أيلول/سبتمبر 12
   
   مقدماً، أقدم أحر التهاني بمناسبة العيد السبعين لمجلتنا الغراء، وأشكر هيئة تحريرها الموقرة لتوجيه الدعوة لي للمشاركة في هذا الملف. وجواباً على سؤالها أقول باختصار ان "الثقافة الجديدة" تعني لي الكثير. فهي بالنسبة لي ليست مجلة فقط، وإنما هي مدرسة عريقة، لا بل هي مؤسسة لها مكانتها وتأثيرها السياسي والفكري والثقافي والأدبي والفني طيلة سبعة عقود من تأريخ العراق الحديث. وأعتبر نفسي محظوظاً وسعيداً لمواكبتها لأكثر من ستة عقود، وقد تحولت الى عامل مهم في مسيرتي، تاركة لديّ بصمتها التي أفتخر وأعتز بها..
 ككاتب ومحرر علمي، لم أدرس الصحافة والإعلام، وإنما تتلمذت "على يد" أدبياتنا، خاصة إفتتاحيات "الثقافة الجديدة" و"إتحاد الشعب" و" طريق الشعب"، دون أن أنسى تأثير العمود اليومي للرفيق الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)، وعمود "بصراحة أبو كاطع" للرفيق الراحل شمران الياسري، عليّ، حيث كنت أُطالعها بشغف ومتعة، وغالباً أكثر من مرة، متمعناً فيها، متعلماً من أسلوب تناولها للمشكلات ومعالجتها.
 تعرفت إلى مجلة "الثقافة الجديدة" لأول مرة قبيل قيام ثورة 14 تموز المجيدة بأربعة أو خمسة أشهر، حينما سلمني (الرفيق الراحل ناجي خلف كريدي) العدد الأول منها، مع ثلاثة كتب، طالباً ان تكون ضمن برنامج تثقيفي الذاتي بالأدبيات الماركسية.. تلقفت المجلة بفرح غامر، ذلك لأنني كنت أسمع عنها من الوسط الذي عشت ونشطت فيه، لكنني لم أر ولم أقرأ ولا عدد منها.
    وقد جذبتني مواد العدد لأُطالعها حالا، وحالما عدت للبيت، وتعشيت، سهرت حتى الفجر لأكملها. ولعل أكثر ما جذبني هو الافتتاحية، التي أعدت مطالعتها عدة مرات، متمعناً ومنبهراً بأسلوب تناولها للموضوع، وثابرت على ذلك، فيما بعد، في أعدادها الأخرى، ولأبواب: "موقفنا"، "كلمة العدد"، "اَراء ومناقشات"، وغيرها. وشدتني بعمق سلاستها وسهولة استيعابها، مقرونة بوضوح الرؤية والوجهة والهدف.
    وبحماس الشباب، وتأثراً بمتابعاتي، نشأ لديّ حافز قوي لتعلم كتابة المقال، ولـ "أصبح" كاتباً "مثل" كتاب المجلة.. وفعلا انغمرت بعملية تعليم ذاتي لكيفية كتابة المقال، وكيفية تناول الموضوع ومعالجته، من خلال دراستي لأسلوب صياغة افتتاحيات وكلمة العدد لـ"الثقافة الجديدة"، مقلداً مقدمتها ومتنها وخاتمتها..
