أيلول/سبتمبر 12
   
     هل مازلنا نشهد ارتباطا أو تقاربا أو انفصالا وقطيعة بين الاخلاق والسياسة؟ متى تهمش ومتى تستحضر الاخلاق في السياسة تفكيراً وممارسة؟
عرفنا عند ارسطو وقبله سقراط وافلاطون ان السياسة لا تنفصل عن الاخلاق لان سلطة الحكم عنده توجد لكي تحقق الحياة الفاضلة للمواطنين، لان الاخلاق عندهم معيار تمييز بين ثنائية الحق والباطل – الخير والشر – الكمال والنقصان – الفضيلة والرذيلة.
وعند سقراط الفضيلة علم والرذيلة جهل وان طريق او اداة تغيير الاخلاق الى علم هو العقل لان غاية العلم اكتساب الفضائل والتحلي بمكارم الاخلاق. ويذهب افلاطون الى اعتماد العقل ايضا على اساس ان النفس البشرية ثلاثة انواع (الشهوانية – الغضبية والعاقلة) والنفس او القوة العاقلة هي التي ينبغي ان تقود القوتين الشهوانية والغضبية ويحصل ذلك عندما يكون الحكم للعقلاء اي اما ان يكون الحاكم فيلسوفا او ان يكون الفيلسوف حاكماً لكي تتحقق العدالة.
وفي العصور الوسطى ساد مفهوم السعادة الاخروية وليس الارضية تعبيراً عن الاخلاق الدينية، الامر الذي لم يفسح المجال للتمييز ما بين الاخلاق والسياسة. وفي العصور الحديثة حلت سلطة العلم بدلاً من سلطة الكنيسة لتصبح السياسة عند ميكيافيلي عبارة عن لعبة تحتاج الى كل انواع الحيل وان الدولة الوضعية التي ارادها أما ان تقوم على اسس اخلاقية او لا تقوم، وهو مع الطريق الثاني. ثم ذهب توماس هوبز الى ان الاخلاق تكمن فقط في احترام بنود العقد بين الحاكم والمحكومين. وراح (عمانوئيل كانت) الى (اخلاق الواجب) وذهب (جيري بنتام) الى (الاخلاق النفعية) وهكذا القرن العشرين انشغل بنقد الاخلاق والتركيز على مسبباتها، بينما عرف القرن الحادي والعشرين بقرن العودة لتأسيس اخلاق جديدة تفرض سلطتها حتى على العلم ولكن هيهات!! نقول هيهات لان مفردة الاخلاق تثير الكثير من التساؤلات فمفردات ومصطلحات مثل الاصلاح السياسي والتنمية المستدامة والاستقلال والسيادة وحقوق الانسان والديمقراطية الحقة وحوار الحضارات وسلطة المعرفة والعدالة الاجتماعية والمصالحة الوطنية وحرية المعتقد وغيرها كثير، تؤشر التمفصل الايجابي بين الاخلاق والسياسة بينما مفردات ومصطلحات مثل التفاهة السياسية والخديعة السياسية والحماقة السياسية والفوضى السياسية والصهينة السياسية والفساد السياسي والعدوان والميكيافيلية والعسكرة وتصادم الحضارات والطغيان والاستبداد ونهاية الأيديولوجيا وأمركة العالم وجهل خصوصيات الآخر والدونية الحضارية والتفوق العرقي تؤشر الانفصال والقطيعة بين الاخلاق والسياسة ومن ثم تشكل الصفر الاخلاقي في علم السياسة، اي نفاد المخزون الاخلاقي في السلوك الفردي والجماعي في زمن العولمة الرأسمالية المتوحشة التي ارادت من السياسة فكراً وممارسة ان تعمل من أجل عالم تعيش وحداته الدولتية (الدول وانظمتها) اما نظام العبث والفوضى او نظام التفاهة والحماقة.
لقد اصبحت العدمية الاخلاقية اللوثة الكبرى في عالم السياسة فالقوي من الغرب الرأسمالي بالذات اخذ يتعامل وامامه اما عدو له او عميل له، بينما كان على وفق نظرة نصف او ربع اخلاقية يتعامل وامامه اما عدو او صديق. ولقد اصبحت الهندسة اللاخلاقية لعالمنا المحكوم من قبل الاشرار وليس الاخيار، سياسات وبرامج واجراءات وخطط لإعادة هندسة كل دولة في عالمنا المعاصر لتكون محكومة من قبل المتعطشين للدم والرذيلة والمال.
