أيلول/سبتمبر 12
   
 
 
    ليس من الميسور على الكاتب، تناول شخصية أدبية مرموقة، بكتابة مستوفية كل شروط الموضوعية والكمال، حين لا يجد الكاتب ضالته بصورة واحدة على الأقل تعزز موضوعه في التعريف بالشخصية، ومن المحزن جداً ان محاولات البحث في الأرشيف الثقافي، لم تسعفنا في الوصول إلى تلك الغاية.
  ان مترجماً مهماً وكاتباً رصيناً مثل عبد المطلب صالح، أجد من الانصاف والوفاء له أن أسجل لهذا الرجل مأثرته في الكتابة، بعد أن طواه النسيان، كان صالح من الكتّاب العراقيين القلّة الذين آثروا المكوث في الظل بعيداً عن الأضواء، على الرغم من موهبته في الترجمة، عن الأدب الفرنسي، وتخصصه الأكاديمي في الأدب المقارن، وإذا كانت الذاكرة الثقافية العراقية تحتفظ لجعفر الخياط، وعناد غزوان، وداود سلوم، وضياء نافع، بقسط وافر من الاعتزاز والاحترام لجهودهم المتميزة في الأدب المقارن، فإن عبد المطلب صالح، ومنجزه الإبداعي في هذا الميدان، يعدّ شاهداً على غنى تجربته، وعمق ثقافته.
   كان عبد المطلب قد درس الأدب في الجامعات الفرنسية، منذ خمسينات القرن الماضي، (لم يكمل الدراسة لنيل شهادة الدكتوراه)، صدرت له العديد من الكتب، منها على سبيل المثال: دراسات في الأدب المقارن، دانتي ومصادره العربية والإسلامية، ترجم للشاعر لويس أراگون كتابه (فيكتور هيغو)، شاعراً واقعياً في ضوء المنهج الماركسي، وآخر: دراسات في أدب الواقعية والواقعية الإشتراكية، وكتاب آخر في أدب البروليتاريا، فضلاً عن عشرات الترجمات والمقالات في الأدب والثقافة والفكر، المنشورة في المجلات، والصحف الصادرة في العقدين السادس والسابع من القرن المنصرم.
 
