بداية، أقدم شكري الجزيل لدعوتكم الكريمة وأسمح لنفسي الظن بان مثل هذه الدعوة تمثل في ظاهرها محاولة لتتبع وتلمس دليل عمل ليس فقط للمسيرة الطويلة الزاخرة بالمفاهيم العلمية والثقافية التي تبنتها المجلة طيلة فترة ظهورها كرافد حضاري، شارك في تشكيل مفاهيم علمية ثقافية لأجيال من أبناء الشعب العراقي، وإنما كذلك مساهمة لإنضاج خيار بلورة قاعدة عمل مستقبلي ومنهجية مؤسسة في تقييم العمل، يشرك الجميع فيها، وبشكل تبادلي مسؤول، وبالذات مع من ساهم بشكل وآخر في رفد أبواب المجلة بنتاجهم الفكري وأغنوا أبوابها عبر مسيرتها الطويلة، بالعديد من المواضيع والبحوث في مجالات الثقافة والمعرفة.
وتبدو أيضا رغبة في تقييم حسن الأداء، ورصد مدى التقدم الذي حصل للمجلة عبر تاريخها العتيد منذ صدورها الذي يمتد منذ تشرين الثاني عام 1953 وهو عمر طويل مفعم بالانجازات، لمجلة غطت الكثير من الأحداث والمناسبات، وتناولت العديد من طرق التفكير والظواهر العلمية والعملية والتحولات الثقافية في الشأن العراقي، وحرصت على عرض شتى صنوف المعرفة وبسعي جاد ومثابر، لترسيخ المفاهيم الحضارية العلمية والتعددية الثقافية والتعايش السلمي واحترام الثقافات على اختلاف مراجعها.
وحرص كتابها بمختلف مشاربهم على إدراك المهام الثقافية العلمية التي تسعى المجلة لعرضها، لذا قدموا طرقا ومواضيع مختلفة ومميزة في دراسة الظواهر الاجتماعية والعلمية والاقتصادية. وخاضوا كذلك وعبر صفحاتها غمار الشعر والمسرح والقص وباقي الفنون، ولهذا خصص واجهة واسعة، احتضنت نتاج الكثيرين وروجت بمظاهر مميزة، عروضهم وآدابهم وفنونهم، أعطت الانطباع عن مجلة سعت لتكون الواجهة المتقدمة لفكر علمي وثقافة تقدمية.
ولكون الخصوصية التي اعتمدت لمثل هذه الدعوة النبيلة هي يوبيلية المجلة بعمرها الذي بلغ السبعين وعد في حساب الإصدارات الثقافية العربية الأطول والأرسخ، لذا يكون من الحرص أن يأخذ تقييمنا لها كمنجز، الخلفية المهنية التي درجت وحافظت عليها طيلة تلك الفترة، وفي أصعب الظروف، وبالذات فترة الحصار السياسي والاعتقالات والمطاردة. فالمجلة ومنذ بدايات صدورها تبنت طريق الحفاظ على مهنية العمل الصحفي ومكاشفة كتابها وقرائها بطبيعة مهامها، ابتداءً من لغة الكتابة، وليس انتهاءً بنضج الموضوع وعلميته والتزامه بمعايير محددة سلفا، أرادت هيئة تحرير المجلة فيها التزام الموضوع بطبيعته العامة والخاصة بالوضوح والشفافية والقيم المهنية والإنسانية والمسؤولية الفكرية، ومسايرة الهدف العام للمجلة، وهو رفع وعي الجمهور وإثارة النقاش حول مشاكل الحياة بعمومها، وتقديم ما يساهم في تحديد البعض من طرق حل مشاكل المجتمع والتنمية والبيئة والاقتصاد، وتحليل وعرض الظواهر بعلمية، وفق منهج يساري وطني محدد، بعيدا عن الغلو والإسفاف، والحفاظ على أولويات المعرفة والفكر الإنساني ووضع الجملة المناسبة والصادقة حين يتم عرض مشاكل العالم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وضمن الإطار العام ذاته سعت المجلة لتقديم ضمني لأساليب معرفية حول طبيعة الديمقراطية وما هي المشاكل التي تواجهها في بلد مثل بلدنا العراق. وكانت جل المواضيع التي طرحت في المجلة عن طبيعة الديمقراطية، تبنت خيار تقديم الميزات الفائقة للتطور الديمقراطي إن حدث بشكل سلس ووفق الالتزام بالمعايير والترتيبات المألوفة للديمقراطيات الحديثة والحقيقية. وحرصت المجلة على أن يكون هذا الملمح ضمن بيئة اجتماعية ثقافية جاهزة للقبول بفكرة الديمقراطية والمواطنة والمساواة بين الجميع، وليس عبر القفز فوق عتبات المبادئ لصناعة ديمقراطية مشوشة لا تجلب للناس غير التعاسة وطمس الوعي، وتكون في النهاية بعيدة عن النزاهة وضمان الحريات العامة، وغير معنية بالمشاركة الحقيقية والفعالة للناس جميعا في تقرير وحل العديد من المشاكل المجتمعية والوطنية.
وبشكل عام فإن أي مجال ثقافي مهني يستمد تقييمه من خلال العلاقة التبادلية بينه والحيز الذي يمثله أو المعني بالتوجه إليه، وعندها تظهر القيمة الحقيقية لأثر الفعل المنجز، ويمكن إيضاح هذه العلاقة من خلال مدى تأثير فكرة التبادل المعرفي وقبول النقد والتصويب. ولذا أقول إن مسيرة المجلة ورغم ما اعرفه عن صعوبات العمل في المجال الفكري والمعارف والثقافة بعمومها وطبيعة الاختصاص، تستوجب الصبر والأناة والدقة وتكاتف بالمسؤوليات وتحتاج جهودا ليست بالهينة لخلق واستنباط أفكار جديدة، ليس فقط في البحث عن المواضيع المعرفية الدسمة والبحوث والدراسات المختصة، ومن ثم أساليب عرضها وتنضيدها، وإنما أيضا في عمليات التسويق والتوزيع، ولن يأتي هذا اعتباطا وإنما يكون بمدى قدرة المجلة على ممارسة التأثير في مسيرة الناس وأفكارهم ومنهم صانعو الأفكار والقيم الثقافية العلمية، ومن ثم يأتي الرضا عن المنجز بقدر توطيد العلاقة مع القارئ.
ويخطر على بالي مقترح، يتمثل بضرورة أن تكون هناك لدى المجلة أرشفة كاملة عن المناسبات الثقافية والفنية والوطنية ومثلها عن الشخصيات ذات الثقل الفكري العام والمهني والثقافي والفني، وتلك لعمري مهمة كبرى تخلو منها الكثير من المؤسسات العراقية. ومن المناسب في هذا الجانب، ومن خلال هذا تترقب المجلة الأحداث والوقائع والشخوص وتستعرضها وتقدمها كطبق تعريفي جاذب، وليس بالضرورة أن يكون هذا على شكل ملف يأخذ حيزا واسعا من عدد المجلة وسعتها، وإنما صفحات قليلة للاستعراض المكثف. وارى أيضا أن تخصص المجلة مجالا مناسبا للثقافة الشعبية في جميع تلاوينها والتي يقبلها ويتبناها الناس، من خلال البحث فيها وعرضها وتحليلها، باعتبارها فكرا ومنتجا شعبيا يوضح ويعرض حياة الناس، مثل الحكايات الدارجة والأساطير الشعبية والثقافة السردية والفنون.
وأخيرا تقبلوا مني فائق التحية والاحترام، راجيا التقدم والرفعة للمجلة ولمحرريها والعاملين فيها.