اذا كان من السهل جداً اتهام الذين كانوا يقدمون ابناءهم قرابين للآلهة بالهمجية والتوحش فمن الصعب اقناعهم بان القاء قنبلة ذرية على مدينة وتدميرها بمن فيها وما فيها يدخل ضمن شرعية استعمال العنف من اجل درء عنف اشد او تخفيفه، كما تريد ان تخدعنا به الادارة الامريكية كتبرير احمق ومضحك لوقوفها مع الكيان الصهيوني.
وعن العلاقة بين الحرب والاخلاق فقد لا نعرف دائما متى ينتهي القتل باسم الإنسانية، ومتى يبدأ باسم المصالح؟ فالحرب سيئة بالنسبي والمطلق كما يؤكد ذلك (امبرتو ايكو) فلا رابح في الحرب الحديثة، فهي مضادة للبيئة والانسان رغم (ذكائها) فعلى الانسانية ان تتخلص من تراثها الدامي لترسي قواعد جديدة من اجل ادارة طاقات العنف داخلها بما في ذلك امكانية تحريم الحرب واعتبارها (تابو) كما اقترح ذلك الكاتب (البيرتومورافيا).
ان العقلنة لا تقصي المختلف باعتباره خارجا عن النمط العقائدي بل تستوعبه ضمن ممكنات الوجود الاجتماعي الذي يجب ان يتسع للجميع ضمن ثوابت الانسانية وحدها. فالوحدة ليست انصهار الواحد في ذاته بل هي طريقة في ارتباطه مع الآخر. فالآخر هو من يحددنا كما يقول (ايكو) فبدونه سنصاب بالجنون او الهوس، لذلك فكل وحدة انما تقوم على المتعدد في الوجود فلا شيء مثيرا للحزن اكثر من شعور امة بوحدتها بتعبير (ليفي شتراوس). بعبارة ادق ان وجود البعد الاخلاقي مرتبط بظهور الآخر.
فالانا لا تعرف الانا الا بوجود الآخر على حد تعبير (سارتر) والغاية في كل قاعدة اخلاقية هي تنظيم العلاقات بين الافراد، بما فيها العلاقة مع آخر هو من يفرض هذه القاعدة. فقد تختلف اشكال القيم لكن مضامينها ستظل واحدة، ان الخير خير والشر شر في مشارق الارض ومغاربها.
لذلك لا يجب ان تثنينا بشاعة عولمة الحرب عن تبني منجزات الحضارات في مجالات الانساني، ومنها الحقوق والديمقراطية ورفض القتل باسم الدين والعرق والهوية الثقافية، فلا شيء يمنعنا من استنبات هذه المبادئ في تربيتنا الثقافية وفق خصوصياتنا كما تأتي من اللغة والتاريخ والثقافة، لا كما يمكن اسقاطها خارجها، فلا خصوصية في العدل والمساواة والحرية والديمقراطية الا ما يتعلق بخصوصية ما يمكن ان يخدم بأفضل الطرق مصالح الناس وكرامتهم. فنحن جزء من الانسانية وهذا ما يجعلنا نهتز طربا ونحن نستمتع بموسيقى لا نعرف كلماتها.
 وهذا يعني عدم الخلط بين الحضارة التي انتجت هذه القيم وبين ما يرتكبه المنتمون اليها من جرائم خارج حدودهم، فلن يقود هذا الخلط في نهاية الامر سوى الى تبرير وجود طغاة يحكمون شعوبهم بعبث تسلطي لا نظير له في التاريخ، فباسم الخصوصية والتمييز يبررون الاستبداد والتخلف والقطيعة مع الآخر والانكفاء على الذات خارج مجريات تاريخ يصنع في غيابنا وغيبوبتنا وخارج قدرتنا على مجريات إيقاعه.
ان واجب العاقل هو في المقام الأول انتقاده لحالة وحال أناه قبل انتقاد الآخر. وعلى سبيل المثال قدم نعوم تشومسكي العالم اللساني الشهير حالة مثقف عاقل نادر الوجود في التاريخ. فقد وقف في وجه الحماقة الامريكية بكل قوة وفضح اساليب حكومته في التدخل في شؤون الافراد والشعوب والدول، ولم تمنعه يهوديته من الوقوف ضد الكيان الصهيوني دفاعاً عن حق الشعب الفلسطيني في استقلاله وبناء دولته.
