أيلول/سبتمبر 12
   
     تحديات الاندماج للجيل الثالث من أبناء المهاجرين العراقيين في البلدان الغربية
   شهد العالم تغيرات جوهرية كبيرة في دوافع الهجرة وأنماطها (يعزو الكثير من الباحثين أسباب هجرة العقول المفكرة من الدول النامية إلى الدول الصناعية لعوامل متعددة تتباين بتغير البلدان واختلاف أوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية)(1). وأكثر أنواع الهجرة انتشاراً هي الهجرة القسرية بسبب النزاعات والحروب الأهلية والاضطهاد السياسي وغيرها، أو بسبب الأزمات الاقتصادية أو المتغيرات المناخية، إلى جانب الرغبة في البحث عن فرص عمل أو تعليم. كان المهاجرون على الأغلب يأتون من دول قريبة ثقافياً أو جغرافياً إلى المجتمعات التي يهاجرون إليها، ولكن بمرور الزمن، أصبحت أنماط الهجرة أكثر تنوعاً، نتج عنها متغيرات كثيرة وتصاعد في أعداد المهاجرين من خلفيات عرقية ودينية مختلفة بشكل جذري عن تلك الموجودة في المجتمعات المستقبِلة.  
وبنفس الوقت هناك إجراءات تتعلق بسياسات الهجرة الدولية في العديد من البلدان الغربية، أصبحت أكثر تقيداً وصرامة على مدى العقود الماضية، نتيجة لأسباب متعددة، أهمها تصاعد نفوذ اليمين المتطرف إلى الحكم، وزيادة التوترات السياسية المتعلقة بالهجرة أدت إلى تشديد القوانين المتعلقة باللاجئين والمهاجرين وفرض قيود شديدة على دخولهم. هذه الإجراءات عرقلت جهود الاستيعاب والاندماج في تلك البلدان. وقد أعاقت قوانين ولوائح جديدة بالضد من حقوق المهاجرين في العمل أو الحصول على الإقامة الدائمة أعاقت اندماجهم في المجتمعات الغربية وجعلتهم يعيشون في حالة من عدم اليقين. هذه السياسات زادت من شعورهم بالعزلة وأضعفت من قدرتهم على المشاركة الفاعلة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
فالهجرة بأنماطها المتعددة والمتغيرة جلبت عقبات متزايدة أمام اندماج أجيال المهجر في المجتمعات التي يتعايشون فيها، وأصبحوا في مواجهة تحديات عديدة تتعلق بعدة عوامل مرتبطة بالتحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في كل من المجتمعات المرسِلة والمستقبِلة للمهاجرين. يواجه المهاجرون اليوم تحديات أكبر في كيفية التكيف مع المجتمعات الجديدة بسبب تداخل الكثير من العوامل، منها: التنوع الثقافي المتزايد، السياسات التقييدية، التفاوتات الاقتصادية، التمييز العنصري وغيرها من المعوقات التي زادت من صعوبة الاندماج بكل أشكاله. وعلى الرغم من هذه العقبات، فإن الأجيال الجديدة من المهاجرين تحاول التفاوض على هُوِيات جديدة تدمج بين الثقافات الأصلية وثقافة المجتمعات المستقبِلة، مستفيدةً من العولمة والتكنولوجيا وكل التقنيات العصرية لتعزيز هُوِية عابرة للحدود.
وبخصوص الهجرة العراقية تعددت دوافعها إلى الخارج، فقد بدأ تصاعد تيار الهجرة الخارجية (بعد انقلاب 1968 نتيجة سياسات القمع السياسي والفكري والتبعيث القسري والتمييز القومي والديني والمذهبي والمناطقي التي انتهجها نظام البعث مما دفع أعداداً من المواطنين للهجرة وبالأخص من الكوادر المتخصصة وأصحاب الكفاءات)(2). وبهذا تُعد الهجرة القسرية من أبرز أنواع الهجرة التي تصاعدت في العقود الأخيرة مع تزايد الأزمات السياسية والنزاعات الداخلية في الكثير من مناطق العراق. فقد أشارت كل المؤشرات إلى ازدياد عدد طالبي اللجوء من الذين يفرون من العراق بحثاً عن الأمان والحياة الكريمة (الجالية العراقية في المهجر تجمعها سمات ومشتركات كثيرة، ولكن وجودها ودورها يتباين من مهجر لآخر وفقاً لطبيعة النظام السياسي والقوانين في ذلك البلد، ومواقف الأحزاب السياسية فيه، وطبيعة المجتمع ومدى تقبله للأجانب والآخر المختلف)(3). هؤلاء المهاجرون غالباً ما يصلون إلى بلدان المهجر المستقبِلة بدون خطط طويلة الأجل للتكيف والاستقرار، ولهذا الكثير منهم يعانون من صدمات نفسية ناتجة عن الأوضاع الصعبة التي أجبرتهم إلى الهجرة إلى العوالم المجهولة.
