تمرُّ في نوفمبر هذا العام 2023 الذكرى السبعون لصدور مجلة (الثقافة الجديدة)، مجلة الفكر العلمي التقدمي.
للمجلة مسيرةٌ حافلة بالنضال الفكري، الى جانب السياسي للحزب الشيوعي العراقي العتيد. مسيرة حافلةٌ بكلِّ ما يضخُّ في فكر وروح الإنسان العراقي - والعربي عامةً - وذوقه الفنيِّ، يضخُّ بكلِّ ما يدعم مسيرتها التنموية والتنويرية الفكرية في نشر الوعي والثقافة التقدمية، من خلال الدراسات السياسية والإقتصادية والاجتماعية والثقافية والأدبية؛ منْ أجل صالح الإنسان العراقي والإنسانية عموماً؛ نضالاً في سبيل العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفكر الرأسمالي الإمبريالي الاستغلالي، ومخططاته الشيطانية للسيطرة على العالم، ونهب ثروات الشعوب المقهورة، التي تعاني من سطوتها ومؤامراتها في السيطرة ومحاربة الفكر التقدمي اليساري، ورؤاه في موضوعة الصراع الطبقي، وكلِّ ما يمتُّ الى هذا الفكر بصلة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وفنيّاً وأدبياً. لذا كان لوجود مجلة مثل (الثقافة الجديدة) أهمية بالغة فكرياً وثقافياً؛ للوقوف بالكلمة أمام الهجمة الرأسمالية (المتوحشة) – كما نعتها الأديب السويدي اليساري الراحل بنغت أندنبرغ.
لقد كان، وسيظلُّ، للثقافة الجديدة دورُها المحوريّ والمهم في التأثير منْ خلال نشر الفكر والثقافة العلمية التقدمية؛ خدمةً لمصالح الجماهير الشعبية، وحقّها في الحرية والعيش الكريم، والتخلّص من التبعية والتخلّف، لبناء أمة سليمة سياسياً واقتصاديا ًواجتماعياً، في ظلِّ عدالة إنسانية، ومساواة في الحقوق والواجبات. كما عملتْ وتعمل المجلة كذلك على نشر الأدب والفنّ الملتزمين في خدمة المجتمع؛ انطلاقاً منْ موقفها الأيديولوجي الإنساني، لكنْ منْ غير تجاوزٍ للشروط والقواعد الفنيّة المنهجية، لتكونَ النصوصُ، والمنتج الفنيّ عموماً، ذات مستوىً من الأداء الرفيع، الذي يجب توفره ليكونَ النصّ ذا معايير جمالية مقبولة، وذا تأثير في المتلقي، دون أنْ يكونَ الالتزامُ على حساب تلك المعايير. وهذا ما دأبتِ الثقافة الجديدة وحرصتْ على توفرها فيما تنشره منْ تلك النصوص، وخاصة أنها زخرت بأسماء كبار المفكرين والأدباء والفنانين العراقيين على مدى تاريخها الطويل، ولم تقتصر الأسماء المساهمة في الكتابة فيها على الشيوعيين فحسب، إنما أيضاً شمل غيرهم من الكتاب الوطنيين والتقدميين واليساريين.
كان أول عهدي بالمجلة بعد ثورة 14 تموز 1958 حيث تناولتها يدي منْ مكتبة ابن عمي الشيوعي أبي دلير جعفر صادق ملا نظر. فتواصلت قراءاتي فيها، أنا وشباب البيت اليافعين في تلك الحقبة التي انفتحت أمام الفكر التقدمي، وانتشار المجلات والكتب اليسارية والماركسية خصوصاً، السياسية والاجتماعية والأدبية، فغصْنا فيها بلهفة ونهمٍ لننهل منها بشوق وانشداد كلَّ ما يفيد وينفع، ويقوّم أساليبنا في الكتابة، مما كان لها الأثر البالغ في تكوين وتطوير وعينا، وتشكيل إبداعنا وموقفنا منَ الكتابة، وتغذية أساليبنا لغةً ومضموناً وفكراً، وميلاً واضحاً لنظرية (الأدب للمجتمع)، التي كانت طاغيةً حينها على الأساليب والمضامين لدى الأدباء اليساريين. وقد كان لي – واستمر - شرفُ الكتابة فيها، منذ بدء صدورها مرة أخرى في العراق عام 1968 ، حيث نشرتْ لي قصائدي وترجماتي، وكتاباتي الأخرى. إنّ فضل الثقافة الجديدة عليَّ شخصياً كبيرٌ في التأثير والتكوين، منذ بداياتي الأولى في عالم الكلمة الحرّة الملتصقة بهموم الناس ومشاكلهم ومعاناتهم، ليس في العراق فحسب، وإنّما في كل أنحاء المعمورة، حيثما تعاني الشعوب المقهورة، إضافةً الى مؤثرات صحف ومطبوعات ونشريات الحزب الأخرى.
إنَّ استمرار المجلة في الصدور طوال هذه المدة الزمنية الطويلة، رغم مرورها بالكثير من المضايقات، منْ حجبٍ ومنع وتحريم من التداول والمطاردة والمحاربة السياسية – إنّما يدلُّ على أنّها ظلّتْ شامخةً واقفةً بصلابة وإصرار، تقاوم الظروف الصعبة والخطرة، لتبقى مناراً وفناراً للأجيال، تهديهم صوب الطريق القويم، والنضال الفكري المقاوم لكلِّ العواصف والأنواء، ليبقى الفكر العلمي التقدمي حادياً للناس المستضعفين، نحو آفاق التحرر والتنوير سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ونضالياً منْ أجل مستقبلهم العادل الذي يستحقونه كبشرٍ، لا كأرقام في أسواق البورصة الرأسمالية البشعة. وكلُّ هذا النضال يقف وراءه حزبٌ صُلبٌ تاريخيٌّ متماسكً، لم تنلهُ وتكسر شكيمته ما مرَّ به من أنواءٍ وأعاصير، وأشواكٍ وقضبان وقتل وتشريد ومطاردة ومحاربة، ظلَّ واقفاً صلباً ومازال. كما ما انفكّتْ قوى الظلام والتخلّف والاستغلال والعدوان تخشى من هذا الصوت؛ لأنها تدركُ أنَّ للكلمة وقعاً أشدَّ مضاءً منْ سيوفهم وألسنتهم وجيوشهم المدجّجة.
رايةٌ حمراءُ تلْتفُّ على الوادي،
فبغدادُ استفاقَتْ حُلُماً أبيضَ
لمّا شبلُها الأسمرُ قد أعلنَ تاريخاً
طويلَ النفْسِ والأنفاسِ عبرَ الشوكِ والصخرِ،
سياطٌ ألهَبتْ ظَهْرَ المناضلْ،
ما أدارَ الظَهْرَ للشمسِ،
ولا سلّمَ هذي الرايةَ الخفّاقةَ اللونِ
إلى أُرجوحةِ المَغْنمِ
في ديوانِ أوراقِ المواسمْ.
وقفَتْ جارتُنا تسألُ عنْ طفلٍ توارى
خلفَ جوعِ الأرضِ في عينيهِ حُلْمٌ
أنْ تدورَ الأرضُ منْ غربٍ إلى شرقٍ
خلاصاً منْ ظلامِ الغابةِ السوداءِ
ملأى بذئابٍ وطواغيتَ وقضبانٍ
وبومٍ لا يغيبْ!
فأجابَتْ أمُهُ: روحي فداهُ!
رفعَ الرايةَ حمراءَ ليمضي
في طريقِ الشمسِ كي يقطفَ منها
قبساً يُهديهِ للناسِ جياعاً وعطاشى...