أيلول/سبتمبر 12
   
 تلقيت بسرور دعوة هيئة تحرير مجلة الثقافة الجديدة للمشاركة في ملف اليوبيلية السبعينية لذكرى صدور أول عدد من المجلة.
لست ممن يعرف الكتابة في مناسبات كهذه، ولهذا أستميحكم العذر في كتابة ما أشبه بذكريات عن علاقتي بالمجلة.
تعرفت لأول مرة على مجلة الثقافة الجديدة في بدايات السبعينيات إثر انخراطي للعمل في صفوف أتحاد الطلبة وكان ذلك عن طريق الشهيد باسم كمونة الذي حفزني على المثابرة في قراءتها بعد أن تلمس فيّ شغفا للقراءة وبعض المحاولات البسيطة للكتابة. كانت الأعداد مليئة بالمقالات والدراسات ولكن ما كان يشدني أكثر مقالات الراحل رحيم عجينة في مجال النفط فحفظتها حفظا ولم أكن أعرف أنها ستعينني في تقديم مداخلة بعد عقد من الزمن حول النفط في الشرق الأوسط في ندوة من ندوات مهرجان الشبيبة العالمي في موسكو عام 1985.
في منتصف السبعينيات تم استدعائي مع مجموعة من طلبة الجامعة للعمل كمتطوعين في قسم الأرشيف في "طريق الشعب"، وكان في الطابق الأول من البناية الكائنة في شارع السعدون، في ذلك الوقت كنا نرى الشخصيات التي نقرأ لها وهي تمر بنا صعودا الى الطابق الثاني حيث مكاتب هيئة التحرير. بعد عدة أشهر فاجئنا الراحل عبد الرزاق الصافي وكان رئيسا للتحرير وهو يدخل قسم الأرشيف مستفسرا عمن لديه لغة انجليزية جيدة من المتطوعين، رفعت يدي فطلب مني الصعود معه الى الطابق الثاني وتحديدا الى غرفة المحررين لأرى الراحل فالح عبد الجبار والعزيز عصام الخفاجي الذي صافحني وسألني إن كنت قد ترجمت شيئا قبل اليوم وكان جوابي سلبيا فأجلسني الى طاولة وقدم لي مجموعة من الأوراق ونسخة من مجلة الإيكونومست ودفتر صغير لأضع فيه كل الكلمات التي تمر عليّ لأول مرة مع ترجمتها. من هنا بدأت رحلتي بالشغف في الترجمة.
دارت السنون لأستقر عام 1986 في سوريا. بعد ثلاثة أو أربعة أشهر زارني الراحل عادل حبه، وكان حينها مسؤولا عن مكتب اعلام الخارج على ما أظن، طالبا مني الحضور صباح اليوم الثاني الى مكتب الحزب الكائن خلف الجامع الكويتي لحاجتهم لي للعمل في قسم التصميم الفني. ذهبت وعرفت انهم بحاجة لي لتعلم تصميم المجلات بسبب اضطرار العزيز الفنان يحيى الشيخ الذي كان مسؤولا عن تصميم مجلة رسالة العراق. وبعد عدة أشهر وبسبب سفر العزيز مهنا المصمم الأساسي لمجلة الثقافة الجديدة أصبحت مسؤولا أيضا عن الإخراج الفني للمجلة لتبدأ معها رحلة جديدة من علاقتي بالثقافة الجديدة.
بعد انتقال مكتب اعلام الخارج الى بناية جديدة في ركن الدين كان الراحل غانم حمدون سكرتيرا لتحرير المجلة والصديق العزيز الشاعر عبد الكريم كاصد مسؤولا عن تحرير قسم أدب وفن. وأنا المصمم الفني والشهيد أبو فرات مسؤولا عن متابعة المطبعة. وبدأت المجلة تظهر بحلتها الجديدة بعد ان قام العزيز صادق الصائغ بتصميم خط جديد لاسم المجلة.
من الطرائف التي أذكرها هي تنفيذي لبطاقة دعوة باسم المجلة للاحتفاء بذكرى تأسيسها فقمت باختيار تخطيط للفنان سعد علي وهو مجموعة من الشبان والفتيات يحملن على رؤوسهم صينية حنة مرسوم فوقها بعض المعالم الأثرية العراقية فقررت ان تكون أرضية البطاقة بلون حني يناسب فكرة اللوحة. استلمنا البطاقات أنا والشهيد ابو فرات وذهبنا الى الراحل عبد الرزاق الصافي وكان مسؤولا عن اعلام الخارج آنذاك وإذا به يصرخ في وجوهنا "تريدون أدز بطاقة دعوة صادرة عن الحزب ولونها حني؟، ليش شبي اللون الأحمر؟" ولم تجد محاولاتنا لإقناعه بفكرة اللون الحني فعدنا الى المطبعة وطبعنا بطاقة جديدة بأرضية حمراء وعدنا اليه ليقول لنا "هسه تمام". تعلمت أن بعض الأساسيات لا يمكن تجاوزها بأية ذريعة.
كل هذه السنين ولم أتجرأ أن انشر شيئا في المجلة حتى استدعاني الراحل غانم حمدون قائلأ "سمعت من بعض الأصدقاء انك مهتم بالفلسفة وعلم الاجتماع" قلت له " الفضل يرجع الى رضا الظاهر الذي وضعني على سكة الفلسفة وفالح عبد الجبار الذي دفعني الى علم الاجتماع". طلب مني كتابة بحث قصير عن تأثير الحرب العراقية الإيرانية على فئة الشباب العمرية مضيفا "راح أجربك". قدمت له البحث بعد شهر تقريبا ليعيده لي في اليوم الثاني مليئا باللون الأحمر قائلا "خير الكلام ما قل ودل، تذكر ذلك" ولا زلت أتذكر والتزم بهذه النصيحة قدر المستطاع.
لا أتذكر رقم العدد لكنني أتذكر تماما فرحتي وأنا أرى اسمي منشورا في مجلة الثقافة الجديدة لأول مرة الى جانب نخبة من الأسماء الكبيرة. لتتوالى بعد ذلك مساهماتي قدر المستطاع.
لأن أبالغ في قولي ان مجلة الثقافة الجديدة هي التي فتحت أمامي وأنا شاب طريق الكتابة والبحث والنشر ولولا اهتمام الرفاق الكبار برعاية الطاقات الشابة لما تمكنت من الاستمرار، فهي مدرسة وتجربة، بحلوها ومرها، تصقل الموهبة وتحفز على الإبداع.
طوبى لمن ساهم ولمن لا يزال في بناء واستمرار هذا الصرح الشامخ من اجل "فكر علمي... ثقافة تقدمية".