أيلول/سبتمبر 12
   
                                                  
نحن نرى سلفا، أن الحديث عن مجلة الثقافة الجديدة يعني بالضرورة الحديث عن الفكر العلمي النيّر المواجه لظلام الجهل والخرافة، وعن الثقافة العراقية التقدمية المتجددة المدافعة عن الحرية والتطور، ضد ثقافة تقديس الماضي وترسيخ الطغيان وعرقلة التجديد. وهذه الرؤية تستند الى ما ذهبت اليه المجلة في عددها الأول الصادر عام 1953(عند صدور المجلة جاء في ترويستها أنها مجلة "الفكر العلمي" و"الثقافة التقدمية"). وقد تعددت القضايا التي تناولتها المجلة في عددها الأول (وجاءت وفق الترتيب الآتي: القضايا الثقافية، القضايا الاجتماعية، القضايا السياسية، القضايا الاقتصادية، قضايا التربية والتعليم، والقضايا العلمية). غير أنها وانطلاقا من مرجعياتها الفلسفية والأيديولوجية، تنوعت وتطورت على كل المستويات، على الرغم من ضراوة تضاريس طريق تواصلها مع القراء.
وهذا ما نلمسه في العدد (439) الصادر في أيلول 2023 حيث ضم المحتويات التالية: كلمة العدد/ مقالات/ نصوص قديمة/ نصوص مترجمة/ حوارات/ أدب وفن. محتوى (كلمة العدد) حمل عنوان (التغيير الشامل والحركة الاحتجاجية) وهذا يمثل رأي المجلة حول الراهن العراقي الحرج والمرتبك. والذي هو بحاجة الى بديل منتج لمنهج جديد مناهض لمنهج المحاصصة، ألا وهو التغيير الشامل على كل المستويات، وذلك بالإفادة من تجربة انتفاضة تشرين الفريدة. أما محتوى (مقالات) فقد ضم المقالات التالية: (المالية العامة العراقية بين الأيديولوجيا الليبرالية والجدل الاقتصادي المدرسي) للدكتور مظهر محمد صالح. و(إدارة وتكنولوجيا التعامل مع النفايات البلدية الصلبة في العراق) للدكتور رعد موسى الجبوري. و(القدرات المستقبلية الخرقة للذكاء الصناعي) للدكتور عادل كنيش مطلوب. و(إشكالية الهوية الثقافية للدولة) لأستاذة الادب الفرنسي والباحثة نجاة تميم. و(التاريخ والسرد ومأزق الحقيقة) لأستاذ اللغة العربية والباحث محمد دهموش. والقارئ لهذا المحتوى يتوصل الى نتيجة مفادها أنه دخل مدرسة علمية ومعرفية وخرج منها سعيدا ومتطلعا لعالم جديد قائم على رؤى تلك الدراسات المنهجية التي وفرتها له المجلة.
أما محتوى (نصوص قديمة) فقد أعيد نشر نص (عن التاريخ والتأويل وحقيقة الرابع عشر من تموز) للمناضل الراحل الاستاذ كامل شياع. وهكذا محتوى ملفت للنظر، لما له من دور مفيد في تثقيف الاجيال الجديدة عبر استعادة بعض النصوص المهمة الجديرة بالقراءة. بينما نطالع في محتوى (نصوص مترجمة) نص (علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم ) بقلم ديتا غيرنس وترجمة رشيد غويلب. وهذا النص يحيلنا الى التعرف الى ماهية النظام الاجتماعي السائد في الراهن الروسي، والإطلاع على هياكل السلطة السياسية في روسيا الآن. وفي محتوى (حوارات) نقرأ (الثقافة الجديدة تحاور الأستاذ أحمد الديين) أجرى الحوار سوران قحطان، والتي مكّنتنا من التعرف على حراك ونشاط اليسار الكويتي، من خلال أحد قياديي الحركة التقدمية الكويتية.
