في وقت متأخر من مساء يوم السبت 15 حزيران 2024 نقل إليَّ السيد يسار محمد سلمان حسن خبر وفاة الدكتور بارق شبر. رحل ولم يحقق ما كان يخطط له من مشاريع في إقامة الندوات الفكرية، والتعاون مع مراكز ثقافية رديفة، وغيرها رغم أنه ظلَّ نشطًا وهو يتلقى العلاج في أحد مستشفيات برلين لمتابعة شؤون موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين.
تعرّفت على شبكة الاقتصاديين العراقيين وموقعها الإلكتروني بعد فترة قصيرة من إطلاقها، وكان ذلك بفضل زميلي وصديقي د. مدحت القريشي، الذي اقترح عليَّ أن اعرض مقالاتي التأمينية للنشر في الموقع. وهكذا كان، ومعها بدأت علاقتي بالراحل. وقد كان مرحبًا بكتاباتي وبتقديم كتاب آخرين من أسرة التأمين العراقي للمساهمة بكتاباتهم في موقع الشبكة.
توطدت علاقتنا من خلال المخاطبات حول إعداد وتحرير بعض المقالات، وإشراكي ببعض الأفكار المتعلقة بميثاق العمل المعدل وشروط النشر والانتساب الى شبكة الاقتصاديين العراقيين (تشرين الثاني 2015)
لم ألتق به حتى أيار 2018 عندما كان في زيارة إلى لندن واللقاء مع د. عامر هرمز. ألتقيته ثانية في تموز 2019 عندما قدّم ورقة للندوة الاقتصادية التي نظمتها رابطة الأكاديميين العراقيين في المملكة المتحدة. وكان دائمًا المبادر للاتصال عبر الهاتف للسؤال عن الأحوال واستمزاج الرأي حول أمور معينة.
آخر رسالة استلمتها منه كانت بتاريخ 8 حزيران 2024 طلب فيها بكل أدب، على عادته، مراجعة وإعداد مقالة الدكتورة سهام يوسف علي "في ضوء تقرير صندوق النقد الدولي هل ينبغي لنا أن نقلق بشأن حالة الاقتصاد العراقي؟" للنشر في موقع الشبكة.
في وقت ما عرضت عليه ترجمة مراجعات لكتب صادرة باللغة الإنجليزية حول الفكر والتاريخ الاقتصادي. وقد رحبَّ بها وكان يعتبرها مهمة لتعريف القارئ العراقي بالإنتاج الفكري في الغرب دون وضع "حدود حمراء" على ما تحتويه هذه المراجعات. لقد كان منفتحًا على التيارات الفكرية المتباينة. كتبت له بتاريخ 3 حزيران طالبًا إبداء رأي حول ترجمة مقالتين باللغة الإنجليزية مكرستان للفكر الاقتصادي لتشي جيفارا وموقفه من الاقتصاد السوفييتي وقضايا الانتقال إلى الاشتراكية. وكان جوابه: "نعم وبكل تأكيد للترجمة أهمية كبيرة لاطلاع القارئ العربي. وعدا ذلك فأنا جيفاري منذ ستينيات القرن الماضي". أنجزت ترجمة إحداهما وكانت مراجعة لكتاب لجيفارا بعنوان ملاحظات نقدية حول الاقتصاد السياسي ونشرت المراجعة أصلاً بعنوان "الحكم النهائي لتشي غيفارا على الاقتصاد السوفييتي."
كان له موقف صارم تجاه نشر ما يرده من مقالات ودراسات. كان مقياس هذه الصرامة أن لا تكون هذه الكتابات منتحلة، وأن تكون مدعمة، قدر الإمكان، بالمراجع. وكان هذا تعبيرًا عن طموحه لرفع مستوى الكتابة في الشأن الاقتصادي لتجاوز الرأي الصحفي العابر. وكان يعمل في نفس الوقت على تخليص الكتابات من الأخطاء اللغوية أو التعبير غير الواضح مستعينًا ببعض زملائه العاملين معه في إدارة موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين. ويعرف قراء الموقع أن هذا الطموح لم يتحقق بالكامل، لكن المبادرة بحد ذاتها لها قيمتها في إرساء قواعد للكتابة الاقتصادية الجادة في الشكل والمحتوى.
لقد اختط منهجًا لموقع الشبكة لخّصها بالشعار الذي يتصدر موقع الشبكة "العلوم والمعرفة أساس تقدم الأمم" وكلنا نعرف ما تقتضيه العلوم من التزام بقواعد وأساليب البحث. وفي ظني أن منهجه هذا قد أعان العديد من كتاب الموقع للارتقاء بمستوى الكتابة.
