شرفتني هيئة تحرير الثقافة الجديدة في دعوتها الكريمة للكتابة في الذكرى السبعين لصدوره المجلة.
وانا إذ أشكر هذه الالتفاتة في نية هيئة تحرير المجلة، لمعرفة آراء جمهرة من كتاب ومثقفين وعلماء وبحاثة وأكاديميين عراقيين وعرب وربما اجانب حول ما تطرحه هذه المجلة التنويرية والتقدمية والثورية. فمن الواجب ان نقدم التحية الى هيئات تحريرها المناضلة التي تولت الإشراف على ديمومتها وبقائها حاملةً مشعل الفكر التحرري والتقدمي في بلد لايزال يعاني من مخلفات مجتمعات ما قبل الصناعية وهيمنة التقاليد الزراعية والقبلية والطائفية والعنصرية على مجريات أموره المختلفة.
لا بد هنا من ذكر جمهرة من مبدعي بلدنا والبلاد العربية وحتى مفكرين وكتاب اجانب كانت المجلة قد فتحت صفحاتها لهم ، وان ابرز مبدعي الحداثة والتقدم قد ساهموا في رفدها بما هو لازم وضروري وجاد. فهي قد حملت منذ البدء، على عاتقها رسالة ليست هينة وناضلت من أجل توصيل الأفكار التي كانت تنادي بها وبذلك فقد كانت مساهمتها في حركة النهضة التنويرية والتحديث بالغة الاثر والتأثير في مجتمعنا العراقي المتطلع للحياة العصرية والمجتمع المدني ودولة المواطنة.
لقد تعرضت المجلة للكثير من المضايقات، حتى في فترات الإنفراج النسبية، لكنها واصلت العمل في توجهها مع ضعف الإمكانيات المادية وظروف المطاردات والقمع والإرهاب، مما أضطرت هيئات تحريرها المتعاقبة للبحث عن اماكن آمنة كي تستمر في الصدور، فسافرت وانتقلت الى بلدان عديدة لكنها لم تنقطع عن كتابها وقرائها أبداً.
مجلة الثقافة الجديدة هي مجلة فكرية تنطق بإسم الحزب الشيوعي العراقي ومثقفيه ومن يناصر توجهه وسياسته العامة ، إلا انها كذلك تنشر أحيانا بعض الأفكار التي قد لا تتوافق مع توجهها العام عملاً بحرية التعبير التي تحاول ان تعطيها مساحة اكبر وحسب الظروف التي تحيط بها، لكنها مع الأسف ، قد ترفض آراء قد تغني التجربة الديمقراطية في تبادل الأفكار والرأي والرأي الآخر ، فتحرم نفسها من التنفس خارج مجال النظرة الرسمية للماركسية ، التي تنطلق منها عموماً سائر الأحزاب الشيوعية في العالم، وهذا في رأيي ضعف ليس في صالح التوجه الديمقراطي الذي تنشده القوى المدنية والساعية لدولة المواطنة والتعددية والحياة البرلمانية الحقة في عراقنا المعاصر . كما رافق مسيرة المجلة عموماً الإنحياز الى الإتحاد السوفياتي والدول التي تسير في ركابه على حساب مواقف ماركسية وثورية أصيلة لا تتفق مع التوجه السوفياتي. وقد كانت هذه الخصلة صفة لمعظم المجلات الفكرية للأحزاب الشيوعية، ليس في بلدان العالم الثالث فحسب بل وحتى في الأحزاب الشيوعية في اوربا الغربية ، إذا ما استثنينا الحزب الشيوعي الإيطالي والإسباني والى حد ما الفرنسي، خاصة بعد تقرير خروتشيف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، الذي كشف عن حجم الجرائم المرتكبة في زمن جوزيف ستالين والجهاز البوليسي القمعي الذي كان يكتم انفاس المواطنين السوفيات.
ان اتخاذ خط مستقل وضمن الأسس الفكرية للماركسية، يساعد المجلة على التطور والتجديد والإرتفاع بالوعي والمعرفة عموماً، وهذا ما يجب ان تسير عليه المجلة مستقبلاً كما أعتقد ، فقد كُتبت أبحاث عديدة حول الماركسية ما بعد ماركس وتم تشخيص العديد من التصورات التي لم تعد مناسبة مع التطورات الجارية والمتسارعة في عالمنا اليوم و ان يكون ضمن جدول هيئات تحرير المجلة ونصب اعينها دائماً لأن النظرية أي نظرية حتى لو كانت "كلية الجبروت والقوة" كما كنا نردد ، قابلة للنقد والمراجعة والتنقيح وإزالة ما فسد منها وما اصبح خارج الإستعمال وفقد صلاحيته حالياً .
ومن ملاحظاتي العامة عما ينشر في المجلة في ملفات الثقافة والأدب ، اجد ان هناك ضعفاً مزمناً في تناول اجناس إبداعية عديدة ، فأصبحت حصة الأدب، هي حصة الأسد فيها، فليس هناك متابعة مثلاً للمسرح او السينما ولا التشكيل او الموسيقى وليست هناك دراسات حول النظريات الجمالية وما طرأ عليها من تغيير وتبدل ، تغني وتوسع افق الرؤية والتصور في الحقول المختلفة والمهمة والتي تعتبر من اهم العوامل التي تغذي مشاعر وعواطف واحاسيس المجتمع وتربي الذوق والسلوك ولها تأثير كبير على الأخلاق العامة، كقوة ناعمة تمتلك آلياتها الذاتية في عمليات التغيير المطلوبة.
أظن ونحن نملك سياسة حزبية من وحي الظروف المحيطة ببلدنا، وبناء على إمكانياتنا الذاتية ان ندرس كل الإمكانيات التي تساعد على تخطي العقبات والعوائق التي ترافق عملنا وان نرسم سياسات ونكتب دراسات لها علاقة مباشرة بظروف عراقنا الحبيب وتقدم لشعبنا وقواه الخيِّرة أدوات صالحة للعمل وقابلة للتطبيق وملائمة مع الإمكانيات المتاحة.
وأظن ان مجلة الثقافة الجديدة التي حملت راية التقدم والحداثة والتحرر قادرة على القيام بهذه المهمة مثل ما نجحت في السابق على تخطي كل العوائق التي واجهتها وتغلبت عليها. فامام كادر هيئة التحرير المناضلة مهام جليلة وهي جديرة بها وقادرة على تنفيذها بمسؤولية وحرص وتفانِ وبالتعاون الجاد الذي يليق بمثقفينا وكتابنا والكوكبة الخيِّرة التي تلتف حول المجلة من مبدعي بلادنا وشعبنا المجيد.
لاروش بوزيه – فرنسا في 08 \ 09 \ 2023