يسعى المهاجرون العراقيون للاندماج في سوق العمل والتكيف بسرعة مع المجتمعات الجديدة، أصبحت لديهم القدرة في مواجهة تحديات أكبر في الحصول على فرص التعليم والعمل والخدمات الصحية، أثرت على تأخر اندماجهم في المجتمعات الجديدة بدرجات متفاوتة. هذه الأنماط المتغيرة خلقت تحديات متزايدة للكثير من أبناء المهاجرين، لا سيما الأجيال المولودة في بلدان المهجر ذات التنوع الكبير في الخلفيات الثقافية والعرقية والدينية. وكذلك يواجه المجتمع المستقبِل إشكاليات متعددة في كيفية استيعاب هذا التنوع والتفاعل مع عملية الاندماج المجتمعي والتكيف الثقافي، ما أدى إلى ظهور إشكاليات ثقافية واجتماعية. حيث يواجه أبناء المهاجرين من الجيل الثاني والثالث ثقافات وقيم تختلف تماماً عن تلك التي نشأ عليها آباؤهم، التي تتطلب منهم التكيف معها باعتبارهم أبناء مجتمعاتهم. نعني بالجيل الثاني أولاد المهاجرين، والجيل الثالث الأحفاد الذين ولدوا في مجتمعات المهاجر الغربية لأبناء المهاجرين من الجيل الأول والثاني (يشار إلى المهاجرين الأوائل عادة بأنهم يمثلون الجيل الأول من الهجرة، وهم الذين ولدوا وتشربوا بثقافتهم الأم في بلدانهم الاصلية ثم هاجروا. أما ابناء الجيل الأول هؤلاء، المولودون أو من نشأوا صغاراً وتربوا في بلدان المهجر، فيطلق عليهم بالجيل الثاني، وعلى أبناء الجيل الثاني بالجيل الثالث من الهجرة وهكذا)(4).  
يواجه الجيل الثالث من المهاجرين العراقيين في المهاجر الغربية، مجموعة كبيرة من التحديات التي تتداخل فيها عوامل متعددة تختلف عن تحديات الأجيال السابقة، فهم أكثر اندماجاً في المجتمعات الجديدة، ولكنهم يواجهون صراعات ذات طابع خاص بهم نتيجة خلفياتهم الثقافية المتنوعة. تزايد الاهتمام في العقود الأخيرة بدراسة واقع هذه التحديات التي تواجه أبناء المهاجرين من الجيل الثالث في المجتمعات الغربية بشكل عام من خلال تجاربهم الاجتماعية والثقافية، سواء من حيث الهُوِيّة والاندماج أو الصراع بين الثقافات.
على الرغم من أن الجيل الثالث يبدو أكثر قدرة على الاندماج في المجتمع الغربي، إلا أن التحديات ما زالت موجودة بأشكال مختلفة. تجربة الجيل الثالث من المهاجرين في المجتمعات الغربية تتراوح بين التكيف السريع مع الحياة الغربية وبين الحفاظ على التراث الثقافي للعائلة، إنهم يواجهون تحديات أقل في الاندماج مقارنة بالأجيال السابقة، ولكن لا تزال هناك عقبات في التكيف الكامل والقبول الاجتماعي. وبفضل التعليم الجيد، والطلاقة في اللغة، والتفاعل اليومي مع المجتمع، أصبح هذا الجيل أكثر قدرة على الاندماج في الحياة اليومية مقارنة بالجيل الأول أو الثاني، بسبب اكتسابهم المهارات الاجتماعية والثقافية التي تجعلهم جزءاً من النسيج الاجتماعي. وعلى الرغم من أنهم قد ولدوا وترعرعوا في بلدان المهاجر، إلا أن هناك أحياناً صعوبات في الاندماج الكلي في المجتمع المحلي، هذه الصعوبات تعود لأسباب متعددة، قد تكون نتيجة للتمييز العنصري أو الثقافي، أو الفروقات الاجتماعية بين ثقافات الأسرة والمجتمع الغربي.
وبإجراء بحث حول طبيعة التحولات عبر الأجيال، وبمقارنة مبسطة بين الجيل الأول والثاني والثالث ندرك بأن تجربة الجيل الثالث تختلف عن أسلافهم. هناك صراع حقيقي بين رغبة الجيل الثاني والثالث في التكيف مع الثقافة الغربية وبين أهمية المحافظة على العادات العائلية والأعراف التقليدية، التي قد تسبب توترات داخل الأسرة الواحدة، حيث يجد البعض أنفسهم في مواقف محرجة تتطلب منهم إرضاء كلا الجانبين: الأسرة التي تود الحفاظ على الموروث التراثي، والمجتمع الذي يتطلب التكيف والاندماج.
تحديات الاندماج
  • الجيل الأول
الجيل الأول من المهاجرين العراقيين في الغالب يحاول المحافظة على التراث الثقافي واللغوي والديني الذي تربى عليه وجلبه من البلد الأصلي، وتنصب جهوده في الحرص والحفاظ على الروابط العائلية القوية، لأن هذا الجيل مرتبط بجذوره بشكل عميق. ويعتبر الحفاظ على التقاليد والتراث جزءاً من مهمته الأساسية، ويسعى إلى نقل قيمه وتقاليده لأبنائه من الجيل الثاني وأحفاده من الجيل الثالث معتقداً بأن الحفاظ على الهُوِيّة الثقافية هو الأساس لحماية الأسرة من التأثيرات الخارجية. ولكن مع تقدم الأجيال، نجد هناك متغيرات كثيرة لا سيما في دور السلطة داخل العائلة. الجيل الأول بطبيعته يميل إلى فرض السلطة التقليدية القائمة على القيم الأصلية، ولكن مع الجيل الثاني والثالث، تبدأ هذه السلطة في التآكل بسبب تأثيرات الثقافة الغربية التي تشجع على الفردانية والاستقلالية.
وكثيراً ما تواجه الجيل الأول صعوبات متعددة ليس فقط في تعلم لغة البلد الجديد أو التكيف مع القيم الغربية، بل في كيفية التفاعل مع المجتمع الجديد. هذه المعوقات تخلق لدى المهاجر الكثير من الحواجز في مسار التواصل مع المجتمع المستقبِل وحتى مع أبنائهم أو أحفادهم الذين يولدون ويكبرون في هذه المجتمعات. ومن بين العقبات الكبرى أمام الاندماج هي التفاوتات الاقتصادية، في بعض البلدان، حيث يعاني المهاجرون من معدلات بطالة مرتفعة مقارنة بالسكان الأصليين، أو يجدون أنفسهم عالقين في وظائف منخفضة الأجر وبلا فرص للتقدم المهني. هذه الحالة تضع أمامهم المزيد من العقبات أمام تحقيق الاستقرار الاقتصادي الضروري للاندماج الاجتماعي. فالفقر والحرمان والأوضاع الاقتصادية السيئة للمهاجرين قد تؤدي بهم إلى العزل الاجتماعي والسكن في أحياء مكتظة بالمهاجرين، وبالتالي يقل التفاعل مع السكان المحليين، مما يؤدي إلى ضعف عملية الاندماج الاجتماعي وتفاقم المشاكل.
  • الجيل الثاني
تختلف درجة الترابط الأسري بين الأجيال، فالقيم والأعراف العائلية تتفاوت وتتغير مع كل جيل، قد يكون الجيل الثاني أكثر تقبلاً للتغيرات الثقافية من الجيل الأول، لكنه يبقى متأثراً بواقع العادات والتقاليد الأصلية. أما الجيل الثالث، فقد يتبنى القيم الغربية بشكل أكبر، مثل حقوق الفرد والاستقلالية، مما يؤدي إلى توترات بين الأجيال. وحالة من الصراع بين الجذور والتكيف مع المجتمع الجديد.
وأغلبية أبناء الجيل الثاني متأرجحة بين ثقافتين، لأنهم نشأوا في مجتمع غربي مختلف تماماً عن البيئة الثقافية التي جاء منها الأهل. هذا الجيل على الأغلب يعاني من ضغوط العائلة للحفاظ على التراث، وبنفس الوقت يجد نفسه أمام ضغوط مجتمعية تجذبه للاندماج الكلي في الثقافة الجديدة. وبهذه الحالة فالأغلبية تعيش حالة من الصراع الداخلي جوهره محاولة إرضاء المتطلبات العائلية المتعلقة بالهُوِيّة الثقافية وبين التكيف مع القيم الغربية. وقد يشعر أبناء الجيل الثاني بالانفصال عن المجتمع الأصلي بسبب التباين بين ما يتوقعه المجتمع الأصلي وما يتطلبه المجتمع المستقبِل. والكثير منهم يلجأ إلى التفاوض على هُوِيته الخاصة، فيحاول دمج بعض العناصر الثقافية من كلا المجتمعين. فعلى سبيل المثال يحاول الاحتفاظ بعناصر يعتقدها أساسية كالدين واللغة الأصلية، ويسعى إلى محاولة التكيف بطريقة تلائم نمط الحياة في المجتمع الغربي الذي يعيش فيه.
  • الجيل الثالث
أما الجيل الثالث لديه إشكالية مع الهُوِيّة، لأنه أكثر اندماجاً في الثقافة الغربية، إذ ينشأ في بيئة غربية تماماً ويتلقى تعليماً وثقافة تؤثر بشكل كبير على هُوِيته، والمدارس والمؤسسات الاجتماعية تساعده على اكتساب الثقافة السائدة في المجتمعات التي يعيش فيها. ولكن يبقى تأثير العائلة والجذور الثقافية عالقة في الأذهان. وعلى الرغم من اندماجهم الأكبر في المجتمع المستقبِل إلا أنهم يحتفظون بهوية ثقافية هجينة، ويواجهون تحديات في التفاعل مع الجيل الأول (الأجداد) بسبب الفجوة الثقافية واللغوية الكبيرة. وفي نفس الوقت، لديهم مشاعر بضرورة مراعاة بعض جوانب التراث الثقافي مثل الأعياد والعادات الغذائية وبعض الالتزامات العائلية التقليدية.
وقد أسهمت التقنيات الحديثة في منح أبناء الجيل الثالث القدرة على الوصول إلى مصادر معلوماتية وثقافية في متابعة الأحداث السياسية والثقافية التي تتعلق بالبلد الأصلي، وسهل على الكثير منهم مسألة التواصل مع بعض الأهل والأقارب في البلد الأم، وبالتالي توافر فرصة  لتعزيز الهُوِيّة العابرة للحدود والاعتزاز بالانتماء إلى الجذور. لأن ذلك نابع من ميلهم إلى الاحتفاظ بعلاقة ثقافية رمزية مع الجذور الأصلية، خاصة في الأعياد والمناسبات العائلية، حيث تبقى الثقافة الأصلية كمرجع أساسي لهم، بل تشكل بوصلة التوازن في مسار حياتهم. ويشعرون بالفخر بأصولهم ولكنهم قد لا يعيشون تجربة تلك الثقافة بنفس العمق الذي يعيشه الجيل الأول. فهم لديهم القدرة على التكيف مع الثقافة المستقبِلة والمتمثلة هنا بالقيم الغربية بشكل أفضل مع القيم الغربية مقارنة بالجيلين السابقين، ويعتبرون أنفسهم جزءاً من المجتمع الذي يعيشون فيه، بقدر اعتزازهم بموروثهم الأصلي الذي اكتسبوه من آبائهم.
ومن خصائص الجيل الثالث تأثره بشكل كبير بالعولمة(5). فما ينتج من العولمة وآفاقها من أمور أتاحت للجيل الثالث الوصول إلى عناصر ثقافية متنوعة من كلا الثقافتين، ثقافة الآباء والثقافة الغربية، مما ساعدهم على بناء هُوِية متفردة متعددة الطبقات تجمع بين التأثيرات المحلية والعالمية التي يتعايشون معها بشكل واقعي من خلال القنوات الثقافية لا سيما التعليم الذي يلعب دوراً كبيراً في تشكيل الهُوِيّة. والشيء المتعارف عليه في دول المهجر بأن المدارس والمؤسسات التعليمية لها تأثيرها الهام في الإسهام في عملية الاندماج مع المجتمع المستقبِل، وبالتالي المساهمة في تعزيز الهُوِيّة الوطنية أو المحلية، وتوفير الكثير من الفرص لهم لاكتساب مهارات تتعلق بالتنوع الثقافي والتكيف مع عالمهم المُعولم بكل آفاقه الإيجابية.
وفي ظل هذا العالم المعولم المنفتح اقتصادياً، قد يستفيد الكثير من أبناء المهاجرين من ميزة امتلاكهم خلفيات ثقافية متعددة ومتنوعة تساعدهم في حرية حركة التنقل بين هُوِياتهم المختلفة واستخدامها لصالحهم في بيئات عمل متعددة الثقافات حيث تتوفر فرص العمل بمختلف المجالات الحياتية. وبحكم كون الجيل الثالث جيلاً ناشئاً قادراً على العمل في كل المجالات الاقتصادية (استطاع أن يتخطى بعض العوائق بسرعة، مثل تعلم اللغة والاختلاط والتأقلم، من خلال المدرسة، مع أقرانه من البريطانيين أو الأجانب... هذا الجيل إفكاره وتصرفاته ورؤيته للمستقبل أخذت تبدو أحياناً غير منسجمة مع أفكار الآباء. إن ما يمكن تسميته بالصراع بين الأجيال بدأت تتجلى ملامحه. والأمر مرتبط برؤية العائلة ونظرتها إلى المجتمع الجديد)(6).
 
تحديات الهُوِيّة
يجد أبناء الجيل الثالث أنفسهم في مواقف صعبة، لأنهم ينتمون إلى ثقافتين أو أكثر، وتقع عليهم مهمة التوفيق بين هُوِيتهم الأصلية وهُوِيتهم في المجتمعات الجديدة(7). ولهذا نلاحظ توجه هذا الجيل إلى تطوير هُوِية هجينة تعكس التوازن بين تراث عائلته الأصلية والقيم الثقافية الغربية التي نشأ فيها. وقد يشعر البعض منهم بالانتماء الكلي لكلا الثقافتين أو يجدون أنفسهم مشتتين بين الاثنين. وحقيقة الأمر أن الكثير من أبناء الجيل الثالث يشعر بالراحة في المجتمعات الغربية التي ولدوا وترعرعوا فيها، وقد يشعر البعض منهم في الوقت نفسه بالاغتراب الثقافي عن الجذور الأصلية، لا سيما إذا كانت العائلة تحاول الحفاظ على العادات والتقاليد القديمة. أي يشعر البعض بالانتماء أكثر إلى البلد الذي يعيش فيه، بينما يعتبر البعض الآخر أنفسهم مختلفين أو مرتبطين بجذورهم بشكل أكبر، وقد يؤدي هذا إلى نوع من الانفصال أو سوء الفهم بين الأجيال.
الكثير من شباب الجيل الثالث يبحثون عن هُوِيتهم الذاتية الشخصية خارج إطار الأسرة والمجتمع، ويستخدمون التعليم والسفر والإنترنت لفهم أعمق لهويتهم المتعددة، ولكنهم في مواجهة حقيقة لكثير من التساؤلات، على سبيل المثال: "من أنا؟" أو "إلى أي مجتمع أنتمي؟"، فعلى الرغم من أن الجيل الثالث يبدو أكثر قدرة على الاندماج في المجتمعات الغربية، إلا أن التحديات شاخصة أمامه، أبرزها التمييز والعنصرية، لا سيما مع موجة صعود أحزاب اليمين المتطرف إلى السلطة والتحكم بإدارة المؤسسات الهامة والهيمنة عليها بما تخدم مصالحهم. هناك دون شك (تمايزات عميقة وحقيقية، لدرجة تحولها إلى تمييز على أساس من العرق أو المرجعية الإثنية، واللذان هما مرتبطان بجهة التمييز على أساس من الدين)(8). ورغم تحسن ظروف الاندماج لدى الكثير منهم، ولكن يظل التمييز والعنصرية أحد العقبات والتحديات أمامهم، لأن كثيراً ما يجري التعامل معهم  على اساس المظهر والأصول العرقية، مما يولد لديهم الشعور بعدم مقبوليتهم اجتماعياً بشكل كلي.
وهذا التمييز يمكن أن يظهر في صور متعددة، يمكن أن تبرز في سوق العمل أو في المدارس وفي المؤسسات الرسمية، مما يؤدي إلى عرقلة جهود الاندماج وإعاقة عملية التفاعل الايجابي في المجتمع. وعادة ما نلمس انعكاسات هذا التمييز من خلال الصورة النمطية السلبية التي تتبناها شريحة اجتماعية بالضد من المهاجرين والموقف من موضوع الهجرة بشكل عام المرتبط بالقضايا السلبية مثل البطالة أو الجريمة أو الأزمات الاقتصادية، وبالتالي استثمار هذه الأمور في بلورة تصورات سلبية عن المهاجرين في مجالي الإعلام والسياسة. هذه التصورات تزيد من صعوبة قبول الكثير منهم في المجتمع، بل تضع حدوداً أمام اندماجهم.
 ومن التحديات الأُخرى مسألة الحفاظ على الموروث الثقافي، عادةً ما ينشأ وينمو أبناء الجيل الثالث في بيئة متأثرة بثقافات متعددة: ثقافة الوطن الأصلي للعائلة والثقافة الغربية التي نشأ وترعرع فيها. فهم يواجهون صراعات معقدة في كيفية تعريف هُوِيتهم؛ هل يعتبرون أنفسهم جزءاً من المجتمع الذي يعيشون فيه أم التمسك بالجذور الثقافية لبلد الآباء والأجداد؟، هذا الصراع قد يتجسد بوضوح في الحياة اليومية، من خلال اللغة، والتقاليد، والدين. تُعد اللغة أحد أعمدة الموروث الثقافي، فهي تلعب دوراً كبيراً ومهماً في الحفاظ على التراث الثقافي، ورغم أن الجيل الثالث عادة يتحدث لغة البلد الذي يعيش فيه بطلاقة بالإضافة إلى البعض منهم يُجيد لغة الآباء الأصلية (9). ولكن بمرور الزمن الكثير منهم يفقد القدرة على التحدث بلغة أجداده أو استخدامها بشكل محدود أو تتلاشى لأسباب متعددة، وهذا الأمر قد يؤثر بشكل فعلي على طبيعة علاقتهم مع أفراد الأسرة الأكبر سناً الذين ما زالوا يتمسكون بلغة الأم، بسبب صعوبة التفاهم والتواصل معهم بأبسط الأمور.
ويحتل الدين المكانة الأهم بالنسبة إلى الحفاظ على الموروث الثقافي، حيث يعتبر جزءاً حيوياً من الهُوِيّة الثقافية للمهاجرين. علماً بأن الجيل الثالث قد يكون أقل تمسكاً بالدين مقارنة بالأجيال السابقة، لكنه يظل مرتبطاً بالعادات والتقاليد الثقافية المرتبطة بالدين بحالات متباينة من شخص لآخر(10). ولهذا فأن الكثير من أبناء الجيل الثالث يجد طرقاً للتوفيق والموازنة بين هذه القيم وقيم المجتمع الذي يعيشون فيه. نراهم يحتفلون بالأعياد والمناسبات المتنوعة في البلد المضيف، وبنفس الوقت يجري الاحتفال بالمناسبات الدينية أو الوطنية التي تخص أصولهم. هذا التوازن يعكس محاولتهم للحفاظ على هُوِيتهم الثقافية مع المشاركة في حياة المجتمع المضيف، لأن الكثير من أبناء الجيل الثالث يرى نفسه مواطناً عالمياً بسبب انتشار مفهوم العولمة، وتأثره بالثقافات العالمية من خلال التقنيات المتطورة من الإنترنت والإعلام وغيرها، بحيث يشعر البعض منهم بالانتماء لثقافة متعددة الأوجه وغير مقيدة بجغرافيا أو حدود قومية، تشكل أحد تحديات الهُوِيّة.
