كانت وماتزال مجلة الثقافة الجديدة منهلا معرفيا مهما لي، بما احتوت موادها من زاد ثقافي متنوع ومنفتح وفكر متنور. وقد تكون كثرة كتابها المتميزين وهم من كفاءات مختلفة وأجيال عديدة وراء ما أضفى على ما تنشره في مختلف أبوابها رصانة مشهودة. وهذا ما أشار إليه الدكتور صالح ياسر رئيس التحرير في مقاله ("الثقافة الجديدة".. سبعون عاما من السِفر المجيد من أجل فكر علمي وثقافة تقدمية)* ذكر فيه بعض أسماء الأقلام العراقية المرموقة التي تواصلت مع المجلة، بالإضافة إلى نشر المئات من المواد في الاقتصاد والفلسفة والاجتماع لفلاسفة ولعلماء اجتماع ومؤرخين عرب وأجانب، حاملة الإسهام القيم الذي قدمته في تطوير الثقافة الوطنية الديمقراطية العراقية خاصة وفي نشر الثقافة التقدمية العربية والعالمية.
إن ما يبعث على الاعتزاز هو إصرار هيئات التحرير المتعاقبة على مواصلة إصدارها في مختلف العهود التي مرّت في العراق الذي تسلطت عليه أنظمة معادية للفكر العلمي والثقافة التقدمية ولاحقت كل من عمل في المجلة وساعد على ترويحها، وهذه ميزة منفردة من بين المجلات الصادرة في العراق خلال العقود السبعة الماضية.
وليس سرا يباح به القول إن هيئات التحرير التي تواترت على المجلة لم يكن عملها فيها طوعيا وتحمل تبعاته الأمنية أيضا فقط، بل طالما أنفقوا شخصيا لبعض ما يتطلب الإصدار والترويج لها.
وكما هو معروف فإن محتويات أعداد المجلة بعد الافتتاحية هي مقالات ونصوص مترجمة ونصوص قديمة وأدب وفن وأحيانا ملف العدد وحوارات، وعادة ما يُوَشّى الغلاف الأول والغلاف الأخير بلوحتين جميلتين، لكني أجد في محتوى نصوص قديمة أهمية استثنائية حيث يوفر للقارئ الاطلاع على نصوص منتقاة بعناية وقد فاته الاطلاع أو الحصول عليها.
وحرصا منها على إشاعة الحوار المنتج قامت المجلة مؤخرا بنشر بعض محاضرات منبر حوار التنوير، وهو تأكيد آخر على مشروعها وهدفها في إثراء الحوار الحر والثقافة التقدمية.
لقد أحسنت فعلا هيئة التحرير بوضع جميع أعداد المجلة المتوفرة إلكترونيا في الموقع الالكتروني الخاص بها مما يساعد القراء والباحثين للوصول بيسر إلى ما يبحثون عنه، والطموح المشروع هو نقل جميع ما متوفر من الأعداد القديمة ورقيا إلى النشر الالكتروني، رغم علمي أن هذه العملية تحتاج إلى جهد غير قليل وتمويل ربما يتوفر إذا أطلقت " الثقافة الجديدة" حملة تبرع خاصة لهذه المهمة.
ونحن في رحاب الذكرى الرابعة لانتفاضة تشرين الأول 2019 أود التنويه إلى اهتمام المجلة الملفت بهذا الحدث الفريد والهام، حيث نشرت في أعدادها: 409 كانون الثاني2020، والعدد المزدوج 410- 411 لشهر اذار 2020، والعدد 412 لشهر أيار 2020، والعدد المزدوج 413-414 تموز 2020، والعدد المزدوج 416 – 417 تشرين الثاني2020، والعدد 419 - 420 آذار2021، والعدد المزدوج 420-421 تشرين الثاني 2021، والعدد 434 تشرين الثاني 2022، عددا من الافتتاحيات والندوات والملفات، ضمت معالجات قيمة لموضوعة الانتفاضة.
