قاسم حنون
لم يكن مفهوم ما بعد الحداثة في أول ظهوره يحيل الى منظومة نظرية محددة أو نسق قيمي يعبر عن وعي بظواهر أو تحولات معينة في المجتمع الغربي ، بقدر ما كان يصف بعض الظواهر والتجديدات في حقل الفنون والآداب ، ولكنها سرعان ما أخذت تبحث عما يلائم شكلها ويوحدها نظريا ،فوجدت في فلسفة نيتشه وهيدجر ملاذا وسندا معرفيا ، ثمة صيغتان لما بعد الحداثة ، صيغة توصف بالقوة وتتمثل في القراءة ما بعد البنيوية لنيتشه ، وصيغة أخرى توصف بالرخوة انحدرت من القراءة التأويلية لهيدجر ، وتحولت ما بعد الحداثة منذ ثمانينات القرن العشرين الى مفهوم اشكالي حاضر باستمرار والى ساحة صراع للأفكار المتناقضة بين القوى المختلفة ، وفي ما يبدو أنه نتاج ثقافي تراكم ببطء في المجتمعات الغربية.
يمكننا تأريخ البداية الفعلية لما بعد الحداثة بنهاية الحرب العالمية الثانية ،وقد ترسخت وانتشرت على نحو لافت في أواخر الثمانينات بتفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المنظومة الاشتراكية وتبلور قطبية احادية بهيمنة الولايات المتحدة على العالم ونفوذها الذي فاق النفوذ الاوربي الغربي في سياق تحولات جيوسياسية كبرى ، ان أصول ما بعد الحداثة ناجم عن وضع دولي شائك بعد حربين عالميتين وانبعاث عقائد شمولية فضلا عن السباق على التسلح والتهديد بفناء البشرية.
يصنف المفكرون ما بعد الحداثيين الى ثلاث فئات:
- الراديكاليون: ليوتار ، بودريارد ، ايهاب حسن الذين يعتبرون الحداثة من الماضي وإن الثقافة المعاصرة لا تحتمل مقولاتها.
- الاستراتيجيون: ميشال فوكو ، جاك ديريدا ، جيل دولوز ..الذين يتخذون من اللغة أو الخطاب أساسا لتحليلاتهم ويرفضون أي صيغة لمفهوم الجوهر الشامل و الكلية والقيم الشمولية.
- الحداثيون المتأخرون: يوجين هابرماس ، فريدريك جيمسون الذين يتخذون موقفا نقديا من الأنساق الشمولية ولكنهم لا يرفضون مفهوم الحداثة(1).
جاء كتاب اليكس كالينكوس (ضد ما بعد الحداثة .. نقد ماركسي)...( لتحدي المزاج الغريب من التشاؤم الثقافي والسياسي والمرح المستهتر الذي يبدو عليه كثير من المثقفين الغربيين المعاصرين) (ص 5).
الى أي مدى تستطيع الماركسية الكلاسيكية ،التي يعدّها مثقفو اليمين فضلا عن بعض مثقفي اليسار الجانحين نحو تجميل الرأسمالية نظرية عفى عليها الزمن ، أن تلقي الضوء على مشاكلنا الحالية ؟ سؤال يضعه الباحث عند تحليله لظاهرة ما بعد الحداثة.
وكما يقول ايهاب حسن لقد تجنب الأكاديميون كلمة ما بعد الحداثة لأنهم يتملصون من الكلمات الجديدة الغامضة ولكن أصبح المصطلح عنوانا لاتجاهات في السينما والمسرح والموسيقى والعمارة، وفي الفلسفة واللاهوت والتاريخ والتحليل النفسي . ويبدو أن تلك الدعاوى تخصّ الولايات المتحدة الامريكية أو معظم امريكا الشمالية ، اذ وجدت ما بعد الحداثة بعضا من أكثر المتحمسين في كندا. ويتمتع كتاب جان فرانسوا ليوتار (ظرف ما بعد الحداثة) المنشور في العام 1979 بمكانة في سياق الموجة المذكورة لأنه يجمع أشتاتا من ما بعد الحداثة من فلسفة ما بعد البنيوية ونظرية ما بعد الصناعة، ويميز ليوتار بين الحديث وما بعد الحداثي بالقول (سأستخدم الحديث لأعني به أي علم يشرح نفسه بالاشارة الى خطاب شارح محتكما بوضوح لسردية كبرى) (ص 10). واضح أن هيغل وماركس من بين المؤلفين للسرديات الكبرى وهي تضفي الشرعية على الخطابات النظرية وعلى المؤسسات الاجتماعية ولذا يقوم ليوتار بتعريف ما بعد الحداثة على أنها الشك في السرديات الكبرى ، وربما يكون لذلك التحليل تفسير سياسي هو أن ليوتار كان مؤمنا بنسخة من الماركسية مضادة للستالينية ولكنه تحول في ما بعد الى مناهضة الاشتراكية بديلا وهدفا ، كما يشير الى ظاهرة الفلاسفة الجدد في فرنسا الذين فصلوا القول في أسباب تخلي شباب 1968 عن الماركسية وهم يلتقون مع حجج كتاب ما بعد الماركسية في العقد التالي التي ترى ضرورة التخلي عن الاقتصاد كعامل محدد وعن دور الصراع الطبقي والطبقة العاملة في