ويهتم الكثير من أبناء الجيل الثالث بوسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير للتعبير عن آرائهم السياسية وتنظيم الفعاليات التي تدعم القضايا التي يهتمون بها. ويلعبون دوراً مهماً في بناء جسور بين مختلف الثقافات، ويشكلون جزءاً حيوياً من المجتمع المعاصر المتنوع. ويمكن إدراك الحقيقة الموضوعية بأن وعيهم السياسي، رغم صغر سنهم، يميل إلى المشاركة بشكل أكبر في مختلف جوانب الحياة السياسية والمدنية في دول المهجر، حيث يشعرون بالانتماء لهذه المجتمعات ويتمتعون بفهم أعمق للأنظمة السياسية والاجتماعية في تلك البلدان، مما يجعلهم أكثر قدرة على التأثير والمشاركة، وفي بعض الحالات، يستفيد أبناء الجيل الثالث من السياسات المتنوعة والمتسامحة في المجتمعات الغربية ويستغلون هذه الفرص للدفاع عن حقوق الأقليات والاندماج الثقافي.
ويلاحظ بشكل جيد التحدي الأوضح من خلال مشاركة أبناء الجيل الثالث بالفعاليات الاجتماعية والسياسية التي تعكس درجة وعيهم الكبير بالحقوق المدنية والسياسية مقارنة بالأجيال السابقة. وبفضل التعليم والتفاعل المستمر مع المؤسسات الاجتماعية والسياسية، أصبح هذا الجيل أكثر استعداداً للمشاركة في النقاشات السياسية الجادة، ويتفاعلون مع القضايا السياسية المحلية بنفس اهتمام المواطنين الأصليين، وأهمية الاندماج في الحياة المدنية والمساواة العرقية، وتوعية المجتمع المحلي بآفاق التنوع الثقافي، والآراء المتباينة حول الرؤية المجتمعية لقضايا الهجرة ودوافعها. فعلى سبيل المثال مشاركات حفيدتي "ريم" مواليد 2006، في تجمعات سياسية شبابية، محلية ومساهماتها المتكررة في الفعاليات والمظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينية. هؤلاء الشباب، بفضل قدراتهم التنظيمية ووعيهم السياسي، يلعبون دوراً ضاغطاً مؤثراً في حشد الأفراد وتشجيعهم بالمشاركة بالمظاهرات التي تجوب شوارع لندن، لا سيما مع تزايد الوعي الدولي بالقضية الفلسطينية.
ولا ننسى تحديات الآفات الاجتماعية المنتشرة في المجتمعات الغربية من المخدرات والجريمة والسرقة وغيرها، التي لها تأثير بقدر معين على نهج وسلوك الأبناء من الجيل الثالث. وليس الخطر من الإدمان على المخدرات فقط، هناك أمراض العصر، كالإفراط في استخدام التقنيات الحديثة الذي يقلل من عملية التواصل مع الآخرين وفيه مخاطر أخلاقية إذ؛ (يوجد خطر كبير على أبناء المغتربين في مجال الإنترنت وهذا لا يقل خطره في بلاد المسلمين إلا أنه أكثر إباحية في عدم رفض المجتمع له مما يوجب على الآباء متابعة هذا العمل بتحذير الأولاد من مخاطر الإنترنت وسلبياته)(11)، بل يسبب إشكاليات عديدة في مجال الصحة العامة والنفسية والقلق والتوحد والاكتئاب وغيرها. وفي ظل الانغماس في هذه المعوقات والإشكاليات والضياع في بعض المحطات، تبرز معاناة الكثير من ضعف القراءة ومواصلة فنون المعرفة، وبالتالي الخلل في إمكانية  التفكير النقدي والتحليل الموضوعي للكثير من القضايا المعاصرة.
وأخيراً، يمكن القول بأن أبناء الجيل الثالث من المهاجرين الذين حصلوا على تعليم عالٍ متميز يمتلكون قدرات وإمكانات فريدة يمكن أن تسهم بشكل كبير في بناء الوطن الأم، إذا منحت لهم الفرص المناسبة. لأن لديهم الوعي المتميز في إقامة جسور من التواصل والتعاون مع الوطن بما يحملونه من وعي بحقوق الإنسان والعمل المجتمعي الذي يسهم في دعم أو إنشاء بعض منظمات المجتمع المدني التي تعمل في المجالات الاجتماعية، لمكافحة الفقر، وتنمية المجتمع، وحماية البيئة، وتقديم الرعاية الصحية، وإصلاح النظام التعليمي، وتطوير البنية التحتية أو تقديم برامج تدريبية، وتنظيم ورش عمل في المجالات كافة. هذه المبادرات يمكن أن تلعب دوراً مهماً ناجحاً في رفع مستوى حياة الناس في الوطن. فهم يمثلون ثروة بشرية قادرة على إحداث التغيير الحقيقي في توجهات العراق التنموية إذا توفرت البيئة المشجعة الجاذبة، وتم تسهيل الإجراءات التي تمكّنهم من نقل مهاراتهم وخبراتهم  في مجالات الاستثمار في الوطن.
 د. عبدالحسين صالح الطائي - أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا  متخصص في علم الاجتماع
 
الهوامش
  1. نادر أحمد عبدالغفور: العقول العراقية المهاجرة بين الاستنزاف والاستثمار، لندن مؤسسة الرافد، 2003، ص 32.
  2. هاشم نعمة فياض: العراق: دراسات في الهجرة السكانية الخارجية، بغداد، دار الرواد للطباعة والنشر، 2006، ص 7.
  3. عبدالحسين صالح الطائي: المهاجرون في مجتمع متعدد الثقافات، دراسة ميدانية حول الجالية العراقية، لندن، دار الحكمة، 2013، ص 9.
  4. حميد الهاشمي: العراقيون في هولندا، نحو صياغة اطار نظري لدراسة الاندماج الاجتماعي للمهاجرين، بغداد، مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية، 2012، ص 75، 76.
  5. مصطلح العولمة ما زال تعبيراً غائماً يكتنفه كثير من الغموض إن لم نقل التناقض، إنه يعني فيما يعنيه ظاهرة تتداخل فيها أمور الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع والسلوك، إنها نسق ذو أبعاد عامة تشمل المال والتسوق والمبادلات السياسية والفكر والأيديولوجيا، ترمي إلى إزالة الحواجز والحدود أمام حركة الإنسان أفرزتها الثورة المعلوماتية وما رافقها من تطور في مجالي الاتصال والإعلام. انظر: نصر الدين بن غنيسة: عن أزمة الهُوِية ورهانات الحداثة في عصر العولمة، منشورات ضفاف، بيروت، 2012، ص 20.
  6. عبدالإله توفيق: عوامل التكامل في تجربة الجالية العراقية، بحث من أعمال المؤتمر الثالث الذي نظمه النادي العربي في بريطانيا، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2002، ص 61.
  7. الهُوِيّة هي مجمل السمات التي تميّز شيئاً عن غيره أو شخصاً عن غيره أو مجموعة عن غيرها. كل منها يحمل عدة عناصر في هُوِيته. عناصر الهُوِيّة هي شيء متحرك ديناميكي يمكن أن يبرز أحدهما أو بعضها في مرحلة معينة وبعضها الآخر في مرحلة أخرى. انظر: عبير بسيوني رضوان: أَزمة الهُوِية والثورة على الدولة، بيروت، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، بيروت 2012، ص 85.
  8. يحيى اليحياوي: الإسلام الأوروبي: صراع الهُوِية والاندماج، دبي، مركز المسبار للدراسات والبحوث، ط2، 2011، ص 115.
  9. ازدواجية اللغة هي بالضرورة دلالة على المهارة والحذق والطلاقة اللغوية التي لدى الفرد. وانطلاقاً من إيماننا، نحن المتعلمين الذين يجيدون اللغتين، بضرورة توفير فرص المعرفة والرقي والمساهمة في الحياة العامة. للتفصيل انظر: نهى جريج: اللغة والهوية الثقافية: فرص تعليم اللغة العربية، بحث من أعمال المؤتمر الثالث الذي نظمه النادي العربي في بريطانيا، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2002، ص 29.
  10. يعتبر الاختلاف الديني والطائفي عاملاً معيقاً للاندماج الاجتماعي بين المجموعات البشرية. انظر: حميد الهاشمي: العراقيون في هولندا، ص 183.
  11. جميل عبدالهادي: المولودون المسلمون في بلاد الاغتراب بين الاندماج والمحافظة على الهُوِية، بيروت، دار المعرفة، 2012، ص 253.