
لا يعنينا هنا المنظور الديني او المذهبي او الدستوري فيما يخص زواج القاصرات بشكل خاص والزواج المبكر بشكل عام، بل يعنينا ما يقوله علم النفس والطب النفسي.. فهو اختصاصنا وينبغي ان نؤدي واجبنا في مسألة خطرة تخص جيل الشباب والأسرة والمجتمع والدولة ايضا.
نبتدأ القول بحقيقة.. أن استقرار المجتمعات وأمنها ورقيها لا تتحقق الا بالاعتناء بالأسرة، وتوفير الظروف الملائمة لضمان قيامها بأدوارها في بناء جيل قادر على الاسهام بشكل ايجابي في التنمية لضمان العيش في مجتمع آمن يستثمر رأسماله البشري أسمى استثمار. ولا شك أن الأسرة المتوازنة المبنية على اساس من الترابط والألفة والاحترام، مكسب لا يتحقق الا إذا ارتكزت هذه الأسرة على زواج سليم البناء.. والزواج بهذا المعنى لا يتحقق الا بكمال الأهلية والنضج البدني والعقلي، والقدرة على تحمل مخاطر المسؤولية والأعباء المترتبة عليها.
العراق.. بالمرتبة الأولى
تفيد التقارير الصادرة من وزارة التخطيط ان العراق يحتل المرتبة الاولى بين الدول العربية من حيث نسبة زواج القاصرات. ولهذه الظاهرة الاجتماعية اسباب يشترك فيها المجتمع العراقي مع المجتمعات العربية واخرى ينفرد بها. فالعراق عاش أربعين سنة حروبا كارثية مع (إيران، الكويت، امريكا، التحالف الدولي) تبعتها حرب طائفية لسنتين، وتفجيرات إرهابية، وميليشيات.. راح ضحيتها الملايين من العراقيين بين قتيل ومفقود ومعوق ومهاجر، تركوا وراءهم بنات قاصرات بلا معيل.. فضلا عن حصار اقتصادي استمر ثلاثة عشر عاما اكل فيها العراقيون خبز النخالة. ولهذين السببين (الحروب وعسر الحال) اضطر عديد من الاسر العراقية الى حرمان بناتهن من الدراسة وتوجيههن الى سوق العمل او الخدمة في البيوت، او تزويجهن من رجل ميسور الحال وأخذ (المقسوم) من مهورهن.
وكان للنظام السابق دور في ذلك بتشجيعه الزواج المبكر واقامة حفلات الزواج الجمعي للشباب ومنحهم مكافآت واشاعة الشعور بالترحيب به عبر تلفزيون (الشباب) بوصفه فضلا او مكرمة من الحكومة مع انه كان يضم قاصرات لا تسمح القوانين بزواجهن، لكن النظام السابق شجعها وأصدر قرارا في حزيران 2001 جرى الترويج له في ظل انعدام وجود منظمات معنية بحقوق الانسان.
اما الاسباب التي يشترك فيها العراقيون مع اشقائهم، فإن المزاج العربي يميل الى الزواج من الفتيات الصغيرات في السن لاسيما في ارياف البلدان العربية، وان التقاليد العربية تشجع عليه، وتروج له في اغانينا واشعارنا، بل حتى في تعابيرنا، فنحن نصف بنت الـ (14سنة) بالقمر في ليلة اكتماله.. كيف يكون مدّورا وجميلا في ليلته الرابعة عشرة.. وهذا ناجم من المنظور العربي للمرأة الذي يختزل وجودها الى وعاء للجنس، وانه كلما كان الجسد غضّا كان امتع حتى لو كان خامد المشاعر او مستسلما لحاجة مادية او دفعا لأذى.
وكان يفترض ان تقل نسبة زواج القاصرات في الزمن الديمقراطي لظهور منظمات نسوية واخرى مدنية تدافع عن حقوق المرأة، لكن واقع الحال يشير الى انها زادت بعد التغيير، وان كثيرا من الميسورين تفننوا في ابتكار وسائل (شرعية) للزواج من قاصرات.. وأن بعضهم يتزوجون ويطلّقون مرات في السنة الواحدة!