 فالعاقل فاعل اخلاقي لا يتقيد بحالات انحياز زائل لهذا الموقف او ذلك يحل محل القيم النبيلة التي انتجتها الممارسة الانسانية الممتدة عميقاً في التاريخ. فقد مات سقراط دفاعاً عن حق الانسان في التفكير الحر، ورفض الفرار من سجنه لكي لا يشمت به اعداؤه او يشككون في مبادئه. وهكذا فان ما يفصل السياسي غير العاقل عن السياسي العاقل هو الفاصل بين الولاء وبين الحقيقة. فالولاء عند (امبرتو ايكو) مقولة اخلاقية، اما الحقيقة فمن طبيعة نظرية. الاولى للسياسي فهو يتحرك ضمن تراتبية السلطة او تراتبية الحزب، اما الثانية فمن اختصاص العاقل المثقف فهو لا يهتم سوى بالقيم التي تحمي الانسان من الظلم والانتقاص من حريته وكرامته، ولا سبيل الى الخلط بين ما يأتي من الولاء وما تقود اليه الحقيقة انه الفاصل بين إكراهات السياسة وامتيازات الثقافة.
فلا شيء يبرر قتل آلاف الضحايا الأبرياء انتقاما من أمريكا الظالمة كما حدث ذلك في نيويورك ومدريد مع بداية القرن 21. ولا خير من إدانة غزو صدام للكويت لأنه غزو عبثي ولكن الضير في ان تتم مباركة قتل الشعب العراقي كأمر مأساوي والحقيقة تدفع العاقل إلى ضرورة إسقاط نظام فاشي دون مباركة الغزو الأمريكي للعراق.
إن مضامين المحاضرة تبين ان قوة الأخلاق تقاس بسلوك العقلاء لا بما يفعله الحمقى الذين هم، في النهاية، من مخلوقات الله الحيوانية المتوحشة صناع الصفر الاخلاقي في عالمنا المعاصر.
 
شيء عن تاريخ الأخلاق والسياسة
     عندما نريد عقلنة السياسة وترشيد الساسة ينبغي عدم تجاهل الأخلاق التي تستبعدها عصابات العولمة الرأسمالية المتوحشة عن التفكير والعمل السياسي باستخدام شتى أساليب الخداع والتضليل لتجعل من السياسة نجاسة ما بعدها نجاسة.
إن وقفه عند أفكار ماركوس شيشرون (106ق.م – 43 ق.م) تجيب عن سؤال العلاقة بين الاخلاق والسياسة. لقد عاصر شيشرون الحقبة الأخيرة من النظام الجمهوري وقيام الدكتاتورية العسكرية على يد (يوليوس قيصر) تمهيداً للتحول الى النظام الامبراطوري الروماني. وتسببت آراؤه في مناهضة الديكتاتورية الى تقديمه للمحاكمة وإدانته والحكم عليه بالإعدام بعد عام واحد من مقتل يوليوس قيصر.
يتأسس الفكر السياسي عن شيشرون على قواعد ذات طبيعة قانونية، تستند إلى نظرية القانون الطبيعي، وتنتهي صياغة شيشرون لنظرية القانون الطبيعي وتفسيره الأخلاقي لها إلى نتائج سياسية مهمة فيما يتعلق بأصل السلطة السياسية ومصدر شرعيتها ووظفيتها وشكلها وتداولها، ولخص "جورج سباين" تلك النتائج في أن شيشرون جعل بناء الدولة واستمرارها مرهوناً باستنادها إلى الاعتراف بحقوق مواطنيها، ومسؤوليتها عن التجسيد العلمي لوعيها بهذه الحقوق، وتعميق وعيهم بها، وإقامة علاقاتها المشتركة معهم استناداً إليها. وينظر شيشرون الى الدولة على أنها جماعة معنوية، أي مجموعة أشخاص يمتلكون الدولة وقانونها بالمشاع بينهم، لذلك فهو يعرف الدولة بأنها "مصلحة الناس المشتركة" وهي مصلحة مستندة إلى الأخلاق وقائمة عليها. فإذا لم تكن الدولة قائمة لأغراض أخلاقية ولا على أسس أخلاقية، وإذا لم يكن قوامها الروابط المعنوية التي تجمع الناس بعضهم إلى بعض، فلن تكون في رأيه سوى عصابة مسلحة من قطاع الطرق، غايتها سلب أموال الناس على أوسع نطاق ممكن، بما يعني أن خروج الدولة على القواعد الأخلاقية يُفقدها حقيقة كونها دولة. وبقدر تعلق الأمر بالناس الذين قال شيشرون إن الدولة تعبير عن "مصلحتهم المشتركة" فإنه لم ير فيهم مجرد مجموعة أفراد مجتمعين كيفما اتفق، بل رأى أنهم الأفراد المجتمعون في أعداد كبيرة، ويربط بينهم توافق آرائهم بصدد القانون والحقوق، ورغبتهم المشتركة في حياة جماعية يساهمون فيها بما يعود عليهم جميعاً بالخير والنفع المشترك. ويجعل هذا التصور من الدولة شبيهة بالمؤسسة المساهمة التي تكون عضويتها حقاً عاماً ومشتركاً بين جميع مواطنيها، وهي مسؤولة عن تزويدهم بثمار التعاون المتبادل والحكم العادل.