وهنا أقتبس هنا ما شخصته بدقة للخلاصات الكبرى للانتفاضة في افتتاحية العدد 434 تشرين الثاني 2022 بمناسبة الذكرى الثالثة للانتفاضة، تحت عنوان: انتفاضة تشرين 2019 في ذكراها الثالثة تشاؤم الإرادة أم تفاؤل العقل؟ والتي جاء فيها:
(بعد سنوات ثلاث عجاف تتيح متابعة المسارات الكبرى التي اتخذتها انتفاضة تشرين بلورة أهم خلاصاتها الكبرى كدروس مفيدة للعمل اللاحق:
الخلاصة الأولى: لقد اثبتت انتفاضة تشرين وما قبلها من انتفاضات جدوى القاعدة السوسيولوجية القائلة: "إن كل نظام مهما كانت صلابته مهدد بالتلاشي"، لأنه وبكل بساطة "يتوفر على كم محدود من الطاقة التي يقوم بصرفها للحفاظ على توازنه".
وهكذا كلما ازداد تصلب النسق وأدار ظهره للحراك المجتمعي من دون حل المشاكل الفعلية، كلما تضاعفت سرعة انحداره نحو التلاشي. فالأنساق (النظم) المغلقة محكوم عليها بالتلاشي..
الخلاصة الثانية: إعادة الاعتبار لمفهوم الثورة والانتفاضة باعتبارها ليس عملا فوقيا، انقلابيا، بل من صناعة الجماهير الطامحة للحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.
كانت المواجهة مع عناصر النموذج المستند على التحالف البيروقراطي/ الكومبرادوري/ الطفيلي/ الرأسمالي التابع، في ظل التداخل العضوي الوثيق بين قوى الثروة وقوى السلطة، بين العصابات النهابة -” المافيات“- وبين” جهاز الدولة “على المستويات العليا والوسيطة.
الخلاصة الثالثة: جدلية العلاقة بين الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية السياسية وفشل محاولات الفصل بينهما أو تغليب إحداهما على الأخرى.
الخلاصة الرابعة: إن الوعي بضرورة التغيير ليس وليد الصدفة، وإنما هو نتاج عملية تطور تراكمي متواصل، يتولد من خلال المعاناة والشعور بالغبن وضرورة إزالته.
الخلاصة الخامسة: القدرة على دمج الاجتماعي بالديموقراطي في مطالب الشعوب وخصوصا الشباب منهم. فقد بيّن مسار الأحداث حساسية المتظاهرين من البطالة وعداءهم للنظام الاقتصادي المهيمن، مربوطة بإحساسهم بأهمية العدالة الاجتماعية والكرامة والحريات الفردية والجماعية.
وبيّن مسار الأحداث كذلك أن هناك علاقة وثيقة بين الخبز والحرية، فعلى الرغم من تقديم ّ حكومة عادل عبد المهدي حزما من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية، فإن انتفاضة الجماهير لم تتوقف. فقد رأى الشباب والمهنيون والطلبة وغيرهم من المنتفضين أن لقمة العيش مربوطة بحرية الصحافة، ورفع القيود عن الإنترنت، وحرية التعبير ... الخ.
الخلاصة السادسة: تتمثل في اللحظة المهمة التي ينبغي تسجيلها هنا وهي الانتقال من التعبيرات الصامتة لدى الشباب أو اللامبالاة بالشأن العام والانصراف عن السياسة، كما كان يزعم الكثيرون، ليتحول إلى قاطرات محركة لعمليات الحراك الاجتماعي والانتفاضة الشعبية ليواجهوا بصدور عارية عسف السلطة وعنفها السافر.
الخلاصة السابعة: إن الإذلال السياسي والإذلال الاجتماعي كانا سببين رئيسيين للانتفاضة، هذا طبعا إضافة إلى أسباب عديدة أخرى).
ثم تختتم الافتتاحية بالقول:
(في ظل هذه الأوضاع لا بد من مواصلة بذل الجهود من أجل توحيد عمل سائر القوى والحركات السياسية التي وضعت تغيير نهج حكم المحاصصة وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية ضمن أولويات برامجها. وهذه تشمل طيفا واسعا من الأحزاب، التاريخية والجديدة التي نشأت من رحم انتفاضة تشرين، والحركات السياسية والحراكات الاحتجاجية والشخصيات السياسية والاجتماعية المؤثرة، إضافة إلى الاتحادات والجمعيات والنقابات العمالية والمهنية.
المجد كل المجد الانتفاضة تشرين المجيدة!)
تحية مقرونة بالتقدير لمجلتنا الأثيرة ولكل العاملين فيها، مع الامتنان للدعوة الكريمة للمساهمة في إحياء ذكراها السبعين.
* صحيفة طريق الشعب العدد 1، الأول من آب 2023