أيلول/سبتمبر 12
   

 

 

التقيت د. بارق شُبَّر أول مرة في عمَّان الأردن في النصف الثاني من سنة 1991 في وزارة التخطيط الأردنية، عندما كنت خبيرا اقتصاديا في برنامج الأمم المتحد الإنمائي UNDP ومنسبا للعمل في الوزارة. وكنت حينئذ اساهم، مع خبرات أردنية رفيعة المستوى بقيادة د. زياد فريز وزير التخطيط حينئذ، من بين عدة مهام، في اعداد خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الأردنية 1993-1997. وعند لقائه كان د. بارق خبيراً اقتصادياً زائراً مبعوثاً من قبل وكالة التعاون الفني الألمانية GTZ. في ذلك الوقت كان هو أيضاً مهتماً بقضايا عديدة من بينها ما يتعلق بالإطار الكلي للخطط الاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي.

    واستمر التواصل بيننا، لاسيما بوجود اهتمامات علمية/ اقتصادية مشتركة. ومنذ ذلك الوقت كان د. بارق يثير مسألة تكوين مَنَصَّة platform تمثل الاقتصاديين العراقيين. وتَكَرَرَ ذلك بعد تغيير 2003، حيث تباحثنا بالأمر مجدداً في سنة 2004. وبالرغم من اتفاقنا على إنشاء ما أطلق عليه د. بارق، في حينه، على المَنَصَّة، اسم "شبكة الاقتصاديين العراقيين" إلا أن النزاع في العراق خلال السنوات 2004-2008 كان يعرقل أي مجهود بهذا الاتجاه، لا سيما وأننا كنا نميل منذ البداية لأن يكون أحد الأعمدة الأساس هو مساهمة الاقتصاديين العراقيين في "داخل العراق" في الشبكة. بعد ذلك، ونتيجة للهدوء النسبي للأوضاع في العراق في نهاية 2008، وما تبعه من اتصال د. بارق بالعديد من الاقتصاديين والمهنيين والمهتمين العراقيين في الداخل والخارج أنشئت الشبكة بإسناد مجموعة رصينة من الاقتصاديين والمهتمين وكذلك الخبراء بشؤون النفط والطاقة واُطلِق الموقع الالكتروني للشبكة في 2009. وكعادته وإندفاعه، كانت مساهمة د. بارق مساهمة بارزة في كل هذه الخطوات.

وكان الاتجاه منذ البداية والذي أنعكس في "التوجه الأساس" للشبكة هو تشجيع البحث والنشر فيما يتعلق بالسياسات والاستراتيجيات التنموية الاقتصادية والاجتماعية والمواضيع الأخرى المتصلة بها، لا سيما تلك التي تصب في تحقيق هدف التنويع الاقتصادي والتخلص من الأحادية الريعية، وما يتفرع من ذلك من توصيات، تتاح لمتخذ القرار العراقي، من قبل الاقتصاديين والمعنيين المهتمين العراقيين الراغبين، من مختلف التوجهات، وبدون أي تمييز، وعلى أساس مجَّاني وطوعي.

وفي وقته كنت أكتب أوراقي ومنشوراتي الاقتصادية بالانكليزية. غير أن د. بارق كان يَلِحُ علي أن أكتب بالعربية لأن الهدف هو تكوين رأي عام اقتصادي يتعلق بالعراق، من ناحية، وضرورة التواصل مع الاقتصاديين العراقيين بالداخل والخارج، من ناحية أخرى. وهذا ما قمت به فيما يتعلق بالنشر في الشبكة، عموماً.

وخلال السنوات 2009-2013 نَجَحَ الموقع الإلكتروني للشبكة باستقطاب عدد كبير جداً من الاقتصاديين والمهنيين والمهتمين من مختلف الفروع التنموية، من ناحية، والاتجاهات الأيدولوجية، من ناحية أخرى. وخلال هذه السنوات الأربع من تكوين الشبكة توفر ما يكفي لإمكانية انعقاد المؤتمر الأول للاقتصاديين العراقيين.