هكذا تكون الدولة، عند شيشرون، نتاجاً طبيعياً للغريزة الاجتماعية عند الإنسان، ومؤسسة عقلانية أخلاقية، وليست مخلوقاً ناجماً عن الطبيعة المصلحية الأنانية اللاأخلاقية للأفراد. ولعل مما يلفت النظر في مفهوم الدولة عند شيشرون، تأسيسه الاجتماع المدني على رابطة قانونية تنشأ عنها السلطة السياسية أساساً، فبدلاً عما افترضه العقل السياسي اليوناني من أن أساس قيام الدولة هو مجموعة الأفراد المتحدين سياسياً وفقاً لقيم عليا وأهداف مشتركة، افترض شيشرون أن أساس قيام الدولة هو الاجتماع البشري المرتبط برابطة قانونية، تجعل منه كياناً اجتماعياً – سياسياً مزوداً بسلطة قانونية سيدة. وبذلك يكون شيشرون قد صاغ المبادئ العامة التي تحدد طبيعة السلطة السياسية بما يجعلها في ظل تلك المبادئ وبفعلها:
  • سلطة سياسية مصدرها الاجتماع الإنساني.
  • سلطة سياسية تستند ممارستها الى القانون الناشئ عن هذا الاجتماع والمنظم لشؤونه وتفاعلاته.
  • سلطة سياسية تستند ممارستها الى أسباب قيمية، وتستهدف تحقيق أهداف أخلاقية.
 
مقدمة في المنجد من تفاهات السياسة ونجاسات الساسة
    عندما قيل ان السياسة فن وعلم ومهنة على رأي عالم الاجتماع السياسي الالماني (ماكس فيبر) كان في عوالم البشر شيء من الخير واشياء من الاخلاق. بيد ان الخير توارى والاخلاق انعدمت عندما توحشت الرأسمالية ونفضت عن بدنها قشرة الليبرالية وعندما تخنثت في الوقت نفسه، الاشتراكية وسمحت للرأسمالية ازالة عذريتها (العدالة الاجتماعية) متوهمة بوهم عدم استعجال نهاية المرحلة الانتقالية حتى لو ظلت مرحلة انتقال مؤبدة فازداد توحش الرأسمالية توحشاً بعد ان وظفت واستخدمت لصالح مشروعها كل مصاصي الدم وعشاق المال والغرقى في الرذيلة من كل بقاع العالم في مشروع صهيوامريكي بكامل مشتقاته من صهاينة مستهودين وصهاينة مستمسحين وصهاينة متأسلمين.
نعم، عالم اليوم يعيش مرحلة انتقال مضطرب ولكن الى اين؟ ترامب الامريكي يقود عربة الليبرالية الشمولية وبوتين الروسي يقود عربة الشمولية الليبرالية وكلاهما يريد العالم عربة مقودها بأيديهما وهما يعرفان جيداً ان هذا المقود يعمل باتجاه واحد هو اتجاه الاستدارة فقط نحو الشمولية المنزوعة عن الاخلاق وعن الديمقراطية وعن العدالة وعن حقوق الانسان، وكذلك عن التحضر المبرقع بالذكاء الاصطناعي لأغراض الابادات الجماعية وتلك هي انجس نجاسات الساسة، واتفه تفاهات السياسة في عالمنا المعاصر المشغول بتدوير الاوساخ حيث الفاشل يُبّجل والناجح يُفَشل!
ازاء ذلك هناك حاجة الى كتابات تشتبك بضراوة مع الكتابات التوصيفية المتلذذة بما يحصل من خراب للانسان. والى كتابات تفضح الاقلام المأجورة الذمامة للذي يفكر بعقله والمداحة للذي يفكر بذراعه وبماله حتى لو كانت مخرجات تفكير هؤلاء منغمسة في تفاهات السياسة وطامسة في نجاسات الساسة.
