يأتي الموت بدون استئذان حاملا معه رسالة كم ان الحياة هشة، وان كل واحد على أرض المعمورة، طال الزمن به ام قصر، سيغادر من دار الفناء الى دار البقاء. والسؤال الذي يتبادر الى الاذهان عادة ماذا ترك الراحل من بعده؟ هذا السؤال بطبيعة الحال لا يتعلق بالماديات فهي زائلة، وإنما بشيء آخر أهم. من بين جموع المغادرين، تجد هنالك من يرحل وقد ترك وراءه بصمة خاصة به لا يمكن أن تمحى، والتي تجعل من استذكاره فائدة وعبرة لغيره.
انتقل الدكتور بارق شبر الى رحمة الله تعالى عن عمر ناهز (78) عاما، ذلك الاقتصادي العراقي المعروف والمقيم في العاصمة الألمانية برلين منذ عقود. توزعت اهتمامات الدكتور شبر خلال مسيرته المهنية الطويلة ما بين اقتصادية، وسياسية وثقافية، ولكن يمكن القول بأن علم الاقتصاد كان له موقع الصدارة في نفسه ووجدانه وقد يكون ذلك بحكم الاختصاص.
نشر الراحل العديد من المقالات والتي تناولت مواضيع مختلفة منها ما يتعلق بسعر صرف الدينار العراقي، سبل اصلاح قطاع الكهرباء في العراق. كما تناول ايضا بالتحليل مسائل متعلقة بالموازنة العامة. ومن الملاحظ بأن الدكتور شبر لم يغادره ولع الكتابة فإذا به ينشر آخر مقال على موقع الشبكة قبل أيام قليلة من رحيله وكان تحت عنوان (حول العلاقة بين المعضلة الاقتصادية وازمات الدولة والمجتمع في العراق).
يمكن القول بأن واحدة من اهم إنجازات الراحل هي المبادرة والإسهام-بالاشتراك مع عدد من الاقتصاديين العراقيين-في تأسيس شبكة الاقتصاديين العراقيين عام 2009، والتي اخذت على عاتقها مهمة ليست بالهينة وهي نشر الثقافة الاقتصادية بين الجمهور، والعمل على تناول جملة من التحديات التي يواجهها الاقتصاد العراقي في مرحلة ما بعد 2003، بالتحليل والتعليق، في الوقت الذي كان العراق ساحة لعدد من الأحداث َ السياسية المفصلية.
استطاعت الشبكة وخلال فترة قصيرة ان تحتل موقعًا يشار له بالبنان، من خلال نشر العديد من البحوث والمقالات القيمة لنخبة متميزة من الاقتصاديين العراقيين، ومن أجيال مختلفة. جاء ذلك في ظل تولى الراحل مسؤولية المنسق العام للشبكة والتي اشتملت ايضًا على القيام بدور رئيس التحرير للموقع الالكتروني، باذلا في الوقت نفسه ما يستطيع من جهود عبر مد اواصر التعاون مع اكثر من جهة محلية او دولية منها على سبيل المثال لا الحصر البنك الدولي وبيت الحكمة وغيرهما. كان للدكتور بارق ايضا ذلك الحضور الفاعل في العديد من اللقاءات والأحاديث التلفزيونية في القنوات العراقية متناولا بالنقد والتحليل مواضيع الساعة الاقتصادية سواء ما يتعلق منها بالموازنة العامة او ملف الديون وغيرها الكثير من المواضيع الأخرى.
عرفت الدكتور شبر عن قرب من خلال عملي التطوعي كمحرر مشارك في الشبكة وعضو في فريق العمل، فوجدته بالرغم من وضعة الصحي، حريصًا على ادارة الاجتماعات الدورية الأسبوعية. وقد توفرت لي اكثر من فرصة لنتجاذب أطراف الحديث سواء بشكل منفرد او عبر ما يطرح في الاجتماعات الدورية لفريق العمل. لقد وجدت الدكتور شبر مستمعًا جيدًا، ولكنه في الوقت نفسه يعمل على تنفيذ ما يراه صحيحًا. كما وجدت فيه ايضًا ذلك الحرص الشديد على عمل الشبكة واستمرارها. ولاحظت ايضا انه في بعض المناسبات يحتد في النقاش ولاسيما مع البعض من الطارئين على الوسط الاقتصادي، ولاسيما عندما يتعلق الأمر بسوء استخدام المصطلحات الاقتصادية او عند الخلط بينها، وهو امر مفهوم خاصة في ظل ظروف العراق والتي كثر فيها عدد الطارئين على علم الاقتصاد. عاش الدكتور بارق وهو يحمل قناعة راسخة بأن مهنة الاقتصادي تختلف عن غيرها من المهن ومن يمارسها يجب أن يمتلك المعرفة والأدوات.
