في الطابق الثاني من عمارة تطلّ على شارع فسيح، يبدأ من نهاية شارع الرشيد، ويؤدي الى ساحة التحرير، إذ يرتفع نصب جواد سليم، شغلت مجلة (الثقافة الجديدة) جناحاً صغيراً في البناية، بعد أن عادت المجلة الى الصدور، بعد انقلاب تموز 1968، الذي جاء بالبعثيين إلى السلطة مرة ثانية، فصدر العدد الاول منها في نيسان من عام 1969، برئاسة تحرير الدكتور صلاح خالص، وكان صاحب الامتياز الدكتور صفاء الحافظ.
تحت سقف هذا الجناح تعرفت على الأسماء الكبيرة، في السياسة والأدب والثقافة، إذ اصبحت المجلة ملتقى لهؤلاء، وشهدت أروقتها الاجتماعات الأولى لإعادة تشكيل اتحاد الأدباء في العراق، وأثناء ذلك كان يتردد عليها عدد من قادة الحزب الشيوعي العراقي – ربما يظهرون للعلن لأول مرة من دون تحفظ - ، و آخر من الشعراء والكتاب، اذ ترافق صدور المجلة مع اعلان البيان الشعري، وصدور مجلة الشعر 69، كان الحدث بحد ذاته يمثل صعود جيل جديد من الشعراء له أفكار ومفهومات وتطلعات مختلفة، وكان البيان الشعري وشعر 69 مظهراً من مظاهرها، كان موقف الثقافة الجديدة متحفظاً الى حدٍ ما من حركة التجديد التي تبناها الشاعر فاضل العزاوي وزملاؤه، من منطلق متأثر بآراء بعض الشعراء المحافظين، التقليديين.
كنت أنا الفتى أقف بانبهار، أمام وجوه توقظ فيّ ذكريات شتّى، استعيد من خلالها تاريخ الحركة السياسية في العراق، في ذلك الركن من مكتب مدير التحرير الفريد سمعان، كان يجلس زكي خيري، يقابله عبد الرزاق الصافي، والى جانبه عامر عبد الله، وهناك يتحاور هاشم الطعان مع صلاح خالص، وفجأة يدخل حسين مردان كعاصفة صوتية تهتز لها أروقة المجلة.
كانت بدايتي مع المجلة منذ العدد الثاني، بعد أن وضع الفنان والشاعر محمد سعيد الصگار الأساس لتصميم المجلة، وغلافها الأول، ومن ثم أوكلت المهمة لي من بعده، واستمرت العلاقة لغاية توقفها في عام 1979، وتناوب على إدارة التحرير الشاعر الفريد سمعان، ثم الكاتب والصحفي شمران الياسري (أبو گاطع)، اذ تقع عليهما مسؤولية المتابعة في إعداد المواد، والإشراف على الجانب الفني والطباعي، فتوثقت صداقتي بهما بحكم عملنا المشترك، وأجد من الإنصاف والوفاء ان نسجّل لهؤلاء الرجال الثلاثة مآثرهم بهذا العمل الذي ظلّ على الدوام يحمل بصماتهم الأولى.
تمكنت الثقافة الجديدة خلال أعوامها السبعين الانفتاح على الخبرة والكفاءة والإبداع، وقطعت أشواطاً بعيدة في منهجها الفكري بأسلوب فيه طابع العصر، وجاذبية الجديد، ولم تكتف المجلة بتوظيف امكانات المبدعين من كتاب وأدباء، بل تحولت الى ورشة عمل دؤوبة لتدريب الطاقات الشابة، فكانت المدرسة التي أنجبت العديد من الأسماء، التي أصبحت في فترات لاحقة عناصر مهمة وأساسية في استمرار التجربة.
إن أحد أسباب نجاح تجربة الثقافة الجديدة واستمرارها، على الرغم من الصعوبات الفنية، والمحاولات المتكررة في إيقاف صدورها، انها استطاعت بمنهجها الفكري الرصين، وثبات سياستها الى جانب قضايا الإنسان والعدالة الاجتماعية، أن تستقطب أكثر الكتاب والأدباء إبداعاً، ومن حقنا أن نعتز بالإنجاز الذي حققه أولئك الذين امتلأت بهم ثراءً.
لعل مجلة الثقافة الجديدة، منذ صدورها الاول عام 1953 كانت تحظى بامتياز فريد لم يتوفر لمجلات عراقية من مثيلاتها، إذ تكفّل الفنانون التشكيليون الرواد في وضع تصاميم أغلفتها، وشعاراتها، وأشرفوا على الجانب الفني فيها، وكان لدور هؤلاء أبعد الأثر وأعمقه في نجاح التجربة وفرادتها، لقد فطنت إدارة التحرير منذ البداية إلى الثراء الكامن في الروح الابداعية العراقية، المتمثل بطاقات الرسامين الهائلة التي يحملها محمود صبري الذي وضع تصميم غلاف المجلة الأول الذي صدر عام 1953، وشارك الفنان الرائد اسماعيل الشيخلي بتصميم شعار المجلة المعتمد لغاية هذا اليوم، المتمثل بالعجلة والشعلة، وتكفل القاص الفنان والخطاط يحيى جواد بخط عناوين المجلة.
ومنذ عام 1969 لغاية 1979، اتسعت دائرة المشاركين من الفنانين في تصميم المجلة، ورسم تخطيطاتها، وخط عناوينها، فمن الرسامين، أذكر: الشاعر والفنان فائز الزبيدي، فيصل لعيبي، عفيفة لعيبي، محمود حمد، حميد عبد الحسين، ابراهيم رشيد، موسى الخميسي، ومن المصممين اذكر: يحيى الشيخ، جودت حسيب، صائب العاني، ومن ثم انيطت مهمة التصميم الى الفنان سامي العتابي بشكل اساسي، وتغير حجم المجلة بقياس أكبر، على غرار مجلة الوقت (مجلة قضايا السلم والاشتراكية) التي كانت تصدرها الاحزاب الشيوعية والعالمية، ومقرها براغ. وفي خط عناوين المجلة، تناوب كل من: جمال العتابي، وشقيقه صفاء، وصادق الصائغ، وفلاح حميد، ومصطفى أحمد.
في وسط حاشد من المبدعين كانت المجلة تصدر شهرياً بشكل ثابت، كان هؤلاء يجدون صيغة جمال مطلقة في العمل، باساليب مختلفة، رغم ما يتطلبه من عناء ومشقة، كنا مجموعة شباب مفعمة بالآمال والرغبات، والقلق من مصير مجهول، لا نتقيد بساعات العمل الروتيني، ولا تتسلل الى نفوسنا الكآبة والملل، لا نبارح المكان، الجريدة والمجلة، بيتنا مليء بالحيوية والحب، بما يشيعه من أجواء مودّة وألفة وصفاء بين العاملين، بدأت خطواتنا الأولى في عالم الصحافة الفسيح، واغتنت تجاربنا المتواضعة بما تعلمناه من أولئك (المعلمين) الكبار، فائق بطي، رشدي العامل، سعدي يوسف، شمران الياسري، عبد المجيد الونداوي، يوسف الصائغ، عبد الرزاق الصافي، سلوى زكو، مصطفى عبود، صادق البلادي، غانم حمدون، إذ كانوا فرسان التجربة التي أضحت علامة في العمل الفكري والثقافي، على الرغم من محاولات القوى السوداء اقتلاعها، فذهب صناعها الماهرون الى المنفى، أو الى السجن والزنزانات، والى الموت والاعدامات، الا ان المجلة مازالت تصدر وتحيا.