحداث الحرب العراقية الإيرانية، مستندا على شهادة حقيقية وتجربة شخصية كونه كان جنديا مكلفا في الحربين.
في تلك الليلة يصل جندي الحرب لبيته مصابا بجرح بليغ في ساقه، وسرعان ما يشرع بسرد دقيق مدهش وبما يشبه الهذيان لزوجته عبر مشاهد سيناريو محكم وقائع خيبة انكسار ذلك الانسحاب المذل وكيفية الهروب من محرقة الموت وما واجهه من لحظات عصيبة لفواجع القصف واستشهاد الرفاق وتدمير السلاح والأبنية، ومن ثم إصابته بشظية في ساقه وبقاؤه متخفيا في أوحال حفرة طينية تحت وابل الرصاص والمطر الغزير أثناء محاولته عبور جسر الزبير في ليلة كاملة بدت بلا نهاية بانتظار من يسعفه.
حصر البيضاني أحداث روايته بليلة واحدة هي مدة بقائه على قيد الحياة على الرغم من جرحه النازف، وليلة وصوله إلى بيته وسرده تلك التفاصيل للزوجة في مشاهد من الحميمية والرغبة والتوتر والخوف، أمام طفله بعدما كان يحسبهما قد قضيا نتيجة القصف المكثف على المدن العراقية أجمع. (هو وحده الآن من يستطيع أن يعيد لحركة أعصابها اتساقها .. آه لو نهض الآن ليقبل طفله أمامها، يضمه إليه، يعيد وصل آمالها المتقطعة، الطفل لم يبك منذ ساعتين! ماذا دهاه؟ لو بكى الآن لربما حسم الكثير من الأوهام التي خلفتها الحرب في ذهنيهما.. ستعرف حقيقة مشاعر أبوته). ص30
يبين البطل وحشية القصف في مواجهة لعبة الموت والحياة والصراع من أجل البقاء في تفصيلات دامية للجرحى وللجثث الطافية على سطوح الأنهر، وبشاعة فرق الإعدام، وآلام الأحلام المهشمة وأمنيات الرماد.
ويصدم القارئ في الوقت نفسه بأحداث عرضية مريبة بدت من اللامعقول في زمن خائب مثل حدث حظيرة الأغنام والبحث عن التمر الزهدي لإسكات قرصات الجوع والذي يكتشف بعد حين بأنه لم يكن سوى كتل من "بعر" الأغنام المخلوط بالبول وبحبات من التمر الزهدي. ص 50
وبسخرية مريرة على الرغم من شراسة مطحنة الحرب لم يفته أيضا نقل صور أحداث شخوص مرحة رطبت الأجواء، فها هو الفتى عودة رغم تجاوزه سن العشرين بثلاث سنوات "يغدق على الآخرين بمحبته وخفة دمه وما يحصل عليه من تبغ وشاي" واصفا اياها بـ"عودة الشيوعي لكن بدون أيدلوجية ماركسية" تقترن طيبته بسخرية عفوية وحلمه عند سماع اقتراب صوت الطائرات "ليكن ما يكن .. ربما تسقط مجندة أمريكية تدفئني هذه الليلة.. خذوا تعييني من الطعام وقلصوا إجازاتي، واحرموني من الشاي والتبغ.. فقط امنحوني مجندة أمريكية".. ص 25 ، أو حين يتخيل عوده ميتته الدولية بفعل قوات التحالف حين يذكر "لا يهمني موتي وإنما حيرة أهلي بلعن من قتلني.. سيبذلون المستحيل من دون أن يعرفوا ذلك.. الفرنسيون سيقطعون أذرعي بـ"الجكوار"، والبريطانيون سيبترون أقدامي بـ"لتورنادو"، والأمريكان سيقطعون راسي بـ"الشبح"، والسنغاليون يطعنون ظهري بالرماح الأفريقية، والسعوديون يمزقون قلبي بالخناجر، والتايلنديون والفلبينيون سيصنعون من وجهي أقنعة لاحتفالاتهم. أما اليابانيون فعليهم صناعة التابوت.. تصوروا عودة في تابوت ياباني بعد أن حرم في حياته من ركب السيارة اليابانية.. تابوت تويوتا أو مسيوبوتشي". ص 27
تحاصره مخاوف قلقه على عائلته على وجه أقسى مما هو عليه، تسأله زوجته "هل خفت من الموت؟" يجيبها بتلقائية "كلا أخاف عليكما". يشرح بتفصيلات ما الذي حل بالعوائل العراقية أثناء الهجوم، تركهم لبيوتهم، تفريغ خزين المجمدات والثلاجات بفعل انقطاع التيار الكهربائي، وقوله بسخرية وبتشاؤم كبيرين "يبدو إنها الشبعة الأخيرة التي قدمتها لنا الحرب قبل أن تمد أسياخ الجوع في بطوننا" ص 29.
يلخص الكاتب رأيه بالحرب عن طريق تساؤل بطل روايته عمن يتحمل مسؤولية معاناته ومعاناة كل من واجه مرارة وكوارث الحرب راسما وجهة نظر بجرأة لم يستطع الإفصاح عنها لحظة وقت كتابة الرواية في زمن الدكتاتورية، وسعيه لإخفاها وعدم نشرها حتى وقت قصير، إذ يذكر، (ماذا لو حدثته نفسه بالهرب قبل أن تبدأ الحرب.. ثمة من يتحمل ذلك ويجعله شرفا له ولعائلته.. الجنرالات المقامرون القادمون من أعماق القرى والصحارى.. المثقلون بالأوسمة والنياشين هم من يصنع أخطاء الحرب، تقودهم إلى ذلك عزتهم الفارغة ومجدهم الذي يأملون ببنائه، وشهوة احتلال صفحات التاريخ ليزاحموا صناع ملاحم الدم ومآسي البشرية التي يسمونها انتصارات خالدة.. تخلد بقدر ما تسفك من دماء وتخرب من مدن.. الحرب ليست بطولة..) ص 194، وبذا فإن هذه الرواية رواية حرب بامتياز قلّ نظيرها تذكرنا بأمجاد روايات الحرب العالمية مثل للحب وقت وللموت وقت لأريك ريماك، بسردها الأدبي الحاذق لحالات متواترة مشحونة بالحب والاشتياق واليأس والخوف وتدرج الأمل بين الموت والحياة، وتعدها عن مشاهد حقيقية لتجربة شخصية مريرة.
منى سعيد: كاتبة ومترجمة