مؤتمر الاقتصاديين العراقيين، بيروت: 30 آذار - 1 نيسان 2013

     نشأت فكرة انعقاد المؤتمر باندفاع ورغبة من قبل كافة أعضاء فريق أمناء الشبكة، وبالطبع في مقدمتهم د. بارق، والذي كان المنسق الأساس لهذه الجهود. وتم اقتراح عدد من الأماكن لانعقاد المؤتمر، ومن ضمنها بغداد. ولكن تم الاتفاق على بيروت، لا سيما وان سفر العراقيين إلى بيروت كان ميسراً. هذا إضافة للحصول على أسعار مناسبة للإقامة ووجود منظمة للأمم المتحدة فيها (اسكوا) ومقومات النشر والاعلام وغيرها. وكان د. بارق منسق لجنة المؤتمر الفنية.

    ولقد حقق المؤتمر نجاحاً باهراً لا سيما وأن من حضره من الاقتصاديين والمهنيين، من مختلف الفروع الاقتصادية والاجتماعية بما فيها الطاقة، فاق كل التوقعات، من ناحية العدد والمستوى والمكانية العلمية/ المهنية والصدقية والتأثير. ولقد انصبت محاوره على جبهة واسعة من القضايا التي تتعلق بالتنمية والتنويع الاقتصادي، لا سيما المستدامين، والقضايا النقدية والمالية والمياه والبيئة والطاقة والنفط، الخ. ولقد اصدر المؤتمر توصيات في نهاية أعماله. كما أن كافة أوراق المؤتمر نُشِرت في حينه في موقع الشبكة الإلكتروني وتفرعت عنها أوراق ومداخلات نُشرت في الموقع أيضاً وفي غيره من المواقع. مع العلم أن جميع من حضر المؤتمر، تحملوا كافة تكاليف السفر والطعام والإقامة والتنقل، الخ، على حسابهم الخاص.

موقف الشبكة أثناء الخلاف بشأن اقتراض وزارة المالية من البنك المركزي: 2009-2012

    بعد وصول متوسط سعر النفط الخام العراقي إلى حوالي 123 دولارا للبرميل في حزيران/ يونيو 2008، تسببت الاضطرابات الاقتصادية الدولية التي انطوت على ظهور بوادر الأزمة المالية/المصرفية العالمية، في منتصف تلك السنة، وما تبعها من انخفاض حقيقي و/أو متوقع للطلب على النفط في العالم، إلى تدهور أسعار النفط حتى وصل متوسط سعر النفط العراقي إلى 38 دولارا للبرميل في شباط/ فبراير 2009. وهنا برزت مظاهر لخشية وزارة المالية العراقية من أن يقود ذلك إلى عدم امكانية تنفيذ نفقات الموازنة الاتحادية (العامة) القائمة أو المخططة. ووصل الأمر إلى ظهور دعوات لاستخدام الاحتياطيات الدولية لدى البنك المركزي بشكل غير مألوف وغير مهني؛ والتي لم تتحقق نتيجة للاعتراضات المهنية الرصينة التي أثيرت في حينه على هذه الدعوات، لا سيما في موقع الشبكة. غير أن ما أثار الخلاف بين الإدارة الحكومية ومحافظ البنك المركزي في حينه (د. سنان الشبيبي)، والذي استمر خلال السنوات 2009-2012 (أي حتى إقالة المحافظ في تشرين الأول/ أكتوبر 2012)، هو رفض المحافظ بأن يقوم البنك المركزي بإقراض وزارة المالية لتمويل العجز المتوقع او المحتمل في الميزانية الاتحادية/ العامة. ويعود سبب الرفض إلى أن قانون البنك (الصادر في سنة 2004) يمنع مثل هذا الإقراض "مباشرة"؛ بالرغم من سماحه أن يتم ذلك من خلال "السوق الثانوية". من جانب آخر، لم يكن مثل هذا الاقراض حيوياً، في حينه ولا في السنوات الثلاث التي أعقبته، لأنه كان تحت تصرف وزارة المالية قناة تمويل بديلة تتمثل بفوائض ميزانية متراكمة ملموسة في صندوق تطوير العراق Development Fund of Iraq, DFI وصل مستواها في نهاية 2012، عند إقالة محافظ البنك المركزي، حوالي 18 مليار دولار (حسب تصريح صحفي لبعثة صندوق النقد الدولي للعراق في 25 آذار/مارس 2014). وبالنتيجة نشأ توتر وأزمة "مستمرة" بين الإدارة الحكومية والبنك المركزي. وكانت أهم دوافعها الخشية غير المبررة من عدم إمكانية تمويل عجز محتمل في الميزانية العامة، من ناحية، وعدم تحبيذ استمرار استقلالية للبنك المركزي بمستوى لا يقبلها الهيكل المؤسسي في العراق، إلى وقتنا هذا، من ناحية أخرى. وعلى كل حال، بعد شباط 2009 أخذ سعر النفط بالارتفاع، بعد تنفيذ حزم انقاذ bailing out الوضع والجهاز النقدي/ المالي في العالم، لا سيما من قبل الولايات المتحدة. إذ ساهم تنفيذ هذه الحزم في تحفيز النمو الاقتصادي في العالم، ومن ثم ارتفاع الطلب العالمي على النفط، ومعه أسعار النفط، حتى وصل متوسط سعر النفط العراقي إلى 73 دولارا للبرميل في كانون الأول/ ديسمبر 2009. واستمر بالارتفاع بعد ذلك ليصل إلى أعلى مستوياته وقتئذ، خلال السنوات 2011 وحتى منتصف 2013، والذي تخطى المائة دولار للبرميل. وبذلك انتفت الحاجة لتمويل ملموس من خلال السحب من ودائع وزارة المالية في صندوق تطوير العراق (قبل إلغائه في 2014) أو بتمويل إقراض مباشر من قبل البنك المركزي أثناء الفترة حتى نهاية 2012.