        عبد المطلب صالح
   بعد خمسة عقود من الزمن، ما زلت أذكر اللقاء الأول بعبد المطلب صالح، تلك الأعوام الأخيرة من عقد الستينات، حيث عادت مجلة (الثقافة الجديدة) إلى الصدور، وتحول المبنى إلى ملتقى أدبي، فكري، سياسي، فيه جرت المحاولات الأولى لعودة اتحاد الأدباء، وتشكيله من جديد، كما شهدت تلك الفترة هامشاً من الحرية، وتراجعاً عن الوصايات الأيديولوجية والحزبية، لحساب محاولات التجديد في الأدب العراقي، التي أشاعها الجيل الستيني نهجاً وسلوكاً. وأجواءً للحوارات والمراجعات على مستويات عدّة.
  أبيض الوجه أقرب إلى التدوير، جبهة عريضة واسعة، شارب برونزي، عينان لامعتان ملونتان، تشعان بريقاً ذكياً، قامة متوسطة أقرب إلى البدانة، كنت لا أميز بينه وبين الكاتب المسرحي يوسف عبد المسيح ثروت، فهناك أوجه شبه بينهما في السمات والملامح، تلك أول الإنطباعات التي تناهت إلى مخيلتي، وأنا أتأمل وأنتظر ما سيسفر عن قدوم هذا الرجل، الذي ناء بحمله مثقلاً بحقيبة جلدية سوداء، تآكلت أطرافها، منتفخة.
  يبدو أن مدير التحرير الشاعر الفريد سمعان أوحى له بمهنتي في المجلة، فبدأت يده تتجه نحو مفتاح حقيبته، ثمة أشياء كثيرة كانت في جوفها، لا تكاد تميزها من أول نظرة، تبدو يده الأخرى منصرفة لإطفاء سيگارته التي ظلت مشتعلة حتى النفس الأخير، تلك اللحظة، اخترقني إحساس بانشداد سحري لهذا الرجل، لتلك الشخصية التي تنطوي على غموض، كأن صمته ينتمي لطفولة مدهشة، نادراً ما يتحدث، مستغرقاً في الإصغاء والتأمل، يبدو لمن لا يعرفه أحياناً شارد الذهن، سارحاً في الخيال.
   من جميل المصادفات أن يكون هذا اللقاء بداية لعلاقة جديدة توطدت وازدهرت بمرور الأيام، بعد أن بات يتردد على جريدة طريق الشعب اليومية، مشاركاً وكاتباً ومترجماً نشيطاً، ثم علاقة جميلة ورفقة طيبة وصادقة تشكّلت بسمات تلك الحقبة من الزمن بكل تفاصيلها، وتشابكها. كنت ممتناً له حين إلتمس مني تصميماً لغلاف كتابه (دراسات في الأدب المقارن)، وآخر في (أدب البروليتاريا)، وهو في غاية السعادة حين أنجزت ما أراد، مع تواضع وبساطة التصميم، ضمن الإمكانات المتاحة آنذاك.
   لا ريب أن صالح واحد من أندر الكتاب، وأكثرهم دقة في صياغة أفكاره، لما يتمتع به من قدرات لغوية، وموهبة في الترجمة، واطلاع على الأدب العالمي، إذ قطع شوطاً بعيداً في تتبعه ودراسته، على وفق قناعاته، إذ كان من أبرز الدعاة لأدب واقعي إشتراكي، فأثار جدلاً واسعاً بشأن الموضوعات التي تطالعنا في كتاباته، التي لم تجد لها سبيلاً نحو الثبات، لا في زمن سابق ولا لاحق!!
   لكنه ظل مخلصاً لنهجه الفكري لم يتراجع قيد أنملة، مؤمناً بشكل مطلق بمتبنياته، عنيداً بقناعاته، بالمقابل كان هناك جيل ينظر بحساسية بالغة إلى تلك الرؤى، يتحدث بلغة جديدة، ضد ما هو سطحي، ومباشر في الكتابة، كان هذا الجيل مختلفاً حتى في نمط قراءاته، لم يعد رواد الواقعية الكبار يحظون بدرجة من الإعجاب، لم يكن أولئك ممن يستحق الإقتفاء، وأصبحت الواقعية الإشتراكية، وأدبها ماضويا.
  لم يسلم عبد المطلب صالح من تلك الأحكام، ومقاسات (الموجة الصاخبة)، لأنه يقدم أفكاره وفق طبيعة وعيه، وثقافته التي اكتسبت مفرداتها وعوالمها من خلال موقفه وعاطفته هو، التي تملي عليه أن يكون حالماً بطريقته الخاصة.
ان عالمه عالم غني مضيء، فيه الكثير من القدرات الموحية، انه يقدم تجربته كعارف ومتخصص، بهدف لا يخلو من الرصانة والموضوعية، وأحياناً الصارمة بعيداً عن العواطف، إذ يذكر: ان حبنا للواقعية الإشتراكية في الأدب شيء، وتشخيص ملامحها في المشهد الأدبي شيء آخر، في إشارة لرأي الناقد فاضل ثامر عن توفر ملامح الواقعية الإشتراكية في العديد من تجارب الأدباء العراقيين في عقدي الخمسينات والستينات.
هذا الكلام يعطي تفسيراً متأرجحاً لماهية الواقعية الإشتراكية، وأسسها، واغفالاً للظروف الموضوعية، حسب رأي صالح، الذي يؤكد ان الصواب في وصف تلك الملامح تنتمي إلى تيار الواقعية النقدية، بأطر إنسانية.
ان ما قدّمه من آراء بشأن قصة الستينات، وكتابات وفية لأي أقلام عن الواقعية الإشتراكية، يعطي الدليل على عمق قراءاته النقدية ووعيه المتقدم الرصين.
 كان يعتقد انه ليس من الصواب عدم التصدي للآراء التي تفتقر لمنهجية البحث العلمي الموضوعية، وعلى هذا الصعيد كان يصحح لأبي أقلام آراءها بشأن الروائي الفرنسي بلزاك، واصفة إياه: انه كان ذا اتجاه إشتراكي في الأدب، في حين ان الحقائق تقول غير ذلك، وقدّم عبد المطلب أكثر من دليل لتفنيد رأي (ابو اقلام).
عبد المطلب صالح من القلّة التي إستطاعت الإمساك بالخيط، الذي يشد الكاتب إلى أفقه بجدارة أخلاقية ومعرفية، هو في كل الأحوال مكتشف للمعاني عبر ما أنتجه عقله النيّر، وفي هذا السياق، يربح المتزلفون، ومزورو الشهادات، وفي هذه الحمى يفوز البارعون في التملق، وبوس اللحى، ومسح الأكتاف، كيف لمثقف مثله يحمل في ذهنه صبوات الماركسية أن يعيش وسط عالم يستمرئ الحياة في الظلام ويعيد توليده؟
ترى .. كيف رحل عبد المطلب صالح ومتى..؟ هذا ما نجهله !.
إشارة لا بد منها:
ما كان لهذه المقالة أن تنشر، لولا (نجدة) الأستاذ الناقد فاضل ثامر، الذي أسعفني في الوقت الضائع، بصورة من أرشيفه للكاتب عبد المطلب صالح، ومعلومات مهمة في سيرته الشخصية، ألف شكر وامتنان للصديق ثامر، أنه أنقذ المقالة من محنة حقيقية.
- ولد عبد المطلب صالح مهدي ابراهيم العبيدي في 31 آذار 1928، بغداد، محلة الخلاني.
- أكمل الإبتدائية في المدرسة الجعفرية، كذلك الثانوية.
- تخرج في دار المعلمين العالية بدرجة (شرف).
- درّس في المتوسطة الغربية، في أول تعيين له.
- توفي في 19كانون الثاني 1996.