ماذا يقول العلم؟
تؤكد الدراسات الطبية والسيكولوجية ان لزواج القاصر أضرارا فادحة، ليس فقط لعدم اكتمال نضجها البيولوجي والفكري، بل ولأنه غالبا ما ينتهي بالطلاق لعدم إدراك القاصر لمسؤولية الزواج. والأخطر سيكولوجيا ان الفتاة ترتعب من حصول الدورة الشهرية لديها ورؤيتها للدم، فكيف لطفلة بعمر التاسعة تفض بكارتها بعمل لا تجد له تفسيرا سوى انه عدوان عليها يترتب عليه كرهها للرجل والزواج والعملية الجنسية التي تتحول لديها من متعة الى قسوة بشعة! ستفهمه فيما بعد بأنه كان اغتصابا واستعبادا.
دراسات عربية ميدانية
من بين أهم الدراسات العربية دراسة مغربية رصينة بعنوان (دراسة تشخيصية حول زواج القاصر) توصلت الى ان الزواج المبكر يؤدي الى زيادة التوتر والقلق لدى الفتيات القاصرات والشعور بالعزلة والاكتئاب، ويزيد من خطر الاصابة باضطرابات الصحة العقلية. وأن (الزواج والحمل المبكر والولادة المبكرة تؤدي الى مخاطر صحية جمة على القاصر نفسها، وعلى اولادها، اذ يؤدي الى الرفع من نسبة احتمال اصابة المولود بإعاقة، وأن ارتفاع نسبة وفاة المواليد الجدد يرفع بشكل كبير مخاطر الإجهاض).
وأوصت هذه الدراسة الرصينة التي انجزها فريق من الباحثين بوجوب توافر طابع (الرضائية) في الزواج، وتسجيل عقود الزواج قضائيا، والالتزام بقرارات الأمم المتحدة التي حددت سن الزواج بأن لا يقل عن 18 سنة. (الجزائر حددته بـ 19 سنة).
ما المطلوب.. عراقيا؟
ننوه الى ان ظاهرة زواج القاصرات صارت تحظى باهتمام عالمي لكونها تمثل انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان، بانتهاك حق الفتاة في الحرية والتعليم والصحة والحياة الكريمة، وعليه فقد عملت المنظمات الحقوقية الدولية على (توعية المجتمع والتشريعات القانونية لحماية حقوق الفتيات القاصرات وتوفير الدعم اللازم لهن للتخلص من هذا الظلم والإساءة التي يتعرضن لها)، وفقا لوكالات الأنباء.
ولدى متابعتنا الدعوة الى (تعديل قانون الأحوال الشخصية) وجدنا مواقف متصلبة وتعليقات لا تليق بين الضد وضده النوعي ولا تخدم الأسرة العراقية ولا المجتمع ولا الدولة، فيما تتطلب معالجتها احداث تغييرات في قانون الاحوال الشخصية لا تبيح للقاضي تزويج القاصر، وان يكون الزواج في المحاكم الرسمية، ولا يسمح بالزواج الشرعي خارج المحاكم الا للمكاتب المجازة والتي تتمتع بسمعة طيبة.
والمؤلم ان الكثير من البرلمانيين لا يعلمون أن معظم جرائم الشرف التي اشارت التقارير الى تزايدها الحاد في العراق: بلغ 700 حالة في السنة! كانت بين قاصرات أرغمن على الزواج او هربن من بيوت اهليهن، فضلا عن أن زواج القاصرات يعد جريمة في نظر القانون الدولي الخاص بحماية الأطفال ومعاهدة حقوق الاطفال التي تعدّ زواج القاصر حرمانا لها من حق التمتع بمرحلة الطفولة وحق التعليم.. والعراق من الدول الموقعة عليها. والغريب ان الكثير من نواب (ونائبات!) البرلمان العراقي لم يفكروا بأن تزويج البنات بعمر مرحلة الطفولة يعني تحويلهن الى ربات بيوت جاهلات وحرمان المجتمع والوطن من مصادر طاقة تنموية اقتصادية واجتماعية وثقافية.
مبارك لمن طالبوا بتعديل قانون الاحوال الشخصية، فبتعديلهم شرعنوا الزواج بطفلة في الثالث الابتدائي لا نجد لمن يفعلها وصفا غير انه مريض نفسيا، فيما سيكون مختلا عقليا ان وافق على تزويج ابنته بعمر التاسعة.