
لم أعرف أبداً، أن الموت فرصة سعيدة .. لكنه موتك أيها الولد الفتان!
كانت مصادفة تائهة، مصنوعة بعناية فائقة، عندما خطفت أمامي مثل شهاب سماوي، واستلتك عيناي من فوضى اكتظاظ تقاطع (مول النخيل) ووضعتك في قيامة احتدام الذاكرة ونبض القلب.
كنت قد اجتزت التقاطع المزدحم بـ(التكاتك) والدراجات النارية والشاحنات الصغيرة، المملوءة بشباب من مختلف الاعمار، يحملون اعلاما عراقية وحسينية ويافطات قديمة تشير الى اسماء مواكب عاشورائية، كانوا يهتفون ويهزجون على نحو يناغم مجاميع من الشباب والرجال يتدفقون من شرق القناة عبر جسورها شبه المغلقة.
بقيت أصوات مسجلات الصوت و(المونتاربو) المحمولة في الشاحنات الصغيرة تلاحقني وتزيد من ضجري بالرغم من خلو الشارع في المسافة التي تلي التقاطع، وهذا ما جعلني اضغط على دواسة البنزين بقوة كي اصل بيتي مبكرا، فالأمور تنذر بالفوضى!
صورتك كانت تطفو على ضجري، وتملأ زجاجة السيارة الامامية، لا بل تملأ الشارع كله، كأنك تقودني انا والسيارة بطاقة عجيبة، اهزوجتك الوحيدة كانت تصلني صافية من بين كل هذا الضجيج وتزيح ضجري، وتمنحني استرخاء يشدني إليك وانت تهزج بين (فرضة) و(شعيرة) بندقية القناص (هاي الكاع وما نطيها عشر سنين نحارب بيها)، تدبك على سبطانة البندقية الطويلة، فتتناثر قذلتك على وجهك وأعلى رأسك مثل رقصة الاستسقاء السومرية، حركة شعرك تزيد سمرة وجهك الممتلئ بهاءً فتنفرج شفتاك عن اسنان بيضاء عريضة اقرب ما تكون الى الشكل المربع، تشبه تماما اسنان أبيك، وكنا حينذاك ننابزه فنلقبه لبياض اسنانه وعرضها (ابو كاشية) ... ياسبحان الله، حتى حلاقة شعرك كانت تشبه قصة شعره.. تشبه حلاقتنا التي كنا نسميها (حواف) في ذلك الوقت، ولا اعرف ماذا تسمونها انتم يا (أهل القذل) الجديدة.. أنا ايضا اشبهه - أقصد أبيك، ربما كنا نتشابه بسبب تشابه موديل حلاقتنا، فعندما كنا نختل في احراش الجت في معاركنا الصبيانية مع اهل منطقة (الجديده)، كانوا ينادونا باللقب نفسه (ابو حواف).
في تلك (المعارك) كنت أحميه ويحميني، ويزود بعضنا الآخر بالحصى اذا نفد عند صاحبه، ومنذ تلك المعارك أو الشجارات لم نفترق .. يالها من معارك لا تغادر الذاكرة التي شاخت وغادرتها اشياء كثيرة.. معارك صبيان (الشاكرية) وصبيان (الجديدة)، ميدانها (الجتّه)، مزرعة الجيت التي تفصل بين المنطقتين، نصطاد فيها العصافير والزرازير ونلتقط التوت من تحت أشجارها الضخمة. عندما كنا نزيح صبيان (الجديده) عن الجتّه كان أبوك أعلانا صوتا حين يهزج (هاي الكاع وما نطيها عشر سنين نحارب بيها).
ياااااه.. أية مصادفة هذه ياولد يافتان ؟!.. انت الآن أيضا تريد أن تعبر جسر الجمهورية الى (الجتّه) التي تتقاسم مكانها الآن مباني مجلس النواب ومجلس الوزراء والسفارة البريطانية!.. أنت وصحبك تريدون الآن الوصول الى المكان ذاته.. ويا لعجب المصادفة! .. مثلنا تقاتلون بالحصى و(المصاييد)، وكأن الدنيا لم تتحرك قيد أنملة، ولا كأن نصف قرن من الزمان قد فات!!..
ما هذه المصادفات التي تسحبك إليّ وتدخلك في كل جوارحي وأنا الذي اريد ان تغادرني، ياولد.. يافتان.. ارجوك غادرني .. أنا تعبان، تعبااان جدا.. ورقصك بين (فرضة) و(شعيرة) بندقية القناص يزيدني تعباً!. انا محاصر بك وبدخان الاطارات التي تُحرق شرق القناة.. دخان يتصاعد ببطء واحيانا يتصاعد بحركة زئبقية تكشف عن وجه جدك وهو يلوّح بيشماغه (كل حي بالدنيا عليه موته)، كأنه يوبخني على قلقلي عليك!...