وما أن نصل الى محتوى (أدب وفن) يستقبلنا محرّره الاديب الجاد والإعلامي المخضرم الأستاذ حسب الله يحيى في عتبة (في البدء) ويرحب بنا ويكسب ودّنا بعنوان جاذب للمتلقي، هو (حرية التعبير في خطر) وتحته يسلط الضوء على محاولات السلطات الحاكمة، لقمع الأصوات الثقافية والاعلامية والاجتماعية التواقة لبناء دولة مؤسسات، تفتح الآفاق لنهوض عراق جديد تتوفر فيه حرية التعبير واحترام الرأي الآخر، وفق مبدأ المواطنة الحامي لجميع الهويات على تباين مرجعياتها وتعدد توجهاتها الرؤيوية. ثم نطّلع في عتبة (دراسات) على عنوان (الشعرُ: تجييلٌ أم تحوّلٌ) للدكتورة نادية هناوي، ونحن نجد أن التجييل في الشعرية مفتعل، بينما التحولات في الشعرية، هي نتيجة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عبر الزمن، وذلك وفق المنطق الجدلي للفلسفة الماركسية التي اعتمدت على ثلاثة قوانين جدلية مهمة هي: نفي النفي، ووحدة صراع المتناقضات، وتحول الكم الى كيف.
عند عتبة (في المشهد) يتألق السارد الماهر الاستاذ محمد خضير، من خلال نصه الجديد [أسد الجوع (سكيتش أنتيكيّ)] والذي يمزج فيه بين نصوص ما قبل التدوين المكونة من نصوص الواقع ونصوص الموروث ونصوص المخيلة السردية. وبعد عملية مخاض عسيرةٍ، ادارتها مهارة سارد محترف وقدير، وبراعة أنامل فنان مبتكر، ليعرض لنا نصا كولاجيا ساحرا، يتوفر على منظومة اتصالية مثيرة لاهتمام القارئ، وذات كفاءة عالية، في تصميم أقنعة النص الجمالية، التي تحرض القاريء على التأويل المتعدد، لانتاج نصوص ما بعد القراءة. بعد ذلك نقر عنوان (القاص محمد خضير والواقعية السحرية) للناقد داود سلمان الشويلي، والذي يتضمن دراسة لتحليل الشخصية في مجموعته الشهيرة (المملكة السوداء) تلك المجموعة التي أحدثت تحولا جديدا في مسار السرد العراقي منذ صدورها عام 1973.
وتحت عنوان (قراءات في قصص العدد الماضي – سرديات القص.. بين الواقع وسيمياء المفارقة) يدعونا الناقد القدير والمجتهد، الأستاذ علي حسن الفواز، لمرافقته وهو يتجول في عوالم قصص العدد الماضي، ويكشف لنا بأدواته النقدية، عن أهم ملامح السرد في هذه البانوراما القصصية. واعتمادا على ما يتمتع به من خبرة نقدية وخزين ثقافي، عرض لنا نصا نقديا مكونا مما يلي: مقدمة نظرية واستكشافية/ السرد وشخصية الورق/ القصة وسردية البحث عن الغائب/ سردية الاعتراف.. شغف الحلم/ الوجه الثاني والقص الضدّي/ الزمن الواقعي.. الزمن السردي.
ونجد ثلاث عتبات للفنون المجاورة للأجناس الأدبية وكما يأتي:
عتبة (تشكيل) وفيها يعرض لنا الناقد التشكيلي الأستاذ خالد خضير الصالحي عنوان (خضير الحميري.. رسام الكاريكاتير الذي: يدسُّ أنفه في كلِّ شأن..!) الذي يتناول فيه تجربة وفق مقتربات نقدية عدةٍ.
وعتبة (مسرح) التي يشغلها عنوان (مسرحيات قصيرة جدا) من تأليف الكاتب المسرحي الرائد المعروف، طلال حسن. وتنطوي على أربعة نصوص مسرحية قصيرة، والتي تبين لنا خبرة الكاتب ومهارته وخزينه المعرفي التي أنتج هذه المسرحيات المنتجة دلاليا.
