أيلول/سبتمبر 12
   

     يقول الدكتور جواد علي في مفصله لتاريخ العرب قبل الإسلام "إقرار الاسلام بعض احكام الجاهليين في الزواج وفي الطلاق وفي الوفاة وفي الميراث وتحريم أحكام أخرى مع الإشارة اليها". وان هذا الاقرار للمادة الخام تناولتها كتب التفاسير والأحكام الفقهية بالغربلة(1). حتى تشكلت الأحكام المدونة المعروفة في المطولات الفقهية والتي انتشرت بعدئذ في مختلف الامصار الإسلامية ومنها العراق وتونس. اذ كان القضاة المسلمون يرجعون الى ما دون في تلك المطولات وما يصاحبها من اجماع او قياس، فضلا عن المصادر الاخرى بغية الفصل في الحوادث والمنازعات التي تتعلق بالأحوال الشخصية. كان القضاة يجلس معهم فقهاء يملكون الدراية والخبرة في هذه المواضيع ويطيلون النظر ويكثرون من التدقيق فيما يطرحه أطراف الدعوى وبعد استكمال الاجراءات المطلوبة للتقاضي يتخذ الحكم الفاصل في الدعوى، ويلاحظ في اجراءات التقاضي تلك طول المدد وتراخي مواعيد الحسم، فضلا عن المختلف عليه في الاحكام رغم تجانس الوقائع او أن تكون متناقضة بين هذا القاضي او ذاك ومرد ذلك دون شك الى الاختلافات الفقهية او اختلاف المستويات المعرفية. واستمر هذا الحال الى ما بعد النصف الثاني من القرن العشرين.

   وفي العراق ظهرت أفكار ترمي الى جمع الاحكام الشرعية الخاصة بالأحوال الشخصية بقانون يعد مرجعا لقضاة الاحوال الشخصية ويكون اساسا لإصدار الاحكام القضائية ولهذا السبب بادر وزير العدلية حينئذ السيد احمد مختار بابان الى اصدار امر بتشكيل لجنة مهمتها وضع لائحة للأحوال الشخصية فأصدر الامر المرقم 134 في 29/1/1945 المتضمن تشكيل اللجنة من الذوات: الحاج محمد حسن كبة رئيس مجلس النواب، الشيخ علي الشرقي رئيس مجلس التمييز الشرعي الجعفري، السيد حمدي الاعظمي المدون القانوني، السيد محمد شفيق العاني العضو في مجلس التمييز الشرعي السني. اكملت الجنة مهمتها بكتابة اللائحة سنة 1948 وقدمت الى مجلس النواب الذي تلكأ في اصدارها لظروف محكومة في ذلك الزمان(2). في تونس أيضا، جرى التفكير في وضع مجلة (قانون) للأحوال الشخصية ولم ير هذا التفكير النور الا بمبادرة من قبل العلامة الشيخ سيدي محمد العزيز جعيط سنة 1948 الذي وضع عناصرها وبوبها وحرر فصولها وألف لجنة لدراستها واتمت عملها ولكنها لم تر النور خلال تلك الحقبة للظروف التي كانت تحكم تلك الفترة واعتراض المستعمر الفرنسي.

    عندما تسنم الرئيس الحبيب بورقيبة مقاليد الحكم جعل تحرير المرأة مرتبطا بالاستقلال عن الاستعمار الفرنسي وكان من اولويات اهتماماته وجود تشريع معاصر للاحوال الشخصية وقد تمت فعلا صياغة (مجلة الاحوال الشخصية). ويرى احد الباحثين في هذا الشأن الغموض والتكتم حول كيفية صياغة المجلة والاشخاص الذين قاموا بالصياغة اذ قيل ان اللجنة ترأسها وزير العدل احمد المستيري وعضوية محمد الفاضل بن عاشور قاضي الحاضرة ومحمد القروي متفقد المحاكم الشرعية(3). لكنها في المحصلة هي نتاج فكر الحبيب بو رقيبة التنويري ومنظومته السياسية اذ صدرت في الرائد الرسمي (الجريدة الرسمية) بالعدد 66 في 17 آب 1956.

في المقابل وفي الجانب العراقي فان وزير العدل مصطفى علي أصدر الامر المرقم 560 المؤرخ 7 /2/1959 المتضمن تأليف لجنة مهمتها وضع مشروع قانون للأحوال الشخصية تستمد مبادئها مما هو متفق عليه من احكام الشريعة الاسلامية ومما هو مقبول من قوانين البلدان الاسلامية وما استقر عليه القضاء العراقي. انجزت اللجنة عملها وقدمته الى السلطة التشريعية آنذاك فأقرته. وشرع القانون برقم 188 لسنة 1959 ونشر في الوقائع العراقية بالعدد 280 في 30 كانون الاول 1959. يلاحظ عدم توفر المصادر عن اسماء اعضاء اللجنة المكلفة بكتابة المشروع وكيفية صياغتها وهي بذات الظروف التي مرّت بها مجلة الاحوال الشخصية التونسية. بحثنا كثيرا في ذلك ولم نصل الى نتيجة إلا ان من المرجح ان أحد اعضائها هو القاضي محمد شفيق العاني. ذلك ان المقدمة التي كتبها لكتابه الموسوم (احكام الاحوال الشخصية في العراق) تشير الى انه من ضمن اعضاء اللجنة اذ يقول ان اللجنة اعادت صياغة لائحة المشروع لسنة 1945 بصياغة جديدة ما عدا احكام الارث التي لم تدخل المشروع وإنما احيلت الى لجنة في مجلس الوزراء على وفق احكام انتقال الاراضي الاميرية المثبتة في القانون المدني(4). والشخصية الثانية هي الحاكم احمد جمال الدين الذي كان قريبا من ثورة 14 تموز 1958 وساهم في وضع قانون الاصلاح الزراعي وكان قريبا من وجود تشريع مستقل للأحوال الشخصية.

أولا

النصوص المتناظرة في التشريعين

     لم يرد في نصوص مجلة الاحوال الشخصية تعريف للرابطة الزوجية. وخيرا فعل المشرع التونسي اذ ان التعريف سرعان ما يبلى جراء حركة المجتمع وتطوره ويصبح غير قادر على مجاراة الاحداث والمتغيرات والوقائع المستجدة خلافا لما ذهب اليه المشرع العراقي الذي عرف عقد الزواج بانه: "عقد بين رجل وامرأة تحل له شرعا غايته انشاء رابطة للحياة المشتركة والنسل"(5). وقد وجد المشرع في اقليم كردستان العراق ان هذا التعريف غير مجز وتشوبه نواقص عديدة فوضع له تعريفا اخر هو: "عقد تراض بين رجل وامرأة يحل به كل منهما للآخر شرعا غايته تكوين الاسرة على اسس المودة والرحمة والمسؤولية المشتركة طبقا لأحكام هذا القانون"(6). في حين ان المشرع المغربي وفي مدونة الاسرة لا يعد الزواج عقدا بل ميثاق تراض(7). والميثاق هو أكثر انسجاما للرابطة الزوجية من العقد الذي تنصرف احكامه الى باب العقود في القوانين المدنية، لذا فان تعدد التعاريف واختلاف مضامينها تجعل وضع التعريف امرا غير محمود.

  • الزواج عقد رضائي: المشرع التونسي ذهب مباشرة الى شروط الرابطة الزوجية واعتبر عقد الزواج من العقود الرضائية. والرضا لديهم هو التعبير وبكامل الارادة الصريحة المنصرفة الى ابرام عقد الزواج أي ان لا يشوب تلك الارادة عيب من عيوبها، وكل قيد على تلك الارادة يعد بموجبه عقد الزواج باطلا استنادا للفصل 118 من مجلة الالتزامات والعقود. كما ان عقد الزواج لديهم عقد شكلي، اذ لم يعد الرضا وحده كافيا لإبرام عقد الزواج ما لم تستوف الشروط الشكلية الواردة في نصوص تشريعية آمرة. الامر ذاته بالنسبة للقانون العراقي فهو ايضا من العقود الرضائية فهو ينعقد بإيجاب – يفيد لغة او عرفا – من احد العاقدين وقبول الآخر(8) ومعلوم ان الايجاب والقبول لا يصدران إلا من البالغ الرشيد صاحب الارادة الحرة غير المشوبة بعيب من عيوبها او ان لا يقع الاكراه المقيد لها، كما أن المشرع العراقي اقر بلزوم تسجيل عقد الزواج في المحكمة المختصة وبه يضفي الشكلية على عقد الزواج لذا فان التشريعين التونسي والعراقي يشتركان في كون عقد الزواج عقدا رضائيا وشكليا في آن واحد.  
  • الشهادة في عقد الزواج: التقى التشريعان في شروط صحة العقد على وجوب الشهادة فيه اذ لا صحة لعقد الزواج من دون الشهادة فيه اكراما لشأن هذه الرابطة واظهاراً لمنزلتها ودفعا للشبهات عنها واشهارا لصحتها وتوثيقا لبنودها. ولكي تكون الشهادة مستوفية لشروطها واسبابها يجب ان يكون الشاهدان متمتعين بالأهلية القانونية لأداء الشهادة على عقد الزواج (البلوغ والعقل)(9). وفي القانون التونسي ايضا: "لا ينعقد الزواج الا برضا الزوجين. ويشترط لصحة الزواج اشهاد شاهدين من اهل الثقة.." الفصل (3) من المجلة. ويرى شراح القانون في تونس ان الشهادة تضفي الشكلية على عقد الزواج وهذا يعني ان غياب الشهادة عن عقد الزواج تجعله عرضة للبطلان ويرونها شرطا لصحة العقد فإن الشهادة تدخل في وظيفة الاشهار الموجب لتسجيل عقد الزواج في السجلات الرسمية لتعلقه بالحالة المدنية لطرفيه، يضاف الى ان الشهادة تعني خلو الزوجين من علاقة زوجية اخرى، فضلا عن خلوهما من موانع الزواج إضافة الى الاهلية القانونية المطلوبة للشاهدين(10). 
  • تسجيل عقد الزواج: خلافا للأحكام التي اشترطها الفقهاء المسلمون لعقد الزواج فقد اوجد المشرع التونسي شرطا جديدا الا وهو الحجة الرسمية لصحة عقد الزواج. فالزواج المنصوص عليه في مجلة الاحوال الشخصية وقانون الحالة المدنية يشترط لصحته - أي أنه لا يعد صحيحا - ما لم تتضمنه حجة رسمية وهذا هو الفرق بين الزواج القانوني والزواج العرفي. فالزواج العرفي في تونس غير جائز قانونا لأنه جاء على خلاف ما نصت عليه النصوص القانونية الآمرة لا بل انه يعد فعلا مجرما جزائيا(11). عليه فان مجلة الاحوال الشخصية التونسية اكتفت بجعل الحجة الرسمية للزواج حجة اثبات حصرية الا انه وبصدور قانون الحالة المدنية جعل من الحجة تلك شرطا لصحة الزواج اذ نص الفصل (36) من قانون الحالة المدنية على بطلان الزواج المبرم خلافا للصيغ التي جاءت بها النصوص القانونية. اما في القانون العراقي فقد افرد المشرع الفصل الرابع من الباب الاول من القانون وتحت عنوان (لتسجيل عقد الزواج وتثبيته) اذ ان عقد الزواج يسجل لدى محكمة الاحوال الشخصية بتوثيق من قاضيها وبدون رسوم او تبعات مالية اذ بينت المادة العاشرة من القانون المستندات المطلوبة لعقد الزواج. عليه فقد اعتبر القانون الزواج خارج المحكمة (المبرم بتأييد من رجل الدين) جريمة يعاقب عليها القانون. هنا يتماهى القانون العراقي مع القانون التونسي في تسجيل عقد الزواج وان اختلفت آلية التسجيل ويتفقان في الجانب الجزائي على الفعل المخالف للقانون.  
  • عقد الزواج قبل السن المقررة قانونا: قد يبرم عقد الزواج دون السن المقررة قانونا لظروف استثنائية اي قبل بلوغ الحد الادنى من العمر المقرر للزواج. فقد اجاز المشرع التونسي ذلك استنادا للجملة الاخيرة من الفصل 5 من المجلة: "... فكل من لم يبلغ منهما ثماني عشرة سنة كاملة لا يمكنه ان يبرم عقد الزواج. وابرام عقد الزواج دون السن المقرر يتوقف على اذن خاص من المحاكم ولا يعطى الاذن المذكور إلا لأسباب خطيرة وللمصلحة الواضحة للزوجين". ويقول شراح القانون التونسيون ان القاضي ولما له من ولاية عامة في هذا الشأن ان يتمسك بحقوق القاصر ويتلمس رضاه في موضوع زواجه لكون رضا الولي والحالة هذه غير كاف لإبرام عقد الزواج ولا يحل محل رضا القاصر اذ لا يجوز اكراه القاصر على الزواج، لا بل ان رضا القاضي وحده غير كاف لتزويجه مع غياب مصلحة القاصر منه، لان المصلحة المنصوص عليها قانونا جاءت مطلقة لذا يلزم القاضي ان يتأكد من ثبوت المصلحة اولا وان يستفيد القاصر من تلك المصلحة ثانيا حتى يصار الى الاذن بالزواج باعتباره امرا ولائيا خاضعا للسلطة التقديرية للقاضي(12).