التحويل الثوري للمجتمع ، اذ أن الماركسي الكلاسيكي كان يؤكد على الصراع الطبقي بوصفه القوة الدافعة للتاريخ والطبقة العاملة بوصفها الحامل الاجتماعي للتحول نحو الاشتراكية ، باعتبار أن الغرب يدخل حقبة ما بعد الحداثة وهي تختلف اختلافا جوهريا عن الرأسمالية في القرن التاسع عشر والعشرين ، ولعل الاندماج بين ما بعد الحداثة وما بعد الماركسية قد عبرت عنه مجلة (الماركسية اليوم ) في ثمانينات القرن الماضي ، اذ كانت من أشد المعارضين للطبقية في اليسار البريطاني والإعلان أننا نعيش في أزمنة جديدة ، في قلب الأزمنة الجديدة التحول من اقتصاد الانتاج الضخم اقتصاد فورد القديم الى نظام ما بعد فورد الجديد حيث الاعتماد على أجهزة الكومبيوتر وتكنولوجيا المعلومات والروبوتات ، إن سمات المرونة والتنوع والتمايز والحراك والاتصال واللامركزية والتدويل آخذة في الصعود ، لذا نحن في مرحلة انتقالية الى حقبة جديدة كما يزعم مفكرو ما بعد الحداثة ، وتبدو ما بعد الحداثة والثورة مترابطين على نحو عكسي ،ولا يقتصر الأمر على الاقتصاد في تلك الحقبة ورفض الثورة الاشتراكية بعدّها أمرا غير ممكن أو غير مرغوب فيه بل يمتد الى القول أن الفشل المتصور للثورة هو الذي ساعد على كسب قبول واسع لهذا الاعتقاد(ص12). ويتعامل ليوتار مع رفض الثورة كمثال لظاهرة أكثر عمومية أي انهيار السرديات الكبرى التي يراها مرتبطة بعصر التنوير ، كان رفض التنوير كثيرا ما يزعم أنه رفض مستلهم من نيتشه ، ربما يكون المثال الكثر شهرة وتعقيدا لهذا التراث النقدي هو كتاب ديالكتيك التنوير لماكس هوركهايمر وثيودور ادورنو الذي صدر في العام 1944 ، لذا يبدو عدم الثقة بالسرديات قديم في الأصل قدم عصر التنوير .. ولكن اذا كانت ما بعد الحداثة تجاوزا للحداثة فما هي ؟ يجيب ليوتار انها جزء من الحداثة ،ان ما بعد الحداثة عنده مرحلة تاريخية من التطور الاجتماعي وكذا الأمر لفنونها فهي استمرار للحداثة ، كما أن ما بعد الحداثة تعطي ظهرها للثورة الاجتماعية وثمة شعور بالنهاية ينتاب المثقفين الغربيين تجلى في الاستخدام الواسع لكلمة ما بعد كصيغة مركبة لتعريف العصر الذي نحيا فيه :ما بعد الرأسمالية ، ما بعد الكولونيالية ، ما بعد الماركسية ،ما بعد البروتستانتية ...الخ القطيعة التامة مع عصر التنوير بالنسبة لأنصار ما بعد الحداثة ،هذه الطريقة في التفكير تصور قطيعة ما بعد الحداثة مع التنوير كأمر نهائي وهي تكشف عن العيب الأساسي المتأصل في الحضارة الغربية لقرون ، ربما يكون أكثر الأمثلة على هذا النمط من التفكير هو ما قدمه بعض المفكرين الذين يدعون أنه منذ عهد اوغسطين لم يتغير شيء في الكود العميق والبنيوي للتجربة الغربية ، إن الاحساس بالنهاية الذي يفترض أن ما بعد الحداثة تعبر عنه يفقد أية خصوصية تاريخية ويصبح بدلا من ذلك الحالة المزمنة للحضارة الغربية منذ سقوط روما ، ويرى كل من نيتشه وهيدجر أن الميتافيزيقا الغربية تأسست على خطأ تأسيسي يخترق تاريخها بأكمله ،ويتألف التاريخ اللاحق للفكر الأوربي من تنويعات وتفاصيل لهذا الخطأ التأسيسي الذي يصل الى ذروته عند ديكارت في فلسفة الذات ، ويسلط هابرماس الضوء على التناقض الذي يواجهه نيتشه وهيدجر وخلفاؤهما ولا سيما فوكو وديريدا في استخدام أدوات العقلانية ،يمثل المجتمع الحديث انفصالا جذريا عن الطبيعة الجامدة للمجتمعات التقليدية ،ولم تعد علاقة الانسان بالطبيعة تحكمها الدورة المتكررة للانتاج الزراعي ،تتميز المجتمعات الحديثة بجهودها المنظمة للتحكم في بنيتها المادية وتغييرها وانطلقت الابتكارات التقنية المستمرة لتنتقل عبر السوق العالمية الآخذة في الاتساع وأطلقت العنان لعملية تغيير سريع تشمل الكوكب بأسره لتكون العلاقات الاجتماعية المرتبطة بالتقاليد والمعتقدات الدينية في دوامة التغيير ، التغيرات الكبرى في الانتاج والاضطراب المستمر في الشروط الاجتماعية وضعف اليقين بالمستقبل هو كل ما يميز الحقبة البرجوازية عن العصور السابقة.