*****
لا أتذكر أن جدك قد وضع العقال واليشماغ على رأسه يوما، الجميع يتذكر (أبو إنجيلا المكوجي) – وهذا أسمه الذي لا تعرفه أنت ولم يسمح الزمن لأبيك ان يحدثك عنه – الأفندي بطوله الفارع، وجسده المليان، أو بدشداشته (التوبايتي) بألوانها المعروفة؛ السمائي، والشكري، والوردي، والأبيض، فمن أين له هذا اليشماغ الذي يلوّح به وسط الدخان؟!
كنت مبهورا به، ولا امل من النظر في وجهه، والاستماع الى احاديثه الساخرة ومعلوماته العجيبة عن كل شيء، كان ضجرا ومستاء من كل شيء؛ من السياسة والفن والمجتمع والرياضة ولا يعجبه العجب!، ويعبر عن ضجره بسخريه الحكواتي الماهر، كان يعاملني مثل الكبار، فقد كنت اقضي اغلب الاماسي بعد عودتي من المدرسة في دكانه، أستمتع بمراقبته وهو يكوي الملابس بمكواة الفحم الحديدي الذي بقي يستعمله حتى بعد جلبه المكواة الكهربائية، كنت ايضا مبهورا بالدكان كله، فقد غلفه من الداخل بأغلفة مجلات ملونة، وصور مقتطعة من صحف ومجلات لممثلين عالميين وعرب وسياسيين، وثمة ثلاث صور مؤطرة بالزجاج أكبرها صورة (إنجيلا ديفيز) التي تتوسط صورتي (جيفارا) و(هوشي منه)، وبعد إعدام جدك وغلق دكانه اختارت جدتك من بين جميع الصور، صورة (إنجيلا ديفيز) لتحتفظ بها حتى وفاتها، وقد عرفنا هذا لاحقا، عندما اكتشفنا بعد وفاتها انها تخفيها بصورة رئيس الجمهورية المعلقة في طارمة الحوش عند مدخل البيت، خشية ان يراها كتبة التقارير والوشاة.
طبعا، جدتك المرأة القروية لا تعرف شيئا عن (إنجيلا ديفيز)، لكنها فعلت ذلك وفاءً لجدك الذي كان يصر على تسمية عمتك الوحيدة بـ(إنجيلا)، قبل ان يجبره اخوته على تسميتها (تحرير) خشية ان تكون سببا واضحا لشبهتم السياسية.
الحمد لله أنك خطفت أمامي في تقاطع (مول النخيل) ولم أكلمك أو تكلمني، ولم تجلس معي أو أجلس معك، وإلا لكنت ملزما بالحديث عن جدك الذي لم يسمح الزمان لأبيك أن يحدثك عنه، وعن ابيك الذي لم تره !.. كيف كنت سأبدأ معك الحديث ، وأي مناسبة سأبتدعها كي أحدثك عن جدك وصورته تترجرج في ذاكرتي مثل السراب في يوم قائظ؟!..
هو سراب الطفولة، أو ذاكرة الطفولة، في عمقها تلوح أول صورة لجدك (لعيبي) التي لا تشبه صوره اللاحقة أبدا؛ كنت طفلا غارقا بالحزن والغضب مثل بقية الناس على مقتل الزعيم عبد الكريم قاسم، عندما جاءت مجموعة من الشرطة والحرس القومي يفتشون البيوت بحثا عن السلاح وانصار الزعيم في وقت مبكر من الصباح الشباطي البارد، كان أبي مازال نائما في غرفتنا الوحيدة عندما تقدم جدك المجموعة بخطى عريضة، صاحت امي بذهول: لعيبي !. عض شفتيه اشارة الى ان تصمت. أستيقظ ابي على صوت أمي التي دخلت عليه مسرعة، وهب واقفا على سريره بعد أن سحب مسدسه من تحت وسادته، ودسه بسرعة خاطفة بين طبقات الكارتون التي تغلف جذوع النخيل التي تسند سقف الغرفة الطيني، وهبط جالسا على فراشه قبل لحظات من اندفاع مفتشي الحرس القومي الى الغرفة. عندما أطمأن جدك الى اخفاء ابي لمسدسه، سحبني الى خارج الغرفة لكي لا يستدرجني الحرس بالأسئلة كما اعتادوا مع الاطفال. أنقدتُ اليه بسرعة، فقد كان جدك اكثرهم مهابة بملابس الشرطة الخضراء وأزارها الفضية اللامعة وحزامه الجلدي العريض الذي يشد جسده الممتلئ، مددت يدي لأعبث بأزرار بدلته الفضية، فأزاحها بالصونده السوداء الصلبة التي كان يلوح بها، ومن ثم جلس يداعبني برفق ويسألني عن اسمي. منذ تلك اللحظة أحببته، كانت هيئته تشبه هيئة الجنرالات الأجانب، تزين ذراعه رتبة عبارة عن شريطين أسودين مزدوجين على شكل رقم (7) وفي وسطهما نجمة الشرطة الفضية، لاحقا عرفت ان هذين الشريطين هما رتبة نائب عريف شرطة. أحببته حتى بعد أن تداول الاطفال أن (لعيبي) جاء مع الحرس القومي بحثا عن جماعة الزعيم لشنقهم بالصوندة السوداء التي يلوّح بها!، وبقيت الى زمن طويل أتخيل ان عملية الشنق تتم بالصوندات السوداء الصلبة، لكن بعدها سمعت من أهلي ان لعيبي قد سُجن، وربما سيشنق وبكى الجيران عليه، لكن بعد أشهر طويلة خرج من السجن وطرد من سلك الشرطة.
اصطحبني أبي وأمي معهما، عندما زيارتهما بيت جدك بعد خروجه من السجن، وفوجئت ان أباك رفيقي في معارك (الجتّه) هو ابن لعيبي، وكان الجميع يضحك عندما يروي جدك لهم بطريقة كوميدية تفاصيل تلك اللحظة التي فتش بها الحرس القومي بيتنا، وكيف أنني كدت افشي السر للحرس القومي، ومن يومها صرت اقضي معظم وقتي في بيتكم حتى بعدما تحولنا الى مدينة الثورة، ودخلنا المدرسة معا. كانت ثمة اشياء كثيرة لا أستطيع أدراكها جعلت جدك قريبا من نفسي، ولا أستطيع ان أحيلها الى حرصه الدائم على جلبه لي مجلة (المجلة) الالمانية التي كانت تبهرني بصورها وألوانها وطباعتها التي تختلف عن طباعة المجلات الأخرى، وهو أول من علمني الفرق بين المانيا الديمقراطية والمانيا الغربية، وهو الذي أقنعني ان شمعة واحدة يمكن ان تضيء العالم كله بعد ان كنت أضحك عند سماعها..
كان لجدك مزاج غريب لكنه محبب، يجمع بين المرح والعصبية، وبين اليأس والأمل، وقبل ان يغيبه السجن المفاجئ الى الأبد، بأيام قليلة، سمعته ينهر جدتك بصوت غاضب مليء باليأس وهو يختم جدله معها بقوله (كل حي بالدنيا عليه موته).
*****
يبدو شارع السعدون من جهة ساحة الفردوس هادئا جدا، حركة السيارات القليلة جيئة وذهابا لا تشي بأنه مغلق، ثمة سيارتان للشرطة تكادان تتلاشيان بالعتمة لولا أنهما تمدان بوزيهما الى منتصف الشارع من جهتين متقابلتين، المحلات القليلة المفتوحة تقطع أوصال عتمة الرصيف لكنها مع ذلك تؤشر وجود أمر غير طبيعي. خففت سرعة سيارتي لأتفحص هذه المحلات؛ محلات بيع المشروبات الروحية مفتوحة جميعها تقريبا، لكن لا توجد تجمعات للزبائن امامها كالعادة، باستثناء محل واحد يقف أمامه صبي أشعث الشعر يدلق في فمه البيرة من علبة (هنيكن) معدنية خضراء اللون. هذا المنظر بعث في داخلي الطمأنينة بان لا شيء يستوجب الحذر، غير أن طمأنينتي لم تستقر بعد ان إنتبهت الى عدم وجود باعة اللبلبي والباقلاء امام هذه المحلات، فقد كانت من علامات حيوية الحركة وتثير الشهية باضوائها التي تنعكس على قناني الليمون الاصفر والفلفل الأحمر المصفوف بعناية على حافات العربات.
توقفت قليلا في الجهة المقابلة لمكاتب الخطوط الجوية، حيث جذبتني ضحكة ماجنة لفتاة كانت تتبادل الحديث بصوت يصطنع المرح مع مجموعة شباب يتجمعون امام باب الملهى الذي احتل مكان سينما كانت معروفة في هذا الشارع. كانت ثمة اعلانات وصور لمطربين وراقصات لا اعرفهم ولم اسمع بهم، تعلو باب الملهى وتحيط به على لوحات نيون ضوئية، قصات شعرهم المنفوشة او المصفوفة بتكلف، الا أن أغلب هؤلاء من مطربي المطاعم الليلة والملاهي الذين لم استسغ الاستماع اليهم، لكني اليوم عندما شاهدت صورهم شعرت أن وجودهم دليل على استمرار الحياة.
استدرت الى ساحة النصر وهي المنطقة الاخيرة لسير السيارات قبل الوصول الى ساحة التحرير، فقد أُغلق المنفذ الشمالي لها المؤدي الى ساحة التحرير بالكتل الكونكريتية، مع بقاء منافذ للمشاة محروسة برجال الشرطة. قبل أن أوقف سيارتي في الشارع الخدمي لساحة النصر، اوقفني شاب كان يركض هلعا عاري الصدر، مسح وجهه بقميصه الذي كان يلفه على خصره وسألني:
- هل توجد صيدلية تبيع كمامات؟
أشرت له على مكان الصيدليات. سؤاله أشعرتي أنني اتنفس هواءً ليس نقيا، نزلت من سيارتي وصحت خلفه فيما اذا كان يحتاج الى نقود، أومأ لي بالنفي وتركني راكضا باتجاه الصيدليات.
الحركة خلف الكتل الكونكريتية بعثت بداخلي الحماس للإسراع بدخول ساحة التحرير. كان ثمة رجال شرطة بلا اسلحة يقفون عند الفتحات بين الكتل يبدو عليهم الضجر، وبعضهم يستريحون على الأرصفة القريبة وكأنهم غير مبالين بما يحدث. استبدت بي رغبة عارمة للوصول الى الساحة والبحث عنه، استعدتُ صورته وهو يخطف من تقاطع (مول النخيل)، انمزجت صورته مع صورة أبيه؛ القذلة ذاتها تطير في الهواء مثل عرف حصان جامح.. الحركة نفسها سواء أكانت على التكتك الخاطف بسرعة أو عند التحلق عاليا لاستقبال الكرة بالرأس قبل إيداعها الهدف!.. بحثت عن وجهه بين المتظاهرين الذين بدأوا يظهرون لي قبل مدخل نفق التحرير بأمتار، تصاعدت انفاسي قلقا؛ لعله من بين العائدين من الساحة أو الذاهبين إليها، عتمة الليل لا تسمح لي بفحص الوجوه، حتى تسريحات الشعر لا أكاد أراها بوضوح، خاصة ان بعضهم يعصب رأسه بالعلم العراقي أو براية حسينية. يجب ان أراه الآن! أمسكه من قذلته وأهزه بقوة قبل ان أقبله.. استغرقت بتخيل صورته وأنا أبحث عنه بين الوجوه، أيقظني صوت شاب عشريني:
- حجي.. كمام .. بلا زحمة ألبسه ..لا تختنق..
ناولني كمام فستقي اللون، ناعم الملمس، وقبل أن اشده على وجهي ناولني شاب آخر قنينة ماء. شعرت أن المسافة بيني وبين ساحة التحرير طويلة جدا، ما جعلني متوترا، أتجاهل بجفاء كلمات بقية الشبان الذين كانوا يقدمون البسكويت وعلب العصير بتهذيب وتوسل. كنت أتوقع انه كلما تقدمت خطوة سأجد المكان أكثر اضاءة، لكن عندما خطوت الى جانب سياج نفق التحرير، وجدت ان جميع الاضواء تبدو شاحبة، ويبدو ثمة صراع مرير بين الاضواء الساقطة من مصابيح الأعمدة والظلمة، السحب الدخانية العالقة توقف أشعة الضوء وتمتص بريقها وتجعل كل شيء شاحبا، غير انها لا تقوى على مقاومة البريق الخارج من عيون الشبان ويبعث في داخل النفوس ضوءا من نوع آخر. دوت أصوات إنفجارات مكتومة، لم يفزع منها أحد من الشباب الجالسين على الأرصفة أو المتأرجحين على سياج النفق، وهم يواصلون أحاديثهم أو تصفح هواتفهم، كأنهم في عالم آخر.