يشارك المشرع العراقي المشرع التونسي بجواز ابرام عقد الزواج لمن لم يكمل الثامنة عشرة من العمر. وتسبيبا لهذا الاجراء يقول المشرع العراقي هو لتلافي حالات الزواج التي تقع خارج المحاكم وجعل السن لمن أكمل الخامسة عشرة شريطة الحصول على اذن وليه (الاب) وكذلك اذن القاضي المتمثل في امره الولائي مع لزوم ثبوت الاهلية لهذا الزواج والقابلية البدنية فإن امتنع الولي مع تحقق الاسباب والشروط فللقاضي ان يمهله المدة المحددة لذلك فإن لم يعترض الولي او اعترض وكان اعتراضه غير جدير بالاعتبار انتقلت الولاية الى القاضي الذي يصدر الاذن بالزواج للقاصر (المادة الثامنة /1) من قانون الاحوال الشخصية. واستثناء من هذا الاستثناء فللقاضي وحسب ولايته العامة ان يأذن لمن بلغ الخامسة عشرة من العمر - وليس من أكمل الخامسة عشرة كما في الفقرة (1) من المادة الثامنة - بالزواج اذا وجد ضرورة قصوى تدعو لذلك والضرورة القصوى مسألة تقديرية تترك للسلطة التقديرية للقاضي شريطة تحقق البلوغ الشرعي والقابلية البدنية.  

  • خيار الشرط في عقد الزواج: مصطلح خيار الشرط استخدم في الفقه الاسلامي مفاده اتفاق الزوجين على وضع شروط في عقد الزواج تتعلق بالحقوق الشخصية او الحقوق المالية (المؤمنون عند شروطهم الا شرط من حرم حلالا أو أحل حراما). وتعد الشروط معتبرة إذا تم الاتفاق عليها ودونت في العقد. فقد نصت الفقرة (3) من المادة السادسة من قانون الاحوال الشخصية على: "الشروط المشروعة التي تشترط ضمن عقد الزواج معتبرة يجب الايفاء بها". واضافت الفقرة (4) من المادة ذاتها النص التالي: "للزوجة طلب فسخ العقد عند عدم ايفاء الزوج بما اشترط ضمن عقد الزواج". واضاف المشرع في اقليم كردستان الفقرة (5) الى هذه المادة وجاء نصها بالشكل التالي: "للزوجة ان تشترط على الزوج عند عقد الزواج تفويضها بالتطليق" بموجب التعديل رقم (15) لسنة

اما في التشريع التونسي فقد نص عليه في الفصل (11) من المجلة بالنص التالي: "يثبت في الزواج خيار الشرط ويترتب على عدم وجوده او على مخالفته امكان طلب الفسخ بطلاق من غير ان يترتب على الفسخ اي غرم إذا كان الطلاق قبل البناء". وقد تقلص اعتماد خيار الشرط في عقود الزواج في تونس لأسباب ثلاثة هي: 1- الغاء تعدد الزوجات 2- جعل الطلاق بيد القاضي 3- المساواة بين الرجل والمرأة في عقد الزواج. ومن خلال التطبيقات القضائية فقد تم ضبط صيغة الشرط بان يكون صريحا وان يحدد موضوعه كأن يكون متعلقا بحق شخصي ام حق مالي، فضلا عن الآثار القانونية المترتبة على ذلك الشرط كأن يكون دينا بالذمة إذا تعلق الشرط بالمال او بلزوم الفسخ إذا تعلق بالحق الشخصي على ان لا يترتب اي غرم او تعويض عند فسخ عقد الزواج.  

  • المهر: في الفقه الاسلامي يعرف عقد الزواج بأنه: "عقد استمتاع" ويعرف المهر من قبل محمد زيد الابياني بأنه: "المال الذي يجب على الزوج في مقابلة منافع البضع"(13). التشريعان التونسي والعراقي هجرا التعامل بهذه المصطلحات التي كانت شائعة في الفقه الاسلامي واصبحت من المصطلحات المندثرة فعلا، فالمهر قد يكون نسخة من القران الكريم والمهر بهذه الصيغة يبطل مقولة الحصول على منافع البضع لان قدسية الكتاب الحكيم لا تصلح ان تكون محلا للاستمتاع الجنسي، وان كان شرعيا. وفي احيان كثيرة يكون المهر رمزيا كان يكون بأقل فئة نقدية. وأكد القضاء التونسي ذلك بالقول: "اذ العادة في كثير من الجهات جرت على تسجيل مهر رمزي بعد الصداق.."، القرار التعقيبي 7924 في 14 نيسان 1970(14). وقد قال ابن رشد وغيره على ان نكاح التفويض جائز وهو ان يعقد النكاح من دون صداق(15) اذ نص الفصل (12) من المجلة على: "كل ما كان مباحا ومقوما بمال تصلح تسميته مهرا وهو ملك للمرأة". هذا وان التشريع العراقي لن يخرج عن هذا المفهوم اذ نصت المادة التاسعة عشرة على: "يستحق المهر المسمى بالعقد فإن لم يسم او نفي اصلا فلها مهر المثل".