جاء في البيان المستقبلي 1909 من اعداد مارينيتي ما نصّه:
(سنغني للحشود العريضة المنخرطة في العمل أو المتعة أو الثورة ، سنغني لموجات الثورة متعددة الألوان والأصوات في العواصم الحديثة ،سنغني بضجة صافية وبحرارة الليالي للترسانات وأحواض بناء السفن التي تشتعل بثعابين الدخان المفترسة ,نغني للمصانع التي تتدلى أعناقها من الغيوم بخيوط مسارات دخانها الملتوية (ص56).
أن تكون من أهل الحداثة معناه أن نجد أنفسنا في بيئة تعدنا بالمغامرة والقوة والفرح والنمو وتغيير أنفسنا ، الحداثة توحد البشرية جمعاء لكنها وحدة متناقضة وحدة التفكك ، أن تقول أنك من أهل الحداثة معناه أن تكون جزءا من عالم يذوب فيه كل ما هو صلب في الهواء كما قال ماركس ، هذا التصور للحداثة كعملية تتخذ قبلتها نحو المستقبل وليس صوب الماضي ولها القدرة أن تضع المعايير ذاتيا يمكن عدّه السبيل الذي بمقتضاه استطاع بعض المثقفين في اوربا القرنين السابع عشر والثامن عشر أن يفهموا المعتقدات والاجراءات النظرية غير المألوفة ... قدمت نظرية العقلنة عند ماكس فيبر, وهي أهم محور للنظرية الاجتماعية غير الماركسية ، أهمّ تفسير لتشكل الحداثة اذ ينطوي التحديث في المقام الأول على التمييز بين الممارسات الاجتماعية الموحدة في الأصل وبين الاقتصاد الرأسمالي والدولة الحديثة ، كما يسمح نمط الانتاج وهو مزيج من قوى الانتاج وعلاقات الانتاج (علاقات السيطرة) يسمح بالتمييز الدقيق بين مختلف التشكيلات الاجتماعية ، كما أن النظرية الماركسية مادية تعطي الأولوية في التفسير للتناقضات بين قوى الانتاج وعلاقاته وللصراع الطبقي الناجم عن علاقات الاستغلال ، لم يكتف ماركس بالاحتفاء بانجازات الرأسمالية ووصف مارآه من تحديث رأسمالي في الهند تحت الحكم البريطاني بوصفه شكلا من أشكال التقدم الذي يشبه المعبود الوثني البغيض الذي لا يشرب الرحيق الا من جماجم المذبوحين ، يبدو التطور التاريخي عند ماركس عملية متناقضة وليس عملية أحادية المسار ،واذا كانت الفكرة السابقة يظهر فيها الانسان كهدف لانتاج الخيرات المادية وهي فكرة سامية بينما يظهر الانتاج في مرحلة الرأسمالية كهدف للبشرية والثروة كهدف للانتاج ، وكما يشير ماركس في الاقتصاد الرأسمالي وفي عصر الانتاج الذي يتوافق معه يبدو هذا التشغيل الكامل للمحتوى البشري كافراغ كامل وهذا التشيؤ الكوني بوصفه اغترابا تاما وتمزيقا للأهداف كلها ،كتضحية بالغاية البشرية في حد ذاتها الى غاية خارجية ، ولعل واحدة من الأفكار الملفتة التي يطورها ماركس هي أن منظور الدفاع الليبرالي عن الرأسمالية ومنظور النقد الرومانسي لها متطوران متكاملان مترابطان ، كل منهما جزئي وأحادي ، أحدهما يحتفل بتