يغلِبُ على المجلّات في العراق أنّها تنشأُ، ويمتدُّ بها الزمنُ بضعَ سنين، ثمّ لا تلبث حتّى يُدركَها الفتور، ويطويها الزوال، عدا بعضَ المجلّات التي أنشأتها الحكومةُ كمجلّة "الأقلام" التي صدر عددُها الأوّل في أيلول سنة 1964. أمّا مجلّةُ "الثقافة الجديدة" فإنّها نشأت قبل سبعين سنة، في سنة 1953، قبل قيام الجُمهوريّة بخمس سنين، وما تزال، على الرغم ممّا لقيتْ من مضايقة وحجب ! ولا ريبَ في أنّ بقاءها هذه المدّةَ الطويلة ليدلُّ على أمرين؛ الأوّل: رصانةُ المنشأ وقوّة أسسه، والثاني: دوامُ الحاجة لها!
وهي مجلّة ينطوي اسمُها على نهجها! إذ هي ثقافةٌ جديدة تروم زحزحةَ ثقافةٍ قديمة؛ مضى عهدها أو كاد!
وُسِمتْ المجلّةُ في عددها الأوّل، الصادر في تشرين الثاني من سنة 1953، بأنّها مجلّةٌ شهريّة ثقافيّة عامّة، صاحبُ الامتياز: مهدي الرحيم ، والمدير المسؤول: خالد طه، ويديرُ تحريرَها لجنةٌ من الكتّاب. وورد في وصفها ، على صفحة من صفحاتها، أنّها "مجلّةُ التفكير العلميّ والثقافة الحرّة". وليس قليلًا أن تسِم مجلّةٌ نفسَها بذلك في العهد الملكيّ! وإذا كان من طِماح المجلّة أن تكونَ شهريّة، تصدر في مطلع كلّ شهر فإنّ ما كان عليه الحال في ذلك العهد لم يسمح لها أن تكون عند طماحها؛ بل إنّ فكرَها العامّ ، وفكرَ كتّابها على النقيض من فكر العهد الملكيّ؛ فلا غروَ أن يتلكّأ صدورُها حينًا بعد حين.
وقد جاء في ديباجة العددِ الأوّل: "إنّنا نعتقد أنّ واجب المفكرين في هذا العصر هو بذل الجهود الصادقة للمساهمة في تكوين هذه الأفكار والمُثُل الجديدة التي تنسجم مع تكوين المجتمع وتطمئن حاجاته، ومحاربة كلّ عناصر الجمود التي لا تعترف بأنّ المجتمع يتطوّر ويتبدّل... إنّ الثقافة الجديدة ولدت من هذه الحاجة الماسّة لتساهم مساهمة فعّالة في سدّها؛ فهي تقدّميّة تؤمن بوجود أفكار رجعيّة تحاول منع تقدّم وعرقلة سيره؛ فتحارب هذه الأفكار معتمدة على دروس التاريخ القيّمة، وعلى التفكير العلميّ الصحيح"، ولاريب في أن هذا المورد من ديباجتها الأولى هو دستورها الذي مضت عليه منذ نشأت، وما تزال عند معالمه الكبرى.
ولقد كان من المبادئ التي أخذت نفسَها بها، وجعلتها مدارَها؛ أنّ الأفكارَ، مع أصلها الاقتصاديّ الاجتماعيّ، "قوّةٌ ذاتُ أثر فعّال في تقدّم المجتمع أو تأخّره"، وأنّها سلاحٌ ماضٍ في إحداث التغيير إذا أُحسنَ الانتفاع منها! ومن مبادئها أيضًا؛ أنّ الأفكار إنّما مصدرُها البحث العلميّ القائم على الوقائع، وكلُّ فكرة لا ترجع، بنحو ما، إلى الوقائع فإنّها شيء زائف يُخلّ برؤية الإنسان وصوابِ سيره! والمجلّةُ، من قبلُ ومن بعد، شعبيّة تخاطب الشعب ، وتسعى أن ترتقي به وتزيد من وعيه ، ومعرفته . وهي حرّة في فكرها ، وفي ما تسعى إليه . وإذا كانت إنسانيّةً في مرماها البعيد فإنّها ترعى الثقافة القوميّة ، وتحفظ على الشعب أنماط ثقافته ؛ تلك جلّ مبادئها التي نشأت عليها وظلّت تحوطها على اختلاف الأحوال.