ثانيا

المختلف عليه في التشريعين

  • منع تعدد الزوجات: عندما جاء الاسلام وجد النظام الذي سبقه يقر بتعدد الزوجات اذ نزلت الآيات الناظمة لهذا الموضوع المتوجهة الى تقييده وبعدئذ النزوع الى تركه لأن التعدد لا ينسجم واحكام الآية 21 من سورة الروم: "ومن آياته أن خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة..". ويرى جانب من الفقه تعذر الوصول الى المودة والرحمة والسكينة في تعدد الزوجات في حين يرى الجانب الآخر الجواز الشرعي في تعدد الزوجات وقد كانت العوائل تحرص في بعض الاحيان على اشتراط عدم الزواج بثانية في عقود الزواج حماية لحقوق بناتها. يلاحظ في تونس ان الخطاب الفقهي التجديدي يميل الى منع تعدد الزوجات اخذين بعين الاعتبار ان المنع تحكمه الآيات القرآنية التي اخذت بمبدأ التدرج في الوصول الى الاحكام المطلوبة، اذ قضت الآيات الممهدة لهذا الموضوع الى تحديد عدد الزوجات حتى انتهى الامر بها الى منع التعدد.

يقول الشيخ الطاهر حداد: "جاء الاسلام ووضع بادئ الامر حدا اقصى لهذا التعدد ـ فقال عليه السلام لمن له ازواج (أمسك أربع وفارق سائرهن)". ليصل بعدئذ الى تعذر تحقيق شرط العدل المستند الى حكم الآية 129 من سورة النساء: "ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولو حرصتم". لهذا يستنتج الشيخ الطاهر حداد عن تعدد الزوجات بالقول: "ليس لي ان اقول بتعدد الزوجات في الاسلام لأنني لم أر للإسلام أثرا فيه وانما هو سيئة من سيئات الجاهلية الاولى التي جاهدها الاسلام طبق سياسته التدريجية"(16).

 تعد مقولات الطاهر حداد وهو من كبار رجال الدين في حينه وتعد افكاره مرجعية اساسية لنصوص مجلة الاحوال الشخصية. وتجسيدا لجهده التنويري الوارد في التوصيف اعلاه مع فكر النظام السياسي الجديد كان نص الفصل 18 من المجلة الذي جاء بالشكل التالي: "كل من تزوج وهو في حالة الزوجية وقبل فك عصمة الزواج السابق يعاقب بالسجن مدة عام وبخطية "غرامة" قدرها مائتان واربعون ألف فرنك او بإحدى العقوبتين ولو ان الزواج الجديد لم يبرم طبق احكام القانون"، وتطبيقا لأحكام هذا النص فقد قضت محكمة التعقيب التونسية بالحكم التالي: "جريمة التزوج بثانية من انظار حاكم الناحية وهو مختص ايضا بالنظر في إبطال الزواج الثاني لان هذا الزواج نتيجة مترتبة عن الجريمة اوجب المشرع محو آثارها" القرار صدر بالعدد 3619 المؤرخ في 28 نيسان 1965 اذا استمرت الاحكام التعقيبية على هذا التوجه الى يومنا هذا(17). علما ان محكمة التعقيب التونسية هي نظيرة محكمة التمييز الاتحادية في العراق. اما تعدد الزوجات في النظام التشريعي العراقي فقد بينته الاسباب الموجبة الملحقة بقانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اذ جاء فيها: "رأت اللجنة ان قوانين البلاد الاسلامية قد ذهبت في تعدد الزوجات الى مذهبين، فمنعه التشريع التونسي بصورة مطلقة وعاقب عليه (م – 18) منه وقيد التشريع المغربي المنع بالخوف من عدم العدل (م – 30)، فاختارت اللجنة مذهبا وسطا بينهما فمنعت بالمادة الثالثة الزواج بأكثر من واحدة الا بأذن القاضي ويشترط لإعطاء الاذن ان يكون للزوج كفاية مالية لإعالة ما زاد على واحدة وان تكون هناك مصلحة مشروعة، ومنعت الزواج بأكثر من واحدة اذا خيف عدم العدل وتركت تقدير ذلك للقاضي كما نصت على عقوبة الحبس لمدة سنة وبالغرامة لمن يخالف ذلك". ولكن يلاحظ ان السلطة التقديرية للقاضي جاءت بصورة مطلقة فكثرت اوامر الاذن بالزواج من ثانية لدى مختلف محاكم الاحوال الشخصية، وشكلت ظاهرة وأصبح الوضع الذي نحن عليه حاليا.