اين أجدك في هذه الفوضى ايها الولد الفتان؟.. انفلقت قنبلة أخرى في الظلمة تمكنت من رؤيتها هذه المرة، تتمطى فوق الساحة، وخلفها يتلوى شريط من الدخان الأبيض يشبه ذيل طائرة ورقية انقطع خيطها – هكذا علمني أبوك عندما كنا نلعب الطائرات الورقية على اسطح بيوتنا. تدافعت الكتل البشرية التي تملأ الساحة ووصل انزياحها الى شارع السعدون، تبعتها قنبلة ثانية وثالثة، تقاطعت الأشرطة الدخانية البيضاء فوقنا، كأن السماء دلقت أمعاءها فوقنا. تحركت مجاميع المتظاهرين باتجاهات تمكنهم من تفادي سقوط القنابل المسيلة للدموع عليهم، غُطيت الوجوه بالكمامات، والقمصان، والفانيلات التي كانوا يرتدونها، ارتفعت أصوات تدعو للثبات معززة بأهازيج حماسية وتطريبية وثورية غير موحد، بعضها من اغاني الحرب والبعض الآخر ردات حسينية، لكل مجموعة اهزوجتها او هوستها، لكنها تتحرك في المساحة نفسها تنظمها أصوات منبهات (التكاتك) التي كانت تجد طريقها سالكة بين هذه الحشود بطريقة عجيبة. إستغربتُ من ان الشباب الذين يستريحون على أرصفة الشارع وسياج مدخل النفق لم يتحركوا من أماكنهم، وكأن شيئا لم يحدث حولهم، أو أن الذي يحدث لا يعنيهم، فلم أسمع منهم شيئا سوى جمل اخبارية تناقلوها بينهم (ضربوا غاز)!
هزتني هذه اللامبالاة أكثر مما هزتني أصوات البشر الراكضين من جسر الجمهورية الى ساحة التحرير، فقد تيقنت تماما ان هذه اللامبالاة هي في حقيقتها أدوار يتقاسمها الشباب المحتجون تشبه تماما تقاسمنا للواجبات ايام خدمتنا العسكرية، فهؤلاء في الاستراحة وأولئك في الواجب!
الآن فهمت كل شيء، وعليّ أن ابدأ من هنا.. من نفق ساحة التحرير.. من الفتية الجالسين على سياج مدخل النفق ويأرجحون أرجلهم في الداخل او الى الخارج على الشارع الجانبي، هؤلاء أصغر عمرا من أولئك الذين يستريحون على الارصفة بأوضاع مختلفة، فقد خُيّل لي رؤية قذل بعضهم تهفهف مع الدخان، إذن أنت بينهم؟.. فرحت بهذا الاستنتاج الذي أعطاني أملا بالعثور عليك الآن.
من داخل النفق بدأت مهمتي، صوبت نظري الى الأعلى الى السياج الفاصل بين النفق وشطر شارع السعدون المتجه الى الساحة. يا إلهي أنكم تتشابهون مثل صف عصافير تحط على غصن أجرد في عتمة غابة!.. حتى ملابسكم تتشابه، سراويل رياضية أو بناطيل قصيرة فضفاضة وتيشرتات وفانيلات يوحد ألوانها مزيج الظلمة والدخان والأضواء الشاحبة التي منحت الليل لوناً غير مألوف، كما منحتني إحساسا ذكرني بالأجواء التي خلفها قصف القنابل العنقودية في المساحة المكتظة بالدبابات والآليات الهاربة من الكويت وصحراء البصرة، في تلك المساحة التي تضاء بالكاد بحرائق حقول نفط الشعيبة رأيت والدك آخر مرة، حيث لم أرَ منه سوى هفهفة قذلته واسنانه العريضة التي لمعت في الظلمة وهو يقول لي ضاحكا بسخرية: (ربما هذه نهايتنا.. قد لا نلتقي بعدها)، فقد كانت مساحة النيران أوسع من أن تترك لنا أملا بالنجاة، لذلك لم أستغرب عندما دون اسمه بعد انتهاء الحرب تحت عنوان (مفقود).. مفقود الى الأبد!. لم يتبق لي منه سوى هفهفة قذلته والتماعة اسنانه العريضة البيضاء، بقي يلوّح لي شعر قذلته اللين تماما مثل القذلة التي تلوّح لي الآن من فوق سياج مدخل النفق!
خرجت من النفق، استدرت الى شطر شارع السعدون الأيمن الموصل الى ساحة التحرير، حيث يرتفع السياج تدريجيا كلما تقدمت باتجاه الساحة، تفحصت الوجوه الجالسة على السياج في استراحتها، ما زالت تتشابه بالرغم من انني صرت اميز ألوان ملابسهم!، أذن كيف لي تشخيصه بين هؤلاء الذين يتشابهون مثل العصافير، بألوان وجوههم وملامحهم وحجومهم.. وحتى في سقسقاتهم ؟!... استعدتُ الصورة بهدوء وتركيز.. صورته التي علقت في ذهني وهو يخطف أمامي مثل شهاب عند تقاطع (مول النخيل)؛ الوجه الدائري المكتنز مثل فسقة عجين، كيف لي أن أميزه وجميع الوجوه يلصف عليها (البيبسي كولا) الذي اغتسلت به لمعالجة غاز القنابل الدخانية؟
أستعنت بتقديراتي للمسافة داخل النفق ومقارنتها أو إسقاطها على المسافة من الجهة المطلة على الشارع المحاذي للسياج.. هذا هو إذن؟.. هل أنت متأكد؟.. سألت نفسي. كل شيء في داخلي ضج أنه (هو). حاولت أن أجد سببا يبرر لي تصديق ضجيج دواخلي .. العمر يصعب تقديره.. شباب هذا الزمان يتشابهون على نحو عجيب!.. العتمة والدخان والضوء الكابي والبيبسي الناشف على الوجوه لا تمكنك من الركون الى أية تقديرات للعمر أو تشخيصات للملامح، لكن القذلة نفسها، تتدلى من عصبة منديل كشميري أحمر داكن، مشجر يشد أعلى الرأس مثل الشريط العريض.. هو والله!. هتف شيء في داخلي.. كانت قذلة والده تتدلى وتنتثر بالطريقة نفسها عندما يحاول شد البيرية على رأسه...