كان من كتّاب العدد الاوّل ؛ صلاح خالص ، وإبراهيم كُبّة ، وخالد السلام ، وعبد الملك نوريّ ، وشاكر خصباك ، وبدر شاكر السيّاب ، وعبد الوهاب البيّاتيّ ، ونهاد التكرليّ ، ومهدي الرحيم ، وغيرهم . وهم ، يومئذٍ ، وجوه الثقافة في العراق ؛ وقد كتبوا في الأدب ؛ نقدًا وشعرًا وقصّةً ، وكتبوا في الاقتصاد والسياسة ، وترجموا أشياء من الأدب الغربيّ . لقد كان العددُ ثريًّا حافلًا بالجديد من الأفكار ، متّسمًا بالرصانة والتماسك؛ وإنّ القارئ ليجدُ فيه ، بعد سبعين سنة ، ما ينفعُ ويُمتعُ !
ثمّ صدر العددُ الثاني من المجلّة في شهر كانون الأوّل سنة 1953 ؛ وكانت ديباجته بعنوان : "التفكير العلميّ " وفيها أنّ "هناك أسلوبين لإدراك مظاهر الحياة وفهم عللها وأسبابها"؛ الأوّل : الرجوعُ إلى ما قيل ، من قبلُ ، من أفكار ، ومحاولةُ المواءمة بينها وبين ما استجدّ لإيجاد الإجابة المفسّرة. والثاني : دراسةُ الظاهرة الجديدة بأبعادها كلّها ، ومعرفة ما يحيط بها ، وما كان سببًا في نشأتها . ولا ريب في أن المنحى الثاني هو التفكير العلميّ المُفضيّ إلى الحقائق، وهو الذي تأخذ به المجلّةُ نفسَها. إنّ إشاعة الفكرِ العلميّ القائمِ على دراسة الوقائع ، في جوانب الحياة كلّها ، لهو ما ترصد له المجلّةُ نفسَها بالقائمين عليها ، وبكتّابها جميعًا .
كان من أبرز كتّاب العدد الثاني ؛ محمّد رضا الشبيبيّ ، ومحمّد مهدي البصير ، وفيصل السامر ، وإبراهيم اليتيّم ، ونهاد التكرلي ، والسيّاب ، والبياتيّ ، وعبد الملك نوريّ ، وغائب طعمة فرمان ، ويوسف العانيّ ، ومحمود صبريّ ، وغيرهم . وقد جاءت كتابتهم في الأدب والتاريخ والفكر، وغير ذلك من ضروب المعرفة.
ولقد لقيت المجلّةُ ، بعدديها ، إقبالَ القرّاء ؛ لوضوحِ موقفها ، وجدّة أفكارها ، ولكونها مع الإنسان في تحقيق آماله في الحريّة والكرامة ودفع الظلم . لكنّ السلطةَ القائمة يومئذٍ تنبّهت للمجلّة وخطرها؛
فلم يصدر عددُها الثالث في موعده ، مطلعِ كانون الثاني ، بل صدر في نيسان من سنة 1954 ، برقم واحد ، وبإدارة جديدة ؛ وفي ذلك دلالةٌ على ما لقيت المجلّة من إعاقة وتضييق ! وإدارتها الجديدة هي: صاحب المجلّة : عبد الرزّاق الشيخليّ ، ومديرها المسؤول : عبد المنعم الدركزلّي المحامي ، وكلاهما في صميم النهج الذي اختطّته المجلّة ؛ وقد جاءت ديباجةُ العدد بعنوان : إلى أخي المواطن ، بقلم عبد الرزّاق الشيخليّ نفسه ؛ أدارها على حاجة البلد لصحيفةٍ تنقل إلى الناس أدبًا يلائم روح العصر ! ورأى أنّ العقبة الكأداء التي تعيق الأدباء عن الكتابة والنشر هي القيود الثقال التي فرضتها القوانينُ الجائرة على الفكر! ثمّ يجهر بمواجهة الطغيان، ويدعو الكتّاب إلى مزيد من الجرأة في مواجهته، ويختم كلامه قائلًا: "وأنا حين أتقدّم إلى إخواني المواطنين بهذه المجلّة ؛ أقول في ثقة : إنّي لأوثر أن أخسر الحياة على أن أجور على النهج الذي انتهجته لنفسي".
كان العددُ الثالث كالعددين السابقين حافلًا بالأدب والفكر والسياسة محوطًا برصانة الموقف وثباته ؛ فنال ثقةَ القرّاء وإقبالهم ، وأغضب السلطة القائمة ! وإذ هيّأت المجلّة موادّ العدد الرابع ، ودفعتها إلى المطبعة جاء القرار بحجبها ؛ فلم يصدر العددُ الرابع إلّا بعد أربع سنوات حين قامت الجُمهوريّة!
إنّ مجلّة الثقافة الجديدة لمعْلمٌ مضيءٌ في تاريخ الثقافة في البلد؛ تحيّةً لها وهي تخطو إلى السبعين رصينةَ المنهج ، واضحةَ الفكر ...!