في عالم الساسة والسياسة اللاخلاقية هذا تمجد الاقلام المأجورة الابادة الجماعية للشعوب دون ان تشعر بالخجل من عجزها عن إنصاف شعوب تطمح للسير في دروب الحرية والاستقلال. وفي عالمنا التافه اصبح من المحظور في الكتابات اللااخلاقية المأجورة النظر الى الانسان كذات مستقلة وحرة من حيث الحقوق. فالانسان لم يعد – عندهم - سوى كائن تجريبي ساكت او فأر مختبر مقزز يحب على سادة التوحش الرأسمالي وأذنابهم التعامل معه بقفازات واقنعة ليس فقط عند التعامل معه بل ايضا عند تنفيذ حكم الاعدام المادي والمعنوي بحقه لسبب انتفاضة وعي هذا الانسان ضد الابادات الجماعية التي اضحت ممكنة جداً عند سدنة الرأسمالية المتوحشة في القرن الحادي والعشرين والتي اسست الارهاب ووظفته واستخدمته بعناية ليكون الانسان، ليس كما كان يصفه (هربرت ماركوزة) انسانا غارقاً بالوفرة وممنوعا عنه الاحتجاج، اي انسان البعد الواحد، بل ليكون انسانا ذا البعد المباد بعد ان هدمت الرأسمالية المتوحشة بشكل سافر وبلا خجل اسس الديمقراطيات الحديثة لتبقي، فقط، على جذور هذه الديمقراطيات المتمثلة بالجذور الاحتلالية الاستعمارية التي سبق وان انبتت شجرتي الفاشية والنازية المدمرة للانسان في القرن العشرين وثمرتهما الجديدة المتمثلة بالرأسمالية العالمية المتصهينة.
وبقدر ما تشعبت اسئلة السياسة وتبعثرت أجوبة الساسة فان عقول قليلة غير مأجورة مازالت تمنهج ما يحصل كأسئلة وتنظم اجوبتها بعيداً عن تفاهات السياسة وعن نجاسات الساسة .. وستظل تلك العقول القليلة تمتلك مفتاح مفاتيح مشروع التقدم المعرفي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. مشروع لا يعيش ولا يعتاش على الماضي ولا يراوح في الحاضر بل يسعى الى الافضل من الاثنين معاً. بعبارة ادق مشروع يسعى الى المستقبل.
ولكن قبل تسطير المشاريع البديلة لا بد من منجد ينقذ السياسة من التفاهات ويخلص الساسة من النجاسات.. منجد يعبد الطريق امام مشروع بديل ومضاد للمشروع الرأسمالي الابادي يقترن بالعقلنة ونغادر به التفكير والفعل الاستهلاكي المربوط بحبال المديونية للاجنبي الى تفكير وفعل انتاجي متحرر من قيود الهيمنة والتبعية.. مشروع انتقال بالوحدات السياسية في العالم من حالات الفوضى وما قبل الدولتية الى حالة النظام والاستقرار الدولتية.. مشروع للانتقال بالافراد من الرعوية الى المواطنية والانتقال بالجماعات من التجمعات التقليدية الى المؤسسات المدنية العصرية... مشروع الانتقال بالسلطة من الشمولية التسلطية الى التعددية القائمة على الرضا والمقبولية الشرعية بالانتخابات واستمرار وتواصل هذه الشرعية بالانجازات القائمة على العدالة الاجتماعية.
 
مقدمة مقدمات التطهر من تفاهات السياسة
    ما الخطوة الأولى في تخليص السياسة من التفاهات وتطهير الساسة من النجاسات؟
يمكن الاتفاق مع كثرة من العقلاء الذين انشغلوا بدور حركة الاصلاح والنهضة في إعادة بناء الممارسة بكل انواعها وضمنها الممارسة الايمانية الدينية، بعيداً عن انحرافات العقل وتشوهات التفكير العتيقة بالايمان... وإعادة البناء هذه تقوم على ثلاثة مستويات هي مستوى المؤسسة الدينية ومستوى الفكر والاعتقادات ومستوى الضمير الايماني.
على المستوى الاول ينبغي عدم القبول بالخضوع الاعمى لرجال سلطة مؤسسات التدين التي ترى في أي حوار أو نقاش بادرة كفر وخروج عن الدين، فما بالك في مشاركة هؤلاء في عمل هذه المؤسسة أو الرقابة عليها، وهذا هو المضمون العميق للقول بسلطة النص المقدس التي تفقد رجال الدين مقامهم ليتحولوا الى رجال اختصاص فحسب، لا فرق بينهم وبين المؤمنين العاديين إلا في درجة التفقه بالدين، وهو ما يستطيع أي مؤمن ان يصل إليه بجهده الشخصي.
وعلى مستوى المؤسسة الدينية يمكن ربط الايمان بالنص المقدس المتاح لكل فرد امتلاكاً وفهماً، وهو ما يعفي مؤسسات التدين من دورها في التحكم بالايمان ويحولها الى مركز للخدمات الاجتماعية والخيرية، ليخرج المؤمنين الى اكتشاف وتبيان المعاني والاخلاق والسياسة المدنية ولتصبح مؤسسات مجتمعية لا تذوب فيها جميع الهويات والذاتيات الفردية لصالح هوية وذاتية واحدة متسلطة، وجعل الايمان ممارسة شخصية وفردية، تربط بين مؤمنين مستقلين واحراراً ومتساوين في الحقوق والواجبات تماماً، لا سلطان لأحد عليهم سوى سلطان الضمير. وعندها يظل رجل الدين مقدسا ورجل الدنيا غير مدنس وتتصالح الدنيا مع الآخرة والدين مع الحياة، ولا يكون الدين ضد العقل بل يكون بينهما التفاهم والتكامل، ولتبقى المؤسسة الايمانية جزءا من مؤسسات الدولة الوطنية.