ومنذ ظهور الأزمة في 2009 وحتى إقالة المحافظ في 2012 نشط موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين، بتنسيق فَعَّال من قبل د. بارق شُبَّر، من خلال مداخلات وأوراق ومقالات مهنية رصينة، ببيان الإمكانيات والاحتمالات للتمويل. ولقد ساهمْتُ، من جانبي، بعدد من الأوراق والمداخلات في هذا المجال. وعلى كل حال، كان من أهم دوافع الإدارة الحكومية، في الحقيقة، هو تقييد استقلالية البنك المركزي واستبعاد المحافظ، الذي أقيل بطريقة متسرعة غير مناسبة، وهو الرجل المهني الوطني النظيف. ليعاد له اعتباره في ما بعد تغيير الادارة الحكومية.

كتب إلكترونية مجانية في موقع الشبكة

    بالإضافة للأوراق والمقالات والمداخلات والتعليقات التي كانت تُنشر في موقع الشبكة، حرص د. بارق على نشر ما يمكن من كتب مطبوعة، ورقياً، للعديد من الاقتصاديين وغير الاقتصاديين قديمة وحديثة، وبعضها أصبح مفقوداً في السوق. وفي السنوات الأخيرة اقترحت عليه الترويج لنشر كتب "إلكترونية" online مجانية. ولقد لاقى ذلك حماسة وتشجيعاً من قبله. ولقد بدأت من جانبي بتنفيذ هذا الاقتراح من خلال تجميع أوراقي المنشورة في موقع الشبكة، وغيره من المواقع ووسائل التواصل البحثية والنقاشية، باللغة العربية. ولقد كان النشر في موقع الشبكة واحداً من أهم نشاطاتي خلال الفترة 2009-2024 والذي ما زال مستمراً (آخر ورقة نشرتها في 30 حزيران 2024) وبإسناد لا يكل من قبل د. بارق حتى تاريخ وفاته. ولقد وَثَقْتُ وجمعت أغلب الأوراق التي نشرتها باللغة العربية، بعد تحديث ومراجعة معظمها، في ثلاثة مجلدات نُشرت في موقع الشبكة وهي متاحة في الموقع مجاناً. إني اعتبر عملية التحديث، بالرغم من الجهد والوقت الذي تتطلبه، مظهراً أساسياً وعملية مثمرة للتفاعل بعد النشر، وذلك بغية الأخذ بالاعتبار الملاحظات والتعليقات التي ترد حول الأوراق المنشورة. إذ أني مع معظم الأوراق التي أنشرها أعِدُ، لكل منها، ورقة مقابلة أطلق عليها تعبير "بعد النشر". وحتى نيسان 2023 أعدت نشر معظم أوراقي التي نشرتها بالعربية، أساساً في الشبكة، بعد تحديث معظمها، في ثلاثة كتب إلكترونية مجانية صادرة عن الشبكة. ولقد بلغ عدد صفحات المجلدات الثلاث (حجم A4) أكثر من ألف صفحة. وفيما يلي الروابط الإلكترونية للمجلدات الثلاث:

المجلد الأول:

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2021/02/Merza_Economic__Energy_Iraq_Volume_I.pdf

المجلد الثاني:

http://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2021/02/Merza_Vol_2_Economic__Energy_Iraq.pdf

المجلد الثالث:

https://iraqieconomists.net/ar/wp-content/uploads/sites/2/2023/04/Merza-Iraq__the_World_Volume_III.pdf

التفاعل والتباين والاختلاف

انطوت الأوراق والمداخلات والتعليقات والنقاشات في موقع الشبكة، منذ تأسيسه، على طيف واسع من التحليلات ووجهات نظر متشابهة ومتباينة. وهذه حالة صحية قادت إلى تحليلات ومناقشات ونتائج وتوصيات مثمرة وخلَّاقة. ويحسب لمنسق الشبكة والمشاركين في البحث والنشر والنقاش ذلك. ولكن ثارت أيضاً بعض من خلافات شخصية، التي قادت، في بعض الأحيان، إلى تراشق غير مناسب، لا سيما خارج موقع الشبكة، خلال بعض السنوات من الفترة 2009-2014. غير أن هذا التراشق الشخصي، مع حِدَته في بعض الحالات، أمكن تلافيه لا سيما بمبادرة من شخصيات في فريق أمناء الشبكة وخارجها، لا سيما د. بارق، بحيث لم يؤثر ذلك بشكل ملموس على نشاطات الشبكة وانجازاتها. ولكن بعض النتائج السلبية المحدودة تمثلت في انسحاب/ امتناع بعض من الاقتصاديين والمهنيين المحترمين من المساهمة في موقع الشبكة، مما يؤسف له. ولكن بالرغم من هذه التعثرات القليلة والمحدودة فإن الشبكة استمرت برغم هذه الخلافات بتوجهها المهني الرصين، وهذا يمثل إنجازاً كبيراً وصفحة مشرقة.

 خسارة جسيمة

    من معرفتي به خلال أكثر من ثلاثة عقود تبين لي واضحاً أن د. بارق كان رجلاً متفانياً وإيجابياً ومثابراً في توجهاته المهنية (والحياتية)، عموما، ومسانِداً بإخلاص لاستمرار موقع الشبكة، خصوصاً. ولقد تبين جانب من ذلك في اتصالاته المستمرة بالمهنيين والاقتصاديين وغيرهم ودعوتهم إلى الكتابة مباشرة في موقع الشبكة أو إعادة نشر أوراقهم المنشورة، الخ. كما تبين، من جانب آخر، في توزيع الأوراق والمقالات والمداخلات المنشورة على قائمة واسعة من العناوين الالكترونية ودعوة الصحف والمواقع المختلفة لإعادة نشر ما ينشر في موقع الشبكة. ولا أدل على ذلك من احتفاظه بعناوين إلكترونية بريدية Emails لأكثر من 1,100 عنوان، يُحَدِثُها باستمرار. وهي مقسمة إلى عناوين الاقتصاديين والمهنيين، الخ، حوالي ألف عنوان، والمتبقي عناوين الوزراء ومتخذي القرار ومجلس النواب وكبار موظفي الدولة في العراق. حيث كان، بعد نشر المقالات والأوراق والمداخلات والتعليقات، الخ، في موقع الشبكة يرسلها أيضاً لهذه العناوين في "نشرات بريدية" دورية.

من جانب آخر، نَظَّم د. بارق وساهم في العديد من عروض presentations زووم Zoom أثناء وبعد سنة كوفد-19، 2020. وكان يحرص على الظهور والمشاركة والمساهمة في النقاشات في مختلف العروض. ولا أدل على نشاطه المتميز، وتفانيه المثير للإعجاب والتقدير، من اشتراكه في نقاشات العروض المختلفة وهو في فراش المرض وأنابيب الأوكسجين ظاهرة في انفه.

ولا يمكن أن أنسى أنه أتصل بي قبل أقل من أسبوع من وفاته، وهو في المستشفى وكان يصعب عليه الكلام، ليحثني على الاسراع بإنهاء ورقتين بغية نشرهما في موقع الشبكة، كنت اخبرته بأني أقوم بإعدادهما ووعدته بنشرهما في موقع الشبكة. واحدة حول سوق الصرف وأخرى حول التفاوت الاقتصادي في العراق. مع العلم أني نشرت الورقة حول سوق الصرف، في الموقع الإلكتروني للشبكة، بعد مرور حوالي أسبوعين على وفاته. أما الأخرى فأنا في سبيل نشرها، في موقع الشبكة أيضاً.

لقد خسرنا في د. بارق شُبَّر، رجلاً قل نظيره، انساناً ومهنيا ووطنياً عالي الجناب.