كان يعبث بهاتفه، ما اتاح لضوئه ان يظهر اكتناز وجهه مثل فسقة العجين، لم أتردد.. مسكت رمانة كتفه وقلت له مازحا:
- عيونك راحت من التليفون...
إلتفت لي مبتسما فبرق بياض أسنانه العريضة، وبشيء من الخفر أجابني:
- أهلا حجي.
هل كان مبتسما فعلا؟.. الأسنان العريضة البارقة بين شفتيه الفاترتين، هي نفسها تجعله يبدو مبتسما دائما في (الجتّه) وفي ملاعب كرة القدم، وفي المدرسة، وفي الجيش عندما يضيق علينا الموت خناقه في المعارك، حتى كنا نسميه (سامي أبو كشره).. هي الكشرة نفسها كأن الابن ورثها من والده بكامل شكلها وقياساتها، ضوء الهاتف يجعل خديه يلقيان ظلالا خفيفة على ملامح الوجه فتزيد اسنانه بريقا..
- شعرك مبلل.. أنزع المنديل عن رأسك لا تمرض..
- انه البيبسي ياحجي .. لولاه لمتنا من غاز القنابل..
مددت يدي لألمس شعره، وقبل ان المسه، سارع وسحب المنديل من رأسه، فاتضحت حافات شعره المحفوفة بماكنة الحلاقة..
- كنا في طفولتنا هكذا نحلق شعرنا.. مثلكم..
التفت لي مبتسما.. لم أدرك معنى ابتسامته، فقد غرقت بألوان شاشة هاتفه الذي مازال يمسكه قريبا من وجهه..
- بقصة شعرك هذه تشبه والدك كثيرا..
لم يبدِ أي رد فعل. لا أدري هل كان خجلا أو متجاهلا لكلامي .. ام دائخا من الغازات... ربما شعر الآن أنني متطفل عليه..
- كنا نسمي هذا النوع من القصات (زيان حواف)، وكان جدك يسميه (صجريه)...وأنتم تسمونه سبايكي..
ضحكت وكأنني ألقي له نكته، لكنه لم يضحك، واصل جموده باستثناء ابتسامة خفيفة تحمل معنى الاستخفاف والتجاهل، فعاد الى هاتفه يتصفحه..
تراجعت صفوف المتظاهرين من مقتربات الجسر بارتباك شديد على أصوات اطلاقات القنابل المسيلة للدموع مع اصوات محركات ومنبهات التكاتك .. كانت القذائف تتجه الى الحافات الخلفية لساحة التحرير، وبعضها سقط على مقتربات الجسر، انطلقت التكاتك مثل اسراب بط توشك على الطيران متجهة الى حواجز الجسر الكونكريتية التي تبدو اشد عتمة وضجيجا. سحب رجليه المتدليتين داخل النفق وقال بقلق:
- حجي اسحب الكمام على خشمك.
قالها وركض باتجاه الجسر.. تناثر شعره الى الخلف على نحو فتان، مثل فتنة شعر ابيه عندما كان يصعد الى الكرة ويأخذها برأسه في مبارياتنا الحماسية؛ يبدو جبينه عريضا باهرا، وعيناه أشد صفرة مثل العسل. هرولت الى جانبه محاولا اللحاق به وهو يتحاشى الاصطدام بجموع المتظاهرين والتكاتك التي كانت تنطلق بمختلف الاتجاهات.. قلت له بنبرة لاهثة:
- كنا نصفف شعرنا بالفازلين الأخضر المعطر.. وانتم الآن تصففون شعركم بالسبريه فيجعله واقفا مثل عرف الديك..