اهتم الراحل أيضًا بالإخراج الشكلي لهذه الكتابات بحيث صارت تنشر وفق القالب الذي اعتمده ويعرفه القراء. وهو بذلك قد منح لما ينشر في الموقع هوية متميزة خاصة بشبكة الاقتصاديين العراقيين. كان من الأمور الشكلية الأخرى تصنيفه للكتابات المنشورة في الموقع. عندما كنت اقترح تصنيفًا معينًا لا يأخذ بها إذ أنه كان يؤكد على تضييق عنوان التصنيف في حين كنت أكثر ميلاً إلى العنوان العريض.
عمل باستمرار على تحسين الموقع. وكان توفير خانة للبحث خطوة متقدمة لتسهيل البحث في محتويات الموقع، وهو خير عون لكل باحث رغم أن آلية البحث لم تكن تعمل دائمًا بدقة كافية.
اعتقد أن الدكتور بارق كان من بين قلة من الاقتصاديين العراقيين، وربما الوحيد بينهم، ممن اعتبر مؤسسة التأمين كقطاع مكمّل لقطاعات الاقتصاد الأخرى سواء ما له علاقة بالحفاظ على الثروة الوطنية، العامة والخاصة والشخصية وفي مختلف أشكالها، أو إدارة المخاطر المرتبطة بهذه الثروة، أو العمل على تجميع الأرصدة الفائضة لدى شركات التأمين والاستفادة منها في تمويل بعض المشاريع الاستثمارية. كان متابعًا لما ينشر من أخبار لها علاقة بالتأمين في بعض مواقع التواصل الاجتماعي. كان يزودني ببعض هذه الأخبار ويقترح عليَّ أن أكتب عنها. وبفضله كتبت بعضًا من مقالاتي التأمينية.
لقد فتح الموقع أمام الكتابات التأمينية، كمقالات موضوعة أو مترجمة أو كتب ومن بينها بعض كتبي المنشورة ضمن منشورات مكتبة التأمين العراقي، لترجمة قناعته بأهمية قطاع التأمين. وقد كنت سعيدًا جدًا بموقفه تجاه نشر الأدبيات التأمينية بحيث انني توقفت منذ سنوات عن النشر في مدونتين لي: مجلة التأمين العراقي ومرصد التأمين العراقي. تُشكّل ما نشره الراحل من هذه الأدبيات مرجعًا للباحثين في جوانب معينة من التأمين وخاصة قطاع التأمين العراقي.
اختلف الراحل مع بعض أقرانه من الاقتصاديين واختلفوا معه في مناسبات مختلفة، أدت في بعض الأحيان إلى قطيعة. ربما جاء الاختلاف بسبب سوء فهم أو القراءة الخاطئة للمشاعر أو بسبب شيء من التطرف في الموقف كان من المناسب تحجيمه لصالح تداول الكتابات المهمة لبعض المختصين التي وجدت طريقها إلى منابر أخرى. كان المرء يتمنى أن مرور الوقت سيؤدي إلى ردم الصدع، ذلك لأن الاختلاف لم يمتد إلى مضمون الكتابات، لكن ذلك لم يتحقق.
هناك مشروع لتجميع كتابات الراحل بين دفتي كتاب، وعندما يتحقق ذلك نتمنى على أهل الاختصاص في مادة الاقتصاد الكتابة عن مصادره الفكرية، وموقعه بين التيارات الاقتصادية النظرية والتطبيقية، ومواقفه تجاه بعض قضايا الاقتصاد العراقي. ربما يشاركني الآخرون في تقييم الراحل كعراقي محب لوطنه وغيور على مصالح العراق دون الانغلاق على ثقافات الآخرين.
إذا أردنا أن نفرد إرثاً فريداً للدكتور بارق فهو مبادرته، مع اقتصاديين آخرين، لإنشاء شبكة الاقتصاديين العراقيين، وعمله الدائب على إبقائها نشطة من خلال موقعها الإلكتروني الذي نجح من خلاله في استقطاب العديد من الاقتصاديين وغيرهم في مجالات المعرفة ذات الصلة. الأمل الآن معقود على مجموعة الاقتصاديين الذين كانوا قريبين منه في رفد الشبكة وموقعها بالأفكار والكتابات لضمان بقاء الشبكة منبرًا مفتوحًا لكل الاقتصاديين العراقيين وخاصة الشباب منهم. سيكون ذلك بمثابة تكريم له ولإرثه.
11 تموز 2024