بعد قيام الثورة بثلاثة أشهر تم نقلي لهيئة حزبية أخرى. وبعد نحو عام حضر أحد اجتماعاتنا رفيق مشرف من قيادة الحزب.. قبل مغادرته قال لي على انفراد: "الرفاق راضين عن نشاطك، ويوصونك بتجميد نشاطك في "المقاومة الشعبية، وان تكون حذراً". وكان ذلك ارتباطاً ببوادر انحراف الثورة عن مسارها، والبدء بمطاردة أنصار الجمهورية، وأسكن في العطيفية، حيث يسكن القيادي البعثي سعدون غيدان.. ثم سألني عن طموحاتي كشاب. فأجبت: سأنفذ التوصية، وسأكون أكثر حذراً. أما طموحي، فإن أنهي دراستي، وأسعى لأكون كاتباً، وقد شرعت بذلك، محاولا تعلم كتابة المقال، من خلال تقليد أسلوب أدبياتنا.. فلفت إنتباهي: "ان تكون كاتبا ناجحا ليس سهلا، ولا يكفي تعلم كتابة المقال، وإنما يتعين أيضاً امتلاك المعرفة ووجوب التخصص". وأوضح ماذا يعني ذلك.. فكرت ملياً بنصيحته المهمة، وقررت الأخذ بها. فانهمكت بالمزيد من المطالعة بغية اكتساب المعرفة، خاصة الماركسية، دون ان أفرط بأواصر ارتباطي بـ "الثقافة الجديدة" وموادها، مصراً على اعتبارها "هادي" و"موجه" و"مصدر إلهام" لي لا غنى عنه، لا سيما وان ثورة 14 تموز فسحت المجال لتحقيق طموحي، حيث فعلت حركة النشر وإستيراد الكتب والصحف والمجلات العربية، التي ملأت المكتبات والأكشاك ومحال بيع الصحف، بالأدبيات والمؤلفات الماركسية، واليسارية، والقومية، والدينية، الى جانب الأدبية والفنية، العراقية والعربية والأجنبية، محدثة طفرة نوعية كبيرة، حفزت على القراءة، ونشر الثقافة والمعرفة، وتسهيل أنشطة التوعية والتثقيف، الى جانب البحث والدراسة..
    بفضلها، أفلحت في الحصول من مكتبات بغداد، ولدى رفاق وأصدقاء، على بضعة أعداد قديمة من "الثقافة الجديدة". وصرت لا أفوت اقتناء كل عدد جديد منها يصدر علناً. ونتيجة لمواكبتي الجدية والحثيثة لما نشرته، أصبحت مكتبتي الخاصة تضم عدداً لا بأس به من أعدادها، مع أدبياتنا الأخرى، أرجع لموادها عند الحاجة. وهو ما أمارسه حتى يومنا هذا..
    عقب ردة الثورة سهرت على إخفاء الأدبيات بعيداً عن أعين الأجهزة القمعية، "مبتكراً" إضافة قاعدة تحتية/ خارجية لصندوق خشبي طويل، يسمونه "محمل" لضمها، وبسمرتها، بعد ان جعلتها جزءا من الصندوق، مالئاً داخله بملابس ولعب أطفال وأشياء أخرى، وطلبت من والدتي وضع الأفرشة فوقه. وهي الوحيدة التي تعرف بهذا السر. وحافظت المرحومة عليه عقب مغادرتي للعراق في عام 1961 مجبراً - الحكم عليّ من قبل المجلس العرفي العسكري الثاني، وهربي من معتقل "خلف السدة". وعندما عدت للعراق في عام 1970 كانت "الأمانة" في مكانها. وانتقل "المحمل"/ المكتبة من العطيفية مع العائلة في عام 1973 الى حي القاهرة، ومن ثم الى بزايز الصليخ. وقد استفدت منها كثيراً في كتابة مقالاتي..
    عقب تفاقم الهجمة الشرسة للبعثيين على حزبنا، غادرت العراق في مطلع عام 1979، مجبراً، للمرة الثانية. وما ان غادرت زوجتي وأطفالي الدار الى خارج بغداد، سرعان ما سمع من سمع بصدور قرار اعتقالي، ومصادرة "مجلس قيادة الثورة" لأموالي المنقولة وغير المنقولة، وهروبي للخارج.. فهجم "النشامى" على الدار، وتقاسموا "الغنائم"، بما فيها "المحمل" الثقيل. ولعل الأكثر حزناً وألما أنه بعد 3 أو 4 سنوات، تم أتلافه حرقاً، تخلصاً من آفة الأرضة التي أصابته، وعندئذ انكشفت محتوياته الدفينة، التي تحولت الى رماد..