يلاحظ ان المشرع في اقليم كردستان كان موفقا في هذا الجانب التشريعي. اذ جاء في احكام التعديل رقم 15 لسنة 1998 النص التالي: "لا يجوز الزواج بأكثر من واحدة الا بأذن القاضي ويشترط لإعطاء الاذن تحقق الشروط التالية: 1- موافقة الزوجة الاولى على زواج زوجها امام المحكمة..". اي لا زواج بثانية من دون موافقة الزوجة الاولى، فضلا عن الشروط الاخرى الواردة في البند ثانيا من المادة الثالثة من القانون انه المنع القانوني.

  • الاسس الحديثة للعلاقة بين الزوجين: رسم الفصل 23 من المجلة التونسية العلاقات المطلوبة الواجب وجودها بين الزوجين، وفيما يجب لكل من الزوجين على صاحبه اذ يعد هذا الفصل بمثابة الميثاق الاسري المتعلق بالواجبات الاسرية وهي اسس حديثة تنسجم واحكام الاسرة في وجودها المعاصر، واعتمد النص مبدأ المساواة في الواجبات بين الزوجين المؤسس على حسن المعاشرة، فضلا عن الغاء مصطلح (واجب الطاعة) المفروض فقها على الزوجة والذي اصبح خارج التعامل لان القيام بالواجبات الزوجية من قبل الزوجين دون تمييز بينهما تلغي واجب الطاعة وهذا النص بحد ذاته يعد تجديدا لأحكام الفقه الاسلامي.

ومن خلال نص هذا الفصل يبرز مبدأ المشاركة بين الام والاب في تسيير شؤون الاسرة وتربية الابناء وتدبير شؤونهم، لذا تسهم الام بدور ايجابي في الاسرة يفضي الى الخير والمنفعة لكافة افراد الاسرة، كونها اهلا لممارسة احكام الولاية على ابنائها القاصرين، ما يصب في صلب الوظيفة الاجتماعية للأمومة وهو كسر للاحتكار الابوي لهذه المهام التي تعاني منها الامهات في كثير من البلدان المتمسكة بالهيمنة البطريركية، وهذا السلوك يعد استجابة للنص القانوني الذي تضمنه الفصل المذكور والذي ينص على: "... ويتعاونان على تسيير شؤون الاسرة وحسن تربية الاولاد وتصريف شؤونهم في التعليم والسفر والمعاملات المالية".

واستجابة لمبدأ المشاركة والمساواة فإن النص يوجب على الام الانفاق على الاسرة ان كانت ذات سعة مالية فإن امتنعت الام في هذا الالتزام يمكن الزامها قضائيا به حماية لحاجات الابناء اولا وتحقيقا لما يتطلبه العيش المشترك ثانيا. وهذا التوجه من قبل المشرع التونسي ألغي ما استقرت عليه الاحكام الفقهية الاسلامية التي اشترطت على الاب وحده واجب النفقة اذ عليها واجب الانفاق من دون ثبوت شرط اعسار الاب وهي اذ تقوم بذلك لا باعتبارها تصرفا شخصيا يندرج تحت احكام الايثار بل هو واجب قانوني ملزم يندرج تحت احكام المشاركة والمساواة وهكذا تكون القواعد القانونية باعتبارها قواعد سلوك بما ينبغي ان يكون وباعتباره قاعدة ملزمة تطبق ولو بطريق الجبر ان استلزم الامر ذلك. ويلاحظ ان النص أبقى على رئاسة الاب للعائلة وهذه الرئاسة ليس من قبيل فرض الطاعة بل باعتبارها عملا اداريا ينزع نحو مسيرة الاسرة الى العيش الافضل.

ليس للفصل 23 من المجلة نص نظير في قانون الاحوال الشخصية العراقي (المتعلق بالمساواة والمشاركة بين الزوجين). إن عدم وجود نص في القانون يوجب على القاضي العمل بحكم المادة الاولى فقرة (2) التي تنص على: "إذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه فيحكم بمقتضى مبادئ الشريعة الاسلامية الاكثر ملاءمة لنصوص هذا القانون". ومعلوم ان احكام الفقه الاسلامي التي يتكئ هذا النص عليها تخلو من مبادئ المساواة والمشاركة التي جاء بها الفصل المذكور في مجلة الاحوال الشخصية التونسية، فضلا عن ان النفقة قانونا "تجب على الزوج من حين العقد الصحيح ولو كانت الزوجة مقيمة في بيت أهلها"، بحسب المادة الثالثة والعشرين من قانون الاحوال الشخصية. وان الهيمنة البطريركية المستمدة من ذلك الفقه تستقر في العديد من نصوص القانون العراقي. امام هذا الوضع فان المشرع العراقي مطالب بأن يحذو حذو المشرع التونسي.

  • حل عقد الزواج: تدب الخلافات بين الزوجين لاسباب مختلفة يصبح معها استمرار العلاقة الزوجية غير ممكن، بسبب الخلافات المستحكمة وقد وضعت الاحكام الشرعية للتعامل مع هذا الواقع المفضي الى فض الرابطة الزوجية فكان هناك (الطلاق) وهو الحلال البغيض المفوض به الزوج اذ نص الفصل 29 على : (الطلاق هو حل عقد الزواج) وهذا الحل لا يقع الا لدى المحكمة الفصل (30). وبموجب الفصل (30) الغى المشرع التونسي الطلاق الشرعي المعروف في الفقه الاسلامي، اي الغاء الوساطة الكهنوتية لرجل الدين وجعله طلاقا قانونيا. وخيرا فعل لان الطلاق الذي تنجزه المحكمة يمنع الزوج من التعسف في ايقاع الطلاق لخطورة التعسف وآثاره المدمرة على الاسرة والاولاد، وان تدخل القاضي في هذا الشأن الخاص مطلوب فعلا اذ يمكن من خلال حكمته وترويه ان يصلح ذات البين ان كان لها مقتضى ومنعا لترخيص العلاقات الاسرية، وان ترك امره للقاضي لا يعد منعا لحق الزوج في ايقاعه وانما هو عمل تنظيمي القصد منه امكانية ديمومة العلاقات الاسرية ضمانا لأفراد الاسرة وللأولاد على وجه الخصوص.

وطلب ايقاع الطلاق يتم بطرق ثلاثة في التشريع التونسي: الأول، بتراضي الزوجين. الثاني، بناء على طلب أحد الزوجين بسبب ما حصل من ضرر وهنا يتساوى الزوج والزوجة في طلب الطلاق. الثالث، يتم بناء على رغبة الزوج في انشاء الطلاق او مطالبة الزوجة به (الفصل31) من المجلة. وهذا يعني ان كلا من الزوجين ممنوح ذات الحق في حل عقد الزواج وبالتساوي، ولزوم ان يكون الحل عن طريق القانون وليس عن طريق الاحكام الشرعية بتوسط رجل الدين. وفي هذا الصدد قضت محكمة التعقيب التونسية بحكمها بالعدد 11896 في 30 // 1984 بما يلي: "الطلاق انشاء من الزوج او مطالبة من الزوجة به. هو ناشئ عن ارادة منفردة صادرة عن أحد الزوجين ونافذة الاثر وجوبا بحكم القانون، وبناء على ذلك فإن الطرف المقابل لا يملك حقاً للتصدي. كما ان محكمة الموضوع ومحكمة الدرجة الثانية لا تملكان اية سلطة في تقدير وجاهة الطلب من عدمه"(18).

اما الطلاق في القانون العراقي فهو رفع قيد الزواج من الزوج حصرا واستثناء عن ذلك الحصر يكون من الزوجة إذا كانت قد فوضت به نصا في عقد الزواج وهو محكوم بالجانب الشرعي. اذ الغالب من حالات الطلاق تقع على يد رجل الدين ثم رفع دعوى بالطلاق الواقع خارج المحكمة لفرض تصديقه ويعتبر الحكم القضائي بتصديق الطلاق كاشفا لواقعة الطلاق وليس منشئا لها، خلافا للقانون التونسي الذي يعتبر حكم الطلاق منشئا له، فضلا عن الطلاق في القانون العراقي لا يقع الا وفق الصيغة الشرعية المرسومة له خلافا للقانون التونسي فان حكم الطلاق يقع ضمن احكام الحكم القضائي الذي تصدره المحكمة. يلاحظ في التطبيقات القضائية العراقية من النادر جدا ان ترفع دعوى الطلاق امام القاضي في المحاكم العراقية مباشرة لأنها تقع عادة امام رجل الدين ووقوعه امام رجل الدين صاحبته ظاهرة تفشي التعسف في ايقاع الطلاق ودليل ذلك احصائيا اعداد الدعاوى الكثيرة التي ترفع سنويا من قبل المطلقات للمطالبة بالتعويض عن الطلاق التعسفي، اذ كانت المرأة وما زالت ضحية لتلك الرخصة الفقهية المنفلتة الممنوحة للزوج في ايقاع الطلاق، وما زاد الطين بلة هو لزوم موافقة الزوج عندما تطلب الزوجة الخلع.  