سحبت الكمام على أنفي وانا الهث محاولا اللحاق به، شعرت ان صوتي لم يعد مسموعا، أصوات الهتافات والأهازيج كانت تدفعني خلفه، تارة أكون الى جانبه، وتارة أخرى يسبقني، وعندما وصلت الى مقترب الجسر، لم اعد اراه، لكني كنت أتحسسه، أتحسس نبضه وانفاسه، وذؤابات شعره المتناثر التي تلامس وجهي وتنعش ذاكرتي، أنفاسي تضيق وثمة شيء يخترق مسامات وجهي مثل الدبابيس، شعرت انني أطفو على مستحلب من الدخان والظلام والضوء الشاحب من مصابيح أعمدة مقترب الجسر، واصلت الركض مادا يدي الى الأمام كي امسكه. في لحظة تعب شعرت أنني أركض على حزام ناقل، فالجميع يتقدم وأنا أرجع الى الوراء. تفرقعت إنفجارات قنابل دخانية كأنها فوق راسي، دخانها الأبيض المتمطي في الفضاء الأظلم يشير الى انها تتجه الى منتصف ساحة التحرير، تبدو بطيئة في هبوطها وهي تبحث عن راس تفلقه، تنادى الشبان بعضهم يحذر البعض الآخر، في حين ارتفعت أصوات تشد من عزم المتظاهرين وتدعوهم للثبات؛ (لا تركض.. لا ترجع..)، (رحمة لوالديك لا ترجع..)، (لا تخافون.. سباع.. ابقوا بمكانكم..) ازدادت حماسة هذه النداءات مع أصوات الأغاني والأناشيد واللطميات الحسينية المنطلقة من داخل التكاتك (المحلقة) بين الجموع وكأنها في مهرجان احتفالي، يزيده حماسة نداءات وأصوات الفتيات والصبيان الذين يقودون التكاتك بسرعة ومهارة عجيبتين، فهم يمرون من اضيق المسافات من دون ان يصطدموا بأي واحد من الحشود، كنت اشاهد التكاتك العائدة منها من منتصف الجسر وهي تحمل في داخلها، شبانا جرحى او مختنقين.. ينطرحون في احضان شبان اخرين يحاولون اسعافهم قبل الوصول الى سيارات الاسعاف او الى المناطق الآمنة نسبيا في حديقة الأمة او عند مداخل منطقة (البتاويين).. توالى اطلاق القنابل الغازية واصبح الجو اكثر عتمة واكتظاظا، ناديته هل مازال الى جانبي، لم اسمع صوته، حزم من الدبابيس كانت تنغرس في وجهي، لم أكترث الى المها الذي بدا مثل لسعات النار، فتحت عيني بصعوبة لأنظر داخل التكاتك التي كانت عائدة من منتصف الجسر وهي تمر خاطفة قريبا مني، لعله بين هؤلاء الجرحى او المختنقين الذين تنقلهم التكاتك، صرت ارى بصعوبة فالدموع بدأت تسيح من عيني وتزيدها حرقة، بالكاد كنت أراهم.. كيف لي ان اميزه واغلب المصابين يغطون وجوههم بمناديل الكشمير أو باليشاميغ، او بتشيرتاتهم.. حتى قذلهم تتشابه وهي تتدلى في احضان المسعفين، بدأت الدبابيس تشك عيوني وتغلقها، وكانت تلك آخر المناظر التي اغلقت عليها عيني، بعدها لم اعد أرى شيئا. لكن ثمة ابتسامة لأسنان عريضة تبرق في ظلمة عيني وتقودني الى الخلف، فيها شيء من الألم والقلق والأهازيج، دفعتني الجموع معها الى جهة (نصب الحرية)، ركضت مغمض العينين، فكأن الجميع يرى بعين واحدة.. صحت من حرقتي (وينك.. ياولد .. يافتان)، تخيلت انك تقودني، او أني اركض خلفك .. على رائحتك.. أدركت انني سأموت.. القنابل تزداد في فضاء الساحة، تعثرت أكثر من مرة بأحد المتظاهرين الذين سقطوا أمامي، فتحت عيني كي أراك.. اراك للمرة الاخيرة علني اكمل حكايتي .. حكاية جدك وابيك، الذي ابتلعته حرب الكويت بعنوان مفقود وانت مازلت جنينا في بطن امك.. شعرت انها أمانة يجب ان اسردها لك، فتحت عينيّ بصعوبة، تدفق منهما دمع ساخن زاد من حرارة الدبابيس التي تلسع وجهي مثل لسعة الفلفل، دفعني صوت من الخلف (حجي أركض.. بسرعة..)، شعرت للحظة انك تمسك بيدي وتركض بي مسرعا بعيدا عن الدخان باتجاه ازقة البتاويين أو حديقة الأمة، شجعتك على الركض (أركض ياولد..اركض ايها الأملح .. ايها الأقجم..)، هكذا كان يشجعنا فلاح (الجتّه) على الركض عندما يزداد رمي حصى (المصاييد) علينا، كانوا يرمونا بالحصى ونرد عليهم بالحصى ونهزج (هاي الكاع مانطيها عشر سنين نحارب بيها)، ونندفع الى (الجتّه)، يا لعجب هؤلاء الذين يطلقون علينا قنابل الغاز ايضا يتمترسون في (الجتّه) التي تسمونها الآن (المنطقة الخضراء)!، ويا للمصادفة (المنطقة الخضراء) هي نفسها التي كنا نهزج بها، وانت تهزج قبل ان تصلها، ما بها هذه المنطقة لكي تهزجون بأهازيجنا وتريدون العبور اليها، ربما سميت بالخضراء لأنها أخذت لونها الأخضر من خضار الجت الغامق؟.. هذا تفسير غير واقعي، يقنعني أنا فقط ، وحتما لا يقنعك ولا يقنع غيرك!.