  بالعودة لـ "الثقافة الجديدة"، أقول بلا مبالغة أنها لعبت دوراً كبيراً في حياتي كناشط ومناضل وسياسي وباحث، متعلماً الكثير من مواد أبوابها المتعددة والمتنوعة ("موقفنا"، "كلمة العدد"، "مقالات"، "قضايا راهنة"، "اراء ومناقشات"، "أبحاث"، "نصوص مترجمة"، "نصوص قديمة"، "حوارات"، "طاولة مستديرة"، "ملف"، "عرض كتاب"، "أدب وفن"، وغيرها)، الغنية بموضوعات حيوية وآنية، شكلت مصدراً هاماً للمعرفة السياسية والفكرية، ولنشر الثقافة الوطنية والديمقراطية. وكان لها، وما زال، دور بارز في المشهد السياسي، والاقتصادي – الاجتماعي، والثقافي، والأدبي، والفني، من تأريخ العراق المعاصر، تاركة بصمتها القوية على الآلاف من قرائها المتلقين والمهتمين والباحثين، معرفة إياهم بالمعنى الحقيقي لإشكاليتي الثقافة التقدمية والفكر العلمي، وكيفية إقرانهما بهموم المواطنين واحتياجاتهم وتطلعاتهم.
 
لقد أصبحت المجلة بحق رافداً فكرياً تقدمياً فاعلا في تطوير الثقافة الوطنية الديمقراطية العراقية، وهي التي انخرطت منذ أول عدد لها على نحو نشيط في بلورة مشروع وطني ديمقراطي، ثقافي وسياسي، نوعي، وتأسيس خطاب تنويري، عقلاني، يختلف عن السائد، مستشرفاً المستقبل الحر والحياة الكريمة، عبر الترويج لبديل وطني ديمقراطي، وبناء دولة عصرية، وفق مبدأ المواطنة والعدالة الاجتماعية، محفزة النخب الثقافية للانخراط في هذا المشروع والدفاع عنه، محتضنة  لهذا الغرض مثقفي العراق ومبدعيه، بمختلف مدارسهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية.
    وقد أثمر نهجها الريادي هذا في ترسخ موقعها كمنبر متميز بين منابر الثقافة الوطنية الديمقراطية في العراق. ولعب ما تضمنته أعدادها من دراسات وبحوث ومقالات في السياسة والثقافة، في التنمية والاقتصاد والاجتماع، في التربية والتعليم والصحة والبيئة، الغنية بالمعالجات الموضوعية والعلمية الرصينة، دوراً تنويرياً كبيراً بارزاً. وتشهد أعدادها على طروحاتها الجريئة، سواء في الخوض في الفكر الماركسي المتجدد، والثقافة التقدمية، ونقد التجارب الاشتراكية، والدعوة لتبني القيم العلمية والتقدمية والإنسانية، أو ذات العلاقة بالواقع العراقي، والصراحات السياسية المحتدمة، والطموح الى تغيير حياة الشعب نحو الأفضل.
وهي كمطبوع بارز للتنوير والتثقيف السياسي والإقتصادي - الإجتماعي والفكري والعلمي، بقيت وفية لشعارها العتيد: "فكر علمي .. ثقافة تقدمية"، وواصلت، بكل فخر وإعتزاز، رفعه عالياً في كل الظروف التي مرت بها، ولم تنحرف عن نهجها، لا بل جعلت منه منهج عمل ودليلا مرشدا لكافة مواقفها وسياساتها الوطنية والأممية.
تحية إجلال وإكبار وتقدير وامتنان لكل من ساهم في مواصلة "الثقافة الجديدة" لمسيرتها المديدة، ويواصل دعمه وسعيه لتطويرها أكثر!
مع خالص التمنيات بالتوفيق والمزيد من النجاح!