يتساءل المرء: هل استطاعت مجلة "الثقافة الجديدة" وخلال مسيرتها، أن تؤدي دورها في التنوير والدفاع عن حقوق الإنسان ببعديها الاجتماعي والسياسي ومناهضة الاستبداد والتطرف؟ سأحاول الاجابة على هذا التساؤل على ضوء متابعتي لنشاطها، منذ اكثر من نصف قرن.
لعبت مجلة "الثقافة الجديدة" دورا متميزا في الثقافة الديمقراطية الوطنية، ليس فقط بنشرها الفكر العلمي والثقافة التنويرية، بل في دعم المثقفين العراقيين، عبر الدفاع عن حقوقهم المهنية والاجتماعية وفضح الاضطهاد الذي يتعرضون له بسبب فكرهم التقدمي ومواقفهم السياسية.
ويعّد احترام المجلة، للاستقلالية النسبية للكتاب والمثقفين، أحد أهم عوامل استمرار صدورها، رغم كل الصعوبات التي واجهت مسيرتها خلال السبعين سنة من عمرها، حيث شهدت أعدادها تنوعاً في الموضوعات وفي الهويات الفكرية والسياسية للكتاب. كما كان لتحولها الى ساحة لحرية الإبداع والاختلاف في الآراء وملتقى للفكر البناء، الأثر الطيب في توطيد العلاقة بين المجلة والمثقفين والباحثين من مختلف التوجهات.
كان لـ " الثقافة الجديدة" دور متميز في الدفاع عن الحريات وعن حق المبدعين والمواطنين، بشكل عام، في التعبير عن آرائهم ونشرها بحرية، اضافة للدفاع عن حق المبدعين العراقيين في التنظيم المهني والنقابي. كما احتضنت الإبداع الثقافي والفكري للكتاب والمثقفين ونشرت نتاجاتهم، خاصة حين ضاقت بهم سبل النشر اثر سيطرة البترودولار على الصحف والمجلات الثقافية العربية في بداية ثمانينيات القرن الماضي، حيث دخل كثير من المثقفين خيمة السلطات، وتخلوا عن دورهم التنويري في نقد الواقع والانتصار للعدالة وحقوق الإنسان، بعد ان فضلوا غنائم السلطات وموائدها والتحقوا بالمناصب والتسابق على الجوائز والانحياز للظلم والطغيان السلطوي. إن هذه الفسحة التي وفرتها مجلة الثقافة الجديدة للمثقفين التنويرين ساعدتهم على التحرر من هيمنة السلطة ومقاومة الإغراءات المادية والتعتيم الإعلامي على النشاط الثقافي التقدمي، وبالتالي في محافظتهم على المعايير الأخلاقية ومهمتهم التنويرية.
وكان أسلوب التعامل مع نتاجات الكتاب والباحثين، بعيداً عن الأستذة والأسلوب التعليمي، احد اهم أسباب توثيق العلاقة بهم. وهنا يستحق اسلوب الفقيد الراحل الدكتور غانم حمدون، الذي رأس هيئة التحرير في ظروف صعبة مرت بها المجلة، كل تقدير، خاصة رعايته للكتاب المبتدئين، والتي أدت إلى تخريج عدد لا بأس به من الكتاب.
وكانت للمجلة مساهمة متميزة في نشر فكر التجديد في الأحزاب الشيوعية والعمالية، والذي بدأ بالظهور في بداية الثمانينات من القرن الماضي، حيث تابعت المجلة المراجعات الفكرية التي قامت بها الاحزاب الشيوعية والعمالية، ومنها نقد تجربة الحركة الشيوعية والعمالية في العراق، وذلك عبر نشر كثير من الدراسات السياسية والفكرية، التي تتناول تجربة البناء الإشتراكي في المنظومة الاشتراكية وتجربة الاحزاب الاشتراكية الحاكمة، وكذلك الدراسات الفكرية التي تتناول مراجعة الفكر الماركسي على ضوء الظروف الجديدة التي تعيشها الحركة العمالية والديمقراطية في العالم بعد انتهاء الحرب الباردة وظهور العولمة بصيغتها الأمريكية.
أين تقف " الثقافة الجديدة" من الوضع العراقي الراهن، حيث يغيب التنوير والعقلانية عن المشهد الثقافي العراقي، وينتشر الجهل ويسود الفكر الظلامي، ويشتد التخندق خلف الولاءات الطائفية والقومية والمذهبية، وينحسر الوعي الوطني، وما يرافق ذلك من انتشار مظاهر الفساد وبعد الدولة عن هموم المواطن وحاجاته اليومية؟
أعتقد ان مجلة الثقافة الجديدة، لها بصمة واضحة في نشر المعرفة العملية والثقافة الوطنية الديمقراطية، في وقت تغيب فيه المجلات الثقافية التنويرية والمؤسسات الثقافية الوطنية، بقسميها الاهلي والرسمي. وتتمثل هذه البصمة بمنجزها الثقافي والفكري، المتضمن كثير من الكتابات والدراسات والأبحاث التي تناقش الواقع الراهن بروح نقدية بناءة وتقترح المعالجات لتجاوزه، واستقطابها لمجموعة نيرة من الكتاب والأكاديميين والباحثين والمفكرين والشعراء والأدباء، اضافة إلى الندوات التخصصية التي تتناول الواقع الراهن والأسباب التي ادت إليه وكيفية تجاوزه.
وبناء على ما تقدم، أرى إن الدور الأهم للمجلة في الظروف الراهنة يكمن في الاهتمام بالشأن الفكري، حيث نشهد تفاقم التعصب بكافة صوره في المجتمع العراقي، مما يتطلب الاهتمام بالفكر والتبادل الحر للأفكار مع المختلفين وليس مع الذات، لأن الحوار مع الذات لا ينتج تنويرا؛ بل جموداً وترديداً لمقولاتنا وأفكارنا مع أنفسنا. وبهذا التوجه تستطيع المجلة المساهمة في تخفيف الاستقطاب الفكري الحاد والاحتراب السياسي بين مكونات البنية السياسة والاجتماعية. إن النجاح في هذا المهمة يتطلب من مجلة " الثقافة الجديدة" ان تركز على المحاور الآتية:
- نشر المعرفة العلمية، التي تبنى على الحقائق الموضوعية، وتستند على دراسات نظرية وتجارب عملية ملموسة. فهناك للأسف عشرات من مراكز الأبحاث يرأسها اكاديميون، تدعي " العلمية" لكنها تقوم بنشر التضليل من خلال تشويه الأسباب الحقيقة للمشاكل السياسية والاجتماعية، التي يعاني منها المجتمع، والتي زادت حدتها خلال العقدين الاخرين، كالتغطية على نظام المحاصصة الطائفية ـ القومية، من خلال الخلط المتعمد بينه وبين الائتلافات السياسية التي تحكم في الانظمة الديمقراطية، وتشبيه نظام المحاصصة الطائفية ـ القومية، بالأنظمة المعتمدة في الدول المتعددة الإثنيات والطوائف في العالم.
- نشر مبدأ التسامح الذي يقوم على خلق التعايش السلمي بين التيارات السياسية والإثنيات المتعددة، وحل المشاكل القائمة عن طريق الحوار واحترام التنوع الفكري والسياسي داخل المجتمع، بدلاً من النزعة الثأئرية الذي انتهجتها النخب السياسية الحاكمة، بعد زوال النظام الدكتاتوري، وما رافقها من نزعة التشدد والتخندق الطائفي والمذهبي والقومي في المجتمع.
- الحفاظ على الثقافة الوطنية من محاولات الهيمنة الثقافية الغربية التي تستغل سعي الدول الوطنية للتحديث السياسي والاقتصادي والتكنولوجي، لنشر كثرة من مفاهيم وعادات وتقاليد الثقافة الغربية وتصويرها وكأنها أساس التطور والتحديث الاجتماعي، كالنزعة الفردية الذاتية التي تخرب التكافل الاجتماعي، وكالمثلية كضد للاسرة، وكالحرية المنفلتة مقابل الحرية الملتزمة، وكانعدام المعايير الأخلاقية مقابل الالتزام الأخلاقي، وكالغلو بالنزعة الاستهلاكية، وكتشجيع نزعة العنف لحل الخلافات السياسية مقابل الحوار، وكإعلاء الهوية ما فوق القومية مقابل الهوية الوطنية.
- مكافحة الجهل الثقافي بعد ارتفاع نسبة الأمية الثقافية بين المتعلمين الذين يتأثرون بوسائل الإعلام المرئية والمسموعة وشبكات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت المصدر الرئيسي للمعلومات والمعرفة لدى هؤلاء.
- النظرة النقدية للواقع، وهنا يلعب المثقفون دورا طليعيا، بنقد الواقع الثقافي واقتراح سبل التحديث، ليكون متماشياً مع روح العصر، ويعبر عن الاحتياجات الثقافية المتطورة للمواطنين، ويعزز من قدرة الثقافة الوطنية على مواجهة، أساليب الهيمنة الغربية، لما يملكونه من ادوات معرفية وحس نقدي. إن هذا النشاط الذي يقوم به المثقفون الوطنيون، يؤدي إلى زيادة الفعالية السياسية والاجتماعية للمواطنين، التي هي جوهر القوة الضاغطة على النخب السياسية الحاكمة.
-
توثيق العلاقة مع المثقفين الوطنيين العراقيين، الذين لعبوا وما زالوا دوراً وطنياً وسياسياً واجتماعياً مهماً في المجتمع العراقي، والذين تندرج مهمتهم في بث الوعي الوطني ونقد الواقع بروح علمية، كما عبر عن ذلك أنطونيو غرامشي، وهذه الوظيفة لا تختلف كثيراً عن هدف المجلة الذي جسده شعارها: فكر علمي ــ ثقافة تقدمية.