أما إعادة البناء على مستوى الفكر والاعتقادات الايمانية فيتمثل بتجريد مؤسسات التدين من مراقبة ومحاسبة المؤمن ومن سلطة التحكم في ايمانه والتوسط له. كذلك حرمانها من الوصاية الفكرية على العقل ليتحرر الفكر الايماني ويعاد بناؤه على اساس مبدأ جواز تعدد المذاهب الدينية من دون عوائق ولا حدود لتأخذ دورها بالعمل النافع للنفس وللآخرين على الارض. وبقدر ما يكون الايمان هبة من الله واثرا لفضله فانه يشجع المؤمن على الخروج من ذاته نحو الآخر لانه لا يفعل الخير للحصول على خلاصه الاخروي فقط بل لإدراكه ما وهبه الله فيه من الخير له وللآخرين.
أما على مستوى الضمير الديني وإعادة بناء الممارسة الايمانية فينبغي إعادة تعريف معنى الايمان ومستلزمات الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية وتأكيد ابعاد التجربة الايمانية الدينية المرتبطة بإرادة الفرد المؤمن وتطلعاته اكثر من ارتباطها بالانتماء لجماعة والولاء لها. وإضافة الى انه ليس بالضرورة ان تكون النجاة في الآخرة مشروطة بالعبادات وحدها بل ايضا مشروطة بإعادة بناء علاقات الثقة والتضامن مع الانسان والتمسك بالعمل الصالح نحوه، والقائم على المسؤولية وتحقيق العدالة على الارض انطلاقاً من ان الدين في الاسلام هو المعاملة حيث يصبح الاستثمار في الفرد وبناء شخصيته وسلوكه محور نشاط الاصلاح ومصدر تجديد الفكر والعلاقات المجتمعية ايضا.
ان تلك الخطوات هي مقدمة مقدمات التخلص من تفاهات السياسة والتطهر من نجاسات الساسة وان النتائج المترتبة على مقدمة الاصلاح للمؤسسات الايمانية من داخلها تؤدي الى معالجة مشكلاتها وتحسين صورتها واوضاعها مما يساعدها على إستعادة مكانتها وتقويتها وتعزيز تأثيرها وتوسيع دورها في تعزيز الايمان في الحياتين الفردية والاجتماعية بفعل تكييفه لمفاهيمه الاساسية مع الحاجات الانسانية المتغيرة والمستجدة واضفاء الطابع الديمقراطي على الحياة الايمانية وعلى الجوانب الاجتماعية والسياسية للحياة بل وحتى جانبها الاقتصادي وما استجدت عليه من تحولات جعلت للامور البشرية دلالات ايمانية ليصبح العمل نوعاً من التقوى والعبادة المستمرة.
 
البذرة الأولى لموت السياسة
     تعد الرأسمالية آخر الفيروسات التي لم تكتف باستكمال نزع السياسة الحقانية عن عذريتها، بل قتلت بقايا الابعاد الانسانية والاخلاقية فيها، وتلك الشجرة الرأسمالية الخبيثة كان لها جذور وجذورها كان لها بذور.
وقد عَلمنا التاريخ السياسي عبر العصور إن الكثرة من الحكام اعتمدوا الاوهام لتحقيق المقبولية في القبض على السلطة والتسلط. فما هي البذرة الاولى للأوهام ومن الذي زرعها لتنمو وتكبر لتصبح شجرة رأسمال متوحش ثمارها التفاهات والفوضى؟
ثمة اربعة امور تكمن فيها البذرة الطبيعية للاوهام وهي الاعتقاد بالكائنات الغيبية والجهل بالاسباب وعبادة البشر لكل ما يخافونه وعد الاشياء العرضية توقعات. وبذلك فان أصل الوهم ومبدؤه هو انه رأي أو اعتقاد في القوى غير المرئية والفائقة للطبيعة.
وبسبب اختلاف تخيلات واهواء واعتقادات البشر، فقد طرحت الاوهام عندهم ونمت حتى اصبحت طقوساً مختلفة بينهم الى حد ان ما يمارسه احدهم منها، يبدو في نظر غيره سخيفاً في معظمه. وقد زرع بذور الاوهام في الناس نوعان من البشر، وكلاهما فعل ذلك لأسباب مختلفة، ولكن بهدف واحد ومشترك بينهما وهو هدف جعل الذين يؤمنون بالاوهام يخضعون لسلطات من يبشرون بها.
النوع الاول من البشر الذين يزرعون بذور الاوهام وهم البشر الذين ابتكروا بذور الاوهام وعقائدها بأنفسهم ابتكاراً ذاتياً وإراديا وزرعوها وغذوها بين الناس تبعاً لذلك لتكون هذه الاوهام جزءا من السياسة البشرية، لان زرعهم يُعلم رعايا الارض طاعة الحكام وتنفيذ ما يأمروهم به، وينتمي الى هذا النوع من البشر مؤسسو الدول ومشرعو القوانين ممن دعتهم مصالحهم اولاً الى ابتكار تلك الاوهام والتبشير بها مع اسباب اخرى مثل الحاجة الى اقناع الناس بان ما ابتكروه سيُرضي الخالق ويهدئ غضبهم، وان خسارة الحرب او انتشار الوباء ووقوع الكوارث الطبيعية وتعاسة الانسان مصدرها كلها غضب الالهة الناتج عن القصير في عبادتها  او عدم تأدية الطقوس المطلوبة نحوها او الخطأ في شيء منها.
واذا كان هذا النوع من البشر الزارع للاوهام قد نجح في بلوغ هدفه المتمثل في طاعة الرعية للحكام فان الفضل الكبير والاساس في هذا النجاح يعود لمأسسة عملهم ضمن مؤسسات سياسية وغير سياسية والعاملين فيها.
اما النوع الثاني من البشر الذين يزرعون بذور الاوهام وهم البشر الذين لم يبتكروا بذور الاوهام وعقائده بأنفسهم لا ابتكاراً ذاتياً ولا ارادياً ، فهناك مبتكر غير ارادي وغير انساني لهذه العقائد امر هذا النوع من البشر بإبلاغها للناس وتبشيرهم بها وترتيبها بينهم تبعاً لذلك لضمان سعادتهم في الدنيا وخلاصهم ونجاتهم في الحياة الآخرة.
لكن غياب الفضائل والاخلاق من البشر بسبب دعاة الاوهام ورعاتها من رجال السياسة والتدين هو الذي يدفع الناس دفعاً الى فقدان الايمان حتى بالدين بسببهم، ومن ثم الميل الى التمرد عليهم.
ومن هنا ذهب المفكر الانجليزي توماس هوبز 1588-1679م في خضم الاضطراب السياسي والصراع المذهبي والحرب الاهلية في انكلترا في كتابه (الليفياثان) الى التأكيد بان كل تغيرات الاديان في العالم الى اوهام يمكن تعليلها بعلة واحدة هي فساد رجال الدين والسياسة الموجودين في المجتمعات والاديان والمذاهب كلها. ويضيف القول ان السيد المسيح صراحة ذهب كما جاء في الانجيل للقول (ان مملكتي ليست من هذا العالم) وقوله بوضوح ان ملكوت المسيح في السماء وليس على هذه الارض. وقد استنتج ان هناك سلطتين في الدولة الواحدة وهو ما لا يصح ولا يجوز. فعلى رجال الدين الحقيقيين ان تكون افكارهم مجرد افكار تبشيرية دعوية تعليمية وليست سلطة مدنية سياسية ليدحض كل زعم لرؤساء المؤسسات الدينية بامتلاك سلطة دنيوية لا كاملة ولا مطلقة ولا جزئية ولا نسبية.
بإختصار، فان الحاكم المدني هو صاحب السلطة في جميع القضايا ولا يجوز لغيره امتلاك السلطة طالما حاز الشرعية بالرضا والقبول من الناس بالانتخابات وحرص على استمرار الشرعية بالانجازات.
 
أبرز أطروحات الحضور الأخلاقي في السياسة
     لعل من ابرز مؤشرات الحضور الأخلاقي في السياسة هو التسامح. ومفردة التسامح بثها شخوص عبر العصور بيد ان فولتير كان القابلة المأذونة لولادة أطروحة التسامح فأستحق ما وضع على قبرة شاهد كتب عليه (شاعر ومؤرخ وفيلسوف حارب المتعصبين والمتزمتين وجعل آفاق النفس البشرية تتسع، وتتعلم معنى الحرية).
ويعد فولتير واحداً من اهم رموز عصر التنوير الذي عاشته اوروبا في القرن الثامن عشر (1700-1800) حتى قال عنه (فكتور هوغو) ان اسم فولتير يصف القرن كله، فاذا كان لإيطاليا نهضة، والمانيا اصلاح، فإن لفرنسا فولتير.