ركضت بسرعة لم اتوقعها، كأن كل غاز ساحة التحرير ملأ صدري وجعلني بالونا يطير او يجنح مثل التكاتك، حذرتني أصوات كثيرة للفتية الذين يشبهونك، لا أدري ممن يحذروني، من الاطلاقات النارية المفردة التي لم نشعر بها إلا وهي تُسقط الفتية الراكضين وكأنها تصطادهم مثل العصافير!، أو من ثلمة الرصيف التي شعرت بها تكسر رجلي، أو من الغاز الذي ملأ صدري وانفلق في داخلي مثل مظلة طيار أُصيبت طائرته، فحلق بي الى الأعلى ..الى الفضاء الأظلم، مدفوعا بوخزة الدبابيس والم الساقين، وجدت نفسي أعوم في ظلمة داكنة بين تكاتك محلقة في الظلمة، تبدو مصابيحها الأمامية مثل انعكاسات لصور أقمار على مياه رجراجة، بدت لي ساحة التحرير من الأعلى مع امتداد جسر الجمهورية مثل ساعة كونية تحرك اميالها جموع المتظاهرين تحت الى يمين الدنيا، لم تشغلني الساعة ولا أميالها، كنت أبحث عنك.. سحبتني أصوات أغاني وأناشيد تنطلق من التكاتك المحلقة في الظلمة مثل كائنات افلام الخيال العلمي.. تبدو الاضواء داخل التكاتك المحلقة في السماء أشد بريقا لكنها لا تضيء اي شيء من ظلمة النساء.. أرهفت السمع الى أغاني الشباب علني اعرف صوتها، كانت الحانها جميلة لكن كلماتها غامضة لم ادرك معانيها.. كنت اطفو بهدوء في ظلمة الساحة بين التكاتك.. كنت الوح لهم ويلوحون لي، نبهني صوت من داخل أحد التكاتك الطائرة (حجي دير بالك.. ارتفع قليلا..انك فوق نصب الحرية..لا تصطدم..)، لعله صوتك انفردت عن ضجيج محركات التكاتك الطائرة لأسمعك.. أو أراك من فوق! .. ياولد .. يافتان لماذا تركت يدي وجعلتني اطير مثل بالون تائه؟.. اين ابحث عنك كي أكمل لك الحكاية؛ في حديقة الامة بين الفتية المنطرحين جراء اختناقهم بالغاز، او بين الفتية اللائذين في أزقة (البتاويين) من رصاص القناصة؟.. أنني احلق الآن بضحكتك.. بكشرتك الطفولية الجميلة.. انني احلق.. الدخان يدفعني من فوق حديقة الأمة، الى خزان الماء، ساحة الكيلاني.. أنني ألاحق كشرتك.. أهزوجتك.. هفهفة قذلتك تومئ لي عند تقاطع (مول النخيل)، مازال التقاطع يحتشد بالتكاتك والفتية العابرين جسور القناة من شرقها الى ساحة التحرير، وانت ياولد.. يافتان .. مازلت تهزج بين فرضة وشعيرة بندقية القناص.. ايها العصفور الأملح كف عن المزاح مع القناص، فأمك تمد رأسها مع النسوة من شرق القناة بانتظار عودة التكاتك كما كانت أمك تنظر مراسيل جبهات القتال من أبيك.. ياولد أرحم أمك لقد هدها الانتظار القلق، ياولد.. يافتان حاذر اللعب مع فرضة وشعيرة القناص فقد استبدلها بالناظور الذي هو أكثر إغواءً للموت، ياولد.. صوت الرصاص يصل أمك ويوخز قلبها، ألم يخبرك أحد أن صوت الرصاص يوخز قلوب الأمهات.. ياولد ..يافتان.. صوت أمك يكسر القلب وهي تنعى (صابك علي يالصوبيته).