ليس من اليسير أو الهين الإحاطة بكل ما تمخض عن مجلة (الثقافة الجديدة) الرائدة من أنشطة فكرية وفعاليات ثقافية، شكلت - على مدى العقود السبعة الماضية - علامة فارقة في مجالات تطور الوعي الاجتماعي واغناء المعرفة الإنسانية، مادة لا يمكن لدارس أو باحث جاد الاستغناء عنها والزهد فيها؛ حيث استطاعت عبر تنوع مواضيعها وتعدد اهتماماتها أن تحفر لها في بنى الواقع الصلدة أخاديد لا تني تتعمق وتتوسع ، مثلما تؤسس داخل أنماط الوعي الاجتماعي رؤى وتصورات لا تفتأ تتجذر وتتطور وان ببطء ولكن بثبات، الأمر الذي يستلزم - لتقييم دورها الفكري وموضعة وظيفتها الاجتماعية - مقاربات عدة ومداخل متنوعة لا يسعنا المجال هنا الاستطراد في سردها واستقصاء أبعادها بشكل واف .
ولبلوغ مأرب الموازنة بين استحقاق (تقييم) إنجازات وإسهامات المجلة المذكورة في ميادين العلوم الاجتماعية والإنسانية على صعيد تأثرها وتأثيرها بالواقع الاجتماعي من جهة، ومراعاة حجم المساحة المتاح للكتابة عن طبيعة تلك الانجازات والإسهامات – لاسيما وقد تم تحديد العدد الإجمالي للكلمات ما بين 750 - 1000 كحد أقصى – من جهة أخرى . فقد ارتأينا مجاراة الرغبة التي أبداها المسؤولون عن إدارة المجلة بخصوص التقيد بالإيجاز والالتزام بالاقتضاب قدر الإمكان، عبر الاقتصار في الإجابة على الأسئلة المحورية الواردة في أصل الدعوة وعلى النحو الآتي:
ففيما يتعلق بالسؤال (الأول) المتضمن بيان رأينا عما تعنيه (المجلة) بالنسبة لنا شخصيا؛ أقول ان تاريخ كفاح هذه المجلة ونضالها على مختلف الجبهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كفيل بأن يجعلها في غنى عمن يجود عليها ببعض عبارات الثناء وكلمات التقريظ التي لن تفيها - بكل الأحوال - حقها واستحقاقها. فالمواضيع الفكرية الحساسة التي طرحتها والسجلات السياسية الجريئة التي خاضتها وسط تلك الضغوط الهائلة من التحديات والتهديدات، كانت بمثابة الاختبار الفعلي أو المحك الواقعي الذي بوّأها المكانة الاعتبارية اللائقة (كمطبوع فكري – ثقافي)، دونا عن سائر المطبوعات الأخرى التي حاولت منافستها والتنطع لاحتلال مكانتها، ليس فقط على مستوى (الخاصة) من النخب السياسية والثقافية التي تتعاطى مع مثل هذا الضرب من الأنشطة الذهنية فحسب، بل وكذلك على صعيد جمهور (العامة) من سائر الفئات والشرائح الأخرى التي قلما تحرك ساكنها وتثير اهتمامها مثل هذه المواضيع. ولهذا فليس كثيرا على مجلة كـ (الثقافة الجديدة) امتلاك وحيازة مثل هذه المواصفات النوعية والمميزات الفريدة، أن تتربع على عرش الإنتاج الفكري في العراق على مدار تلك العقود السبعة الماضية وحتى الآن.
وفيما يتصل بالسؤال (الثاني) الخاص بتقييم (دور) المجلة في ترقية وإنماء الحياة الفكرية والثقافية للجماعات العراقية بشتى تلاوينها الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية، فقد استطاعت هذه المجلة الرائدة أن تشق لها طريقا خاصا وسط ضجيج الخطابات الشعبوية والدعوات العنصرية التي كانت تبثها أجهزة الإيديولوجيات القوموية والاسلاموية لدغدغة مشاعر جمهور طالما كان مخصيّ الإرادة ومستلب الشخصية ومدجن الوعي؛ حيث كان لدور تلك الأجهزة المؤدلجة كبير الأثر في شلّ وتعطيل قدرات الأولى، ومسخ وتشويه مقومات الثانية، وتسطيح وتشويه فاعليات الثالث. وهو الأمر الذي تمخض عنه وترتب عليه جملة من المعطيات السلبية التي كان الإنسان العراقي – ولا يزال – يرزح تحت وطأتها، سواء على صعيد الفعل السياسي المتذبذب، والدور الاجتماعي المتقلب، والمنظور الثقافي المتصلب، والولاء الإيديولوجي المستقطب.