ولم يخرج فولتير عن العرف التسامحي الذي غلب عليه، حيث اتخذ موقفا ايجابيا من التسامح عَبّر عنه في كتابه الذي صدر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وترجم الى العربية بعنوان (رسالة في التسامح) ثم ترجم ثانية بعنوان (قول في التسامح) استند فيه فولتير الى ما ظهر آنذاك من المقدمات والنتائج العملية الخطيرة للتعصب الديني التي كشفها ودل عليها.
وقبل هذا الكتاب كان لفولتير كتاب بعنوان (أخلاق الأمم وروحها) تحدث فيه عن الرسول محمد (ص) ووصفه بانه مؤسس دين عقلاني حكيم، ومفكر سياسي عميق الفكر، منوهاً بما كانت تتمتع به البلاد الاسلامية من التسامح الذي خَلا منه التقليد التاريخي للبلدان الاخرى.
في كتابه (رسالة في التسامح) كان فولتير يأمل حسب قوله بث الرحمة في القلوب الطيبة، بان يقدم لها جرداً مختصراً وصادقاً للحماقات التي تتسبب ارتكابها في جريان الدماء على المقاصل او نشوب الحروب، ابتداءً من القرن الرابع، والصراعات الدامية حول الإصلاح الديني.
لقد انطلق فولتير في كتابه هذا من واقعة قتل جماعية عقائدية مُدبرة وجعل منها إطاراً تأريخياً لعرض طبيعة المجتمع الذي تتنازعه اتجاهات مذهبية متناحرة تنشر التعصب والتطرف، وتحرض على العنف والإدعاء بإقامة العدالة باسم المذهب ومن أجله متسائلاً عن كيفية بناء مجتمع متسامح دينياً ومذهبياً من دون تحقيق العدالة الحقة؟ وكيفية تحقيق العدالة في ظروف التعصب والهياج المذهبي العقائدي وانعدام الحرية العقائدية؟ فالمشكلة لم تكن في يوم من الايام في الاديان وعقائدها، ولكن المشكلة، كانت دائماً وفي كل زمان ومكان في رجال التدين الذين حملهم فولتير مسؤولية التعصب والتطرف والعنف الناتج عنهما والمصاحب لهما حتماً.
هؤلاء هم الذين تسببوا في سفك الكثير من الدماء حتى لم يعد للناس من سبيل للعيش الآمن والمتحضر إلا بالتسامح وإحترام عقائد الاخرين لخنق الفتنة في المهد، والشد من أزر الفضيلة، والانصياع للقوانين وتعزيزها اكثر مما يمكن ان تفعل القوة، لذلك دان فولتير من رفع الكتاب المقدس في يد والسيف في يد أخرى فقال (لو استعرضنا جميع الشرور التي تسببت فيها الحمية الدينية الكاذبة، فسندرك ان البشر عاشوا طويلاً جحيمهم في هذه الدنيا).
وعَبّر فولتير عن معارضته للتعصب ودعوته للتسامح بأفكاره القائلة ان التسامح لم يتسبب قط في إثارة الفتن والحروب الاهلية ولكن التعصب والاتباع الاعمى لرجال التدين هو الذي حول اقوالهم البشرية الى شرائع مقدسة ونشر المجازر على وجه الارض.
وأكد ان التسامح مع من يخالفك الرأي ضرورة لازمة وهو شرط تجنب الانسان لمتوالية الشرور الناتجة عن التعصب والتطرف والعنف، وان من قلة الدين حرمان البشر من حريتهم الدينية.
وان الدين من الله ومحاولة الانسان التحكم بالدين، هي سبب كل المصائب والحروب الدينية والمذهبية التي كان ضررها ودمارها اكثر وأكبر من الحروب الاخرى كلها. وان التعصب يقود الى التطرف وهما معاً يقودان الى العنف.
ويضيف فولتير ان الحق في التعصب والتطرف ومن ثم العنف حق عبثي وهمجي رهيب وهو لا يرقى حتى الى مرتبة قانون الوحوش التي لا تمزق فريستها إلا من أجل الأكل. بينما العلمانية تقوم على التسامح، واحترام الحريات الدينية والمذهبية والاستقلال الوظيفي للدين والسياسة وتحقيق العدالة على اساس مدني وإنها الحل الوحيد والمناسب حتى الآن لمشكلة التعصب والتطرف المسبب للحروب الدينية والمذهبية. وان الحياة المدنية تبدأ عندما يتحرر الناس من التعصب لعقائدهم ويؤسسون هذه الحياة على مبدأ التسامح، فمن غير المعقول ان يحتكر احدهم لنفسه حق إجبار غيره عن التخلي عن عقائدهم واعتناق عقائده.
* في الأصل محاضرة قُدمت في منبر حوار التنوير في 12 آذار/ مارس 2025.