وأخيرا عتبة (سينما) التي حملت عنوان [السينما والرواية (هيرمانوس وإيشيغورو) ألق المخرج الياباني كوروساوا في فلم << العيش >>] للكاتب الاستاذ علي المسعود، الذي أجرى فيه مقاربة مثيرة للمتلقي، بين رؤية المخرج الياباني العبقري أكيرا كوروساوا لفلم <إيكيرو> عام 1952 المستنبط من رواية ليو تولستوي <موت إيفان إيليتش> وبين رؤية المخرج الجنوب افريقي أوليفر هيرمانوس لنفس الفلم.
وفي عتبة (قصة قصيرة) نشر الكاتب المعروف جودت جالي قصة بعنوان (المعلم) وقد بانت إمكانية الكاتب في صياغة نص سردي ذي كفاءة بث قادرة على كسب ودنا لمواصلة القراءة. وفي عتبة (نصوص) قرأنا نصّا للشاعر المعروف سعد جاسم، بعنوان (جرة غاز تكفي للغياب) وقد أجاد في ريازة متن شعري متوهج في ايماءاته علاميا ودلاليا. كما نشر الشاعر الصديق والمجتهد حياةً وإبداعا عبد الرزاق الربيعي نصا بعنوان (حارس الناس) وقد أهداه الى الصديق الشاعر فضل خلف جبر. والنص محاولة من الشاعر لاستعادة حياتهما في الخدمة العسكرية وتعاقبهما خلال الحراسة الليلية.
وفي عتبة (في المكتبة) نشر الأستاذ عبد الغفار العطوي مادة نقدية عن المجموعة القصصية (بئر برهوت) للقاص جابر محمد جابر، وكان مجيدا في إجرائه الفاحص لها. وفي عتبة (مقابلة) ترجم لنا الأستاذ جواد وادي، المقابلة التي أجراها جون فريمان مع الروائي الأمريكي فيليب روث. والتي حملت عنوان (فيليب روث: ما بعد الحداثة). وهي ممتعة ومثيرة للاهتمام كونها أسفرت عن تبيان رؤاه وتصوراته حول العالم والنص. وأخيرا عتبة (بلغات الشعوب) وفيها نجد قصة (الخراف السود) للكاتب الألماني هاينرش بول، بترجمة الدكتور ماهر حوني، وهي قصة ممتعة ومدهشة كونها تتناول حياة العم أوتو الذي يربح جائزة اليانصيب ويفقد حياته وهو في طريقه الى البيت، انها مفارقة غرائبية ومدهشة حقا.
وبعد هذا التجوال الفاحص لمجلة (الثقافة الجديدة) وتحديدا عددها الأول الذي ولد في خان كبة في شارع الرشيد/ تشرين الثاني/ 1953، وعددها الاخير 439 الذي ولد في ساحة الاندلس/ أيلول/ 2023، نثمن جهود كل هيأة تحرير مرت عليها. لأن تلك الجهود، صنعت مجلة مضيئة في ذاكرة الثقافة العراقية، وقدمت أسماءً مهمة ولامعة في شتى ميادين الثقافة والأدب والفن. وهي على الرغم من المضايقات والعراقيل التي واجهتها على مدى سبعين عاما، لم تنحرف عن مسارها العلمي والتقدمي، بل ظلت صامدة ومستمرة في تطوير تطلعاتها وأساليب تواصلها مع الوسط الثقافي، إذْ تتزيّا على الدوام، بأجمل الرؤى وأروع الأغلفة وأسمى العناوين وأغنى المتون. وكان لخصوصيتها التقدمية النابعة من نقاء فكر وفلسفة - الحزب - دور ريادي مهم في انضاج وترسيخ الثقافة الوطنية والانسانية، لبناء عراق ديموقراطي يسع الجميع.