ولعل من أبرز إسهامات (مجلة الثقافة) الرائدة في مجال رصد وتحليل الظواهر الاجتماعية الفاعلة ، اعتمادها المنهجية (الجدلية) في سبر الواقع الاجتماعي وتحليل مكوناته واستشراف آفاق سيروراته ومآل دينامياته ، بحيث استطاعت مواضيعها أن تمد الفاعل الاجتماعي بعدة معرفية ومنهجية من العمق والثراء ، مكنته من موضعة كل ظاهرة اجتماعية في إطار سياقاتها الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية والحضارية ، بعدما كانت تختزل في أبعاد أحادية وأنطقة معزولة تجردها من أصولها وتبعدها عن علاقاتها وتفرغها من مضمونها. وهكذا، فبفضل دور المجلة التي انتهجت نهج (التحليل) المعمق للعلاقات و(التأويل) المكثف للتصورات، والكشف من ثم عما يجري داخل بنى الظواهر من سيرورات وتفاعلات وتقاطعات وصدامات لا تفتأ (تبدل)، ليس فقط من ملامح الظاهرة المعنية فحسب، وإنما (تغير) من طبيعتها كذلك، وهو الأمر الذي أفضى لأن تشهد مكونات وعينا الجمعي نقلة نوعية في مضمار التعاطي مع جدليات الواقع الاجتماعي، على النحو الذي أتاح للفاعل الاجتماعي فرصا أفضل لفهم الواقع المشوش وتفسير تحولاته الفوضوية.
وأخيرا، فان إجابتنا عن فحوى السؤال (الثالث) المتعلق بماهية المقترحات التي نعتقد أنها تسهم في تطوير عمل المجلة والارتقاء بمضامين نتاجاتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فقد يستلزم القول ان من المواقف التي تحسب لصالح المجلة أنها لم تخف هويتها السياسية (الشيوعية) والإيديولوجية (الماركسية) ، رغم كل المخاطر والصعاب والتحديات التي تعرضت لها – ولا تزال - بسبب إصرار تمسكها بتلك الهوية والذود عن مبادئها الإنسانية وقيمها الحضارية. ولعل شراسة الهجمات وقساوة الممارسات التي واجهتها على مدى سنوات وجودها الذي تراوح بين الحضور العلني والتخفي السري، أفضت الى اصطباغ أغلب مواضيعها بالطابع السياسي والإيديولوجي – من باب التأكيد على هويتها والدفاع عن خصوصيتها – بحيث وسمتها هذه الخلفية المؤلمة، بفرط الحساسية إزاء كل ما يستشف منه الاختلاف والمغايرة عن طبيعة تلك الأسس والمبادئ.
ولهذا قلما احتوى متن (المجلة) مواضيع ذات مشارب فكرية أو إيديولوجية لا تقع مقاصدها ضمن خانة التوصيف (الماركسي) الكلاسيكي، وهو الأمر الذي قلص لديها هامش (التنوع) في المضامين المعرفية و(الاختلاف) في المقاربات المنهجية، التي كان من المؤكد أنها ستسهم في جعلها أكثر قربا من نبض (الشارع الثقافي) للمجتمع العراقي، الذي ما زالت الغالبية العظمى من مكوناته تتعاطى مع العديد من الإيديولوجيات التقليدية (القومية والدينية)، مثلما تجتاف الكثير من القيم الأخلاقية الرثة والتقاليد الاجتماعية البالية. ولهذا نقترح أن تبادر المجلة الى التخفيف من مظاهر توجسها وحساسيتها إزاء ما يخالفها الرؤى ويجانبها التصور في طرح القضايا وإثارة الإشكاليات، ومن ثم الشروع بالانفتاح على ما تجود به الحياة الاجتماعية من فلسفات ونظريات وتصورات وتمثلات، ليس من باب الأخذ عنها والاندغام فيها والتماهي معها، وإنما من باب الاطلاع على خصوصيات الآخر الفكرية والمنهجية خلال تعاطيه مع المشاكل المستجدة، والنظر في الكيفيات التي يقدمها كحلول والاعتبار في الإجراءات التي يقترحها كمعالجات. وهكذا تكون المجلة قد أوفت بالتزامها باعتبار كونها مصدرا أساسيا من مصادر الفكر العلمي والثقافة الإنسانية.