  • قضية ثريا (زواج المسلمة من كتابي): بإجماع المذاهب الاسلامية يحرم زواج المسلمة بغير المسلم كتابيا كان ام ملحدا. وقد استقر قضاء محكمة التعقيب على ما اجمعت عليه المذاهب الاسلامية، وكانت قضية (حورية) المعروفة في القضاء التونسي، وهي المسلمة المتزوجة من كتابي، اذ قضت المحكمة المذكورة بفسخ عقد الزواج حينئذ. لكن يلاحظ ان الفصول المتعلقة بموانع الزواج (من 14 الى نهاية الفصل 20) لم يرد فيها نص يعتبر اختلاف الدين مانعا قانونيا من الزواج ورغم ذلك فان الاحكام القضائية لمحكمة التعقيب التونسية استقرت على ذلك فترة طويلة من الزمن حتى جاءت الدعوى المعروفة بدعوى ثريا والتي عرضت على القضاء التونسي. خلاصتها: زواج ثريا المسلمة من كتابي اذ رفع اخوتها الدعوى ضدها لحرمانها من الارث باعتبار مرتدة. اصدرت محكمة التعقيب حكمها في 5 شباط 2009 المتضمن قبوله شكلا ورفضه اصلا. اي رد الدعوى. وفي قراءة لحكم رد الدعوى وجد ان محكمة التعقيب استندت في رفضها الدعوى على وفق مبادئ ثلاثة وحسبما هو وارد في تسبيب الحكم وهي: المبدأ الأول، لزوم الفصل بين المعتقد الشخصي وحقوق الفرد المدنية وذلك بمنع تعليق تمتع الفرد بحقوقه المدنية على معتقده الشخصي. المبدأ الثاني، اختلاف الدين لا يترتب عليه اختلاف في الاهلية لان التونسيين متساوون امام القانون كما ينص الدستور التونسي على ذلك، وهذا يعني ان اهلية المسلم مساوية لأهلية الكتابي في التعاقد ولما كان الزواج عقدا والاهلية متساوية فإن ابرام عقد الزواج بالصيغة المبسوطة فيه موافقة لأحكام الدستور. المبدأ الثالث، ان صحة عقد الزواج محكوم بها ايضا في العهود والمواثيق الدولية المصادق عليها من قبل الجمهورية التونسية والتي اصبحت قانونا وطنيا يبيح للمرأة حريتها في الزواج لذا فإن عقد الزواج مدرج ضمن احكام المشروعية وعليه قررت محكمة التعقيب رفض دعوى المدعين(19).

لم يدخل القضاء العراقي في اجتهاد من هذا النوع لوقوعه تحت سطوة الموروث الفقهي الاسلامي والمذهبي، فضلا عن النص القانوني الجازم بعدم جواز زواج المسلمة من غير المسلم.

 

الهوامش

  1. جواد على، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار احياء التراث العربي، - آوند دانش للطباعة والنشر، الجزء الخامس، ص
  2. هادي عزيز علي، قانون الاحوال الشخصية-الواقع والطموح، دار الرافدين، بيروت، 2019، ص
  3. حامد الجندلي، قانون الاحوال الشخصية التونسي وعلاقته بالشريعة الإسلامية، منشورات مجمع الاطرش للكتاب المتخصص، تونس، 2011، ص
  4. محمد شفيق العاني، احكام الاحوال الشخصية في العراق، معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، 1970، ص
  5. المادة الثالثة من قانون الاحوال الشخصية.
  6. الفقرة اولا/1 من المادة الثالثة من قانون الاحوال الشخصية في اقليم كردستان.
  7. المادة 4 من قانون الاسرة المغربية.
  8. المادة الرابعة من القانون الاحوال الشخصية .
  9. احمد الكبيسي، الوجيز في شرح الاحوال الشخصية، ج 1، ط2، شركة العاتك، 2006، ص42.
  10. فاطمة الزهراء بن محمود وسامية دولة، التعليق على مجلة الاحوال الشخصية، ط1، مجمع الاطرش للكتاب المتخصص، تونس، 2015، ص 44
  11. الجندلي، ص 454 .
  12. بن محمود، ص 62 .
  13. محمد زيد الابياني، شرح الاحكام الشرعية في الاحوال الشخصية، مكتبة النهضة بيروت، بغداد، ج1، من دون سنة نشر، ص 103.
  14. مصطفى صخري، مجلة الاحوال الشخصية معلقا عليها بأحدث القرارات التعقيبية، المغاربية لطباعة واشهار الكتاب، تونس، 2013، ص17 .
  15. الجندلي، ص267 .
  16. الطاهر حداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، دار محمد علي للنشر، صفاقس، تونس، ص 64 .
  17. ابن محمود، ص 96 .
  18. المصدر السابق، ص 96.
  19. المحامي مصطفى الشريف، قراءة في حكم ثريا، مجلة المحاماة التونسية، عدد نيسان 2012.