أيلول/سبتمبر 12
   
 
 
  في سن مبكرة من مرحلة الشباب التقيتها تتأبط ذراع فنان او اديب او بين الأكف أو مستلقية على طاولة النقاشات السياسية والفكرية، وفي الانشطة الثقافية والادبية المختلفة. ألفتها وهي التي تكبرني بعدة شهور.  
في تلك الفترة كنت مولعا بالقراءة وكانت ثمة دوريات ومجلات عراقية وعربية شهرية، ادبية، ثقافية وفنية وغيرها، مثل مجلة الآداب، الأقلام، الموقف الأدبي، آفاق عربية، التراث الشعبي، الهلال المصرية، الطريق اللبنانية وغيرها كنت مواظباً على قراءتها ثم النشر في بعض منها، حتى تعرفت إلى "الثقافة الجديدة" في نهاية سبعينيات القرن الماضي لتتوطد بيننا صلة خاصة وشغف دائم لطلتها وليكون لي شرف الاسهام فيها.
كان ذلك عند نهاية عقد الثمانينيات، حينها بدأت النشر في "الثقافة الجديدة" في قسمها "أدب وفن" بعرض ملخص وقراءة لروايتين من الأدب العالمي، القريب منا جغرافيا وثقافياً، ولغويا حتى، اعني به أدب البلقان، رواية "الدرويش والموت" لمؤلفها البوسنوي محمد، ميشا، سليموفيتش، ثم رواية "جسر على نهر درينا"، لمؤلفها الكرواتي إيفوآندريتش، الذي حصل على جائزة نوبل في الآداب العام 1961، بعد ذلك انتقلت الى القسم الاول من المجلة الخاص بالمقالات بنشر طيف واسع منها وملخصات بحوث كتبتها، في فترات مختلفة.
في نهاية الثمانينيات كنت اناقش البروفيسور د. رادي بوجوفيتش، رئيس قسم الاستشراق في جامعة بلغراد حول اطروحة الدكتوراه التي كنت انوي العمل على انجازها، وتتعلق بمدى تأثير المجلات والدوريات العربية على المجتمع. تحمس البروفيسور بوجوفيتش للفكرة وسألني سؤالين بطريقة اختبارية ان كنت تقصد "الثقافة الجديدة"، العراقية طبعاً؟... كان هذا المستشرق قد درس في كلية الآداب ببغداد وعاش اجواء ثورة الرابع عشر من تموز.
"الثقافة الجديدة" أيقونة فكرية مميزة
في كل مجتمع ثمة رمز أو علامة ثقافية مميزة، أو "ايقونة" إن صحّت استعارة المفردة التي تستخدم عادة لوصف الشخصيات التي تركت أثراً ثقافياً على حياة مجتمعاتها ومنح هذا الوصف للأدوات، او الوسائل الثقافية الرائدة فيها، التي تبلور دورها عبر الأزمنة والاجيال لتصبح هوية البلد الراسخة وبصمته على مستوى الفنون والآداب والفكر وغيره. ولا ابالغ القول بأن مجلة "الثقافة الجديدة" العراقية هي ايقونة في مجال التواصل الفكري التنويري وأرشفة الذاكرة الجمعية في السياسة والاقتصاد والفلسفة والفن والأدب. ...الخ. وهذا لا يعني التقليل من شأن المجلات والدوريات الرصينة الأخرى. 
ولدت هذه المجلة العتيدة قبل ما يقارب السبعة عقود وقد تميزت منذ وهلتها الاولى بشعارها العتيد "فكر علمي ... ثقافة تقدمية" الذي اتخذ موقعه المميز على غلاف المجلة معززاً بشعلة التنوير وعجلة التقدم. أن أهمية هذا الشعار تكمن في تلخيصه لأفكار وطموحات مطلقيها الذين قرأوا واقع البلد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بما حمله من تناقضات وتباين طبقي، وفي تجسيده لاسم هذه المجلة "الثقافة الجديدة" التي ستضع على عاتقها مهمة التصدي للطروحات والافكار المتخلفة السائدة في المجتمع من خلال نشر المواد الفكرية، ذات الطبيعة العلمية وابراز الثقافة التقدمية بفنونها وآدابها التي تنير الدرب للساعين نحو مديات الوعي الانساني وفضاءات المعرفة. ولهذه المجلة الريادة في نقل شتلات المعرفة من واحات الفكر التقدمي العالمي وغرسها في رحاب الفنون والآداب والعلوم في بلدنا لتتلاقح حضاريا وتنمو. وهذا ما جسدته منذ صدور عددها الأول، منذ ما يقرب من سبعة عقود من خلال شعارها العتيد "فكر علمي.. ثقافة تقدمية". هذا الشعار الذي اقترن بعجلة التاريخ وشعلة التنوير وههما تشقان طريقهما وسط ظلام الفترات الحرجة من تاريخ المجتمع التي واصلت فيها سفينة الوعي التقدمي طريقها تقارع أمواج التخلف وشيوع الخرافات والتشبث بالتقاليد البالية. ومن إطلاق تسميتها "الثقافة الجديدة" يشع وهج تأكيدها على وجود ثقافة سائدة في المجتمع تجعله متقوقعاً في دائرة مغلقة، وهي ثقافة بالية ولا بد من التصدي لها واستبدالها بثقافة جديدة.
بهذا العزم وقوة الارادة، خطت "الثقافة الجديدة" وعززت حضورها الراسخ، وعاهدت، ورغم المنغصات والمضايقات والإغلاق والاعتقالات، لكوادرها، على التواصل بعد أن اثبتت رصانتها بصدور اعدادها الثلاثة الأولى، وبعد خوض معركة الدفاع عن حق حرية التعبير والنشر، والتواصل بتوسيع آفاقها وتعددية الأقلام المساهمة فيها. فما يهمها هو جوهر الموضوع الذي يُّنشر على صفحاتها وليس اسم الكاتب او خلفيته. فهي وان كان تأسيسها جاء بتكليف من الحزب الشيوعي العراقي لعدد من مثقفي الحزب، بادارتها، نجدها سرعان ما فسحت المجال لمساهمات حملة الافكار التقدمية من غير المنتمين له، من يساريين وقوميين حتى..
وهذا ما جسدته كونها منصة اعلامية ثقافية عراقية شاملة ضمت، فيها الى جانب، عراقتها وانتمائها الى بيئتها المحلية، وهمها الوطني، تواصلها مع الفكر الانساني في كل مكان في العالم. فالى جانب طرحها مواضيع تخص التراث العربي ومعالجتها فنيا وادبيا، قدمت هذه المجلة قراءات لآداب وفنون العالم الحر، المتمدن ومن ينابيع الفكر التقدمي العالمي. وكان صراعها من اجل مواصلة الصدور معركة حقيقية خاضتها ضد قرارات الحكومة الملكية بغلقها وسحب اجازة الصدور منها، بعد انطلاق عددها الثاني وبعد صدور الثالث، بعد تغيير اسم صاحب الامتياز، ونجحت في معاودة الصدور، بفضل حملة شاركت فيها قوى وشخصيات من كافة الخلفيات منطلقها حرية التعبير.
وحينما نعود الى بداية خمسينيات القرن الماضي، لنتصفح عددها الاول الصادر في نوفمبر، تشرين الثاني 1953 نجده غنياً بالمقالات التي رسمت لوحة ملونة لجغرافية الابداع بأقلام أكاديميين، مثل "ابراهيم كبة الذي كتب عن نظرية القانون الصرفة، و صلاح خالص الذي كتب عن "الواقعية في الادب والفن"، ومحمود صبري الذي عالج الازمة الراهنة في الفن المعاصر، وشعراء مثل بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ، وكتّاب قصة مثل فؤاد التكرلي وشاكر خصباك وغيرهم من رموز الثقافة والاعلام التقدمي. وكان عدد نسخها رهاناً على امكانية توزيعها.
"وبعد شهر من صدور الأول، جاء العدد الثاني، أكثر غنىً من حيث تعدد مواده وتنوعها وحجم المشاركات فيه. اذ تصدرته افتتاحية بعنوان "التفكير العلمي" جاء حافلاً  بمساهمات من  الدكتور فيصل السامر بمقالة تحت عنوان "بعض الاتجاهات الاجتماعية في حركة الزنج" ومقال للشيخ محمد رضا الشبيبي بعنوان "مصادر الشك في كتاب العين"، كما ساهم محمد مهدي البصير بمقال حول "اهمية اسبوع المرأة" ونهاد التكرلي "مفاهيم في الفن القصصي" وساهم بدر شاكر السياب، بقصيدة "بغايا الشتاء" عبد الملك نوري بـ "قصة الجدار الأصم"، وغائب طعمة فرمان في "قيمة الوعي في الأدب"، وعبد الوهاب البياتي عن الشاعر الفرنسي اراغون,. فيما كتب محمود صبري مقالا عن "الفن والجمهور" وكتب يوسف العاني عن "واقع المسرح". وغيرهم وغيرها الكثير، من الذي أخبرنا به الراحل ابراهيم الخياط، في بحثه القيم "مجلة الثقافة الجديدة ودورها الثقافي ابان العهد الملكي في العراق".