وقد يسأل سائل كيف تعرّفت على الدكتور بارق شبر ؟ أقول لقد كان سبب المعرفة يعود لمتابعتي لما ينشر في موقع الشبكة من بحوث ودراسات، وحيث ان تصميم الموقع الإلكتروني يتيح مجالًا للتعليق على المقالات المنشورة، فقد دأبت على التعليق بين الحين والآخر، فكان ذلك سببا لدعوتي في وقت لاحق للمشاركة والانضمام كعضو في فريق عمل الشبكة. واجد من باب الإنصاف القول بأن فريق العمل الذي كنت عضوا فيه كان يعمل بشكل خلية نحل، وترتب عن ذلك تحقيق جمله من الأنشطة غير المسبوقة للشبكة والتي تمثل في جزء منها بعقد سلسلة من الويبنارات وبشكل يكاد يكون شهريا، بالإضافة إلى مراجعة ونشر العديد من الدراسات، فضلا عن جذب مجموعة من الاقتصاديين الشباب من محافظات العراق المختلفة ليكونوا نواة لعمل الشبكة في المستقبل.
أما على الصعيد الشخصي فقد كان فريق العمل سببا وراء كسب صداقات ومعارف جديدة جمعتني وانا ابن مدينة بغداد باقتصاديين آخرين، فهنالك الاقتصادي ابن محافظة السليمانية والآخر من مدينة البصرة والآخر من أبناء مدينة الكاظمية ليعكس تكوين الفريق ذلك التنوع العراقي الثرى والمميز. ولقد كان ذلك سببا ايضا في التعرف على قامات اقتصادية وتأمينية كبيرة منها الدكتور علي مرزا، الدكتور مظهر محمد صالح، الأستاذ مصباح كمال بالإضافة الى مجموعة خيرة وواعدة من الاقتصاديين الشباب لاتزال تربطني بالبعض منهم أواصر من المحبة والاحترام المتبادل.
لقد استطاعت شبكة الاقتصاديين العراقيين، وفي غضون 15 عاماً من مسيرتها، ان تكون منبرًا متاحًا لنشر الانتاج الفكري للعشرات من الاقتصاديين العراقيين، والذي ساهم على سد فراغٍ ليس بالقليل في المكتبة الاقتصادية العراقية، كما كان للشبكة دور في تعزيز جسور التواصل والتلاقح الفكري بين الاقتصاديين العراقيين سواء في داخل العراق او خارجه. وقد ترتب على ذلك أن نشرت عشرات بل المئات من البحوث والدراسات، ويمكن القول وبدون تردد بان البعض منها تمثل مراجع علمية رصينة لا يمكن الاستغناء عنها لدراسة الاقتصاد العراقي، ماضيا او حاضرا، كما عززت مكتبة الشبكة لتشمل على قائمة طويلة من الكتب الاقتصادية والمطاريح الجامعية النادرة والتي يعود البعض منها إلى الأربعينيات من القرن الماضي. وقد ساهمت بدوري في تحقيق ذلك.
يمكن القول ان الشبكة كانت ولا تزال تعتبر القاعدة الاساس التي يمكن أن يتم البناء عليها لتساهم في مشروع إعادة بناء الاقتصاد العراقي كونها مثلت نافذة للعديد من الاقتصاديين العراقيين.
في احدى المرات حدثني الدكتور شبر كيف شهدت العاصمة اللبنانية / بيروت انعقاد الملتقى العلمي الاول للشبكة في عام 2013، وما بذله شخصيا من جهود استثنائية في حينها لكي ينقل فكرة إقامة الملتقى من الورق الى حدث فعلي على أرض الواقع، وكيف انه سعى بجل جهده لاستقطاب ومشاركة أكبر عدد من الاقتصاديين العراقيين فكان من بين الحضور الدكتور وليد خدوري، الدكتور فرهنك جلال، الدكتور علي مرزا وآخرون لا يتسع المجال لذكرهم جميعا. والحقيقة ان د. بارق كان يأمل بان يتكرر ذلك الحدث مرة أخرى إذ أعلنت الشبكة عن وجود مشروع لعقد الملتقى العلمي الثاني والذي كان من المؤمل عقده في 10-13 نيسان 2020، ولكن يبدو أن التداعيات المتعلقة بوباء كورونا، والظروف الصحية للدكتور بارق قد حالت دون تحقيق ذلك في حينها.
إن وفاة الدكتور بارق شبر وان كانت نهاية لحياة شخص محب لعمله حمل في الوقت نفسه الكثير من الاحلام بغد افضل للعراق وأهله، فقد كانت له قصته وبصمته الواضحة سواء على المستوى الشخصي او المجتمعي. وفي الوقت الذي ندعو له بالرحمة والمغفرة علينا أن لا ننسى بصمة ذلك الرجل وما فعل وانجز في الحياة. ذلك الجهد المبذول الذي جعل منه احد المؤثرين في صناعة المستقبل وان غادرنا، وذلك عبر المساهمة في بناء منبر اقتصادي مفيد للأجيال اللاحقة. وقد يكون من المطلوب منا ان نعمل على دوام واستمرار هذا المنبر الاقتصادي، وأن لا نألو جهدا في حدود الممكن والمتاح لتحقيق ذلك، وفي الوقت نفسه نجعل منه مكانًا لتذكر مسيرة الراحل الكبير وجهوده.
وختاما اقول، وداعا يا دكتور بارق وان كان هذا الوداع يحمل معه جزءًا من الذكريات المشتركة وايامًا جمعتنا معا.
نسأل الله أن يرحم الفقيد ويغفر له ويسكنه فسيح جناته. انا لله وانا اليه راجعون.
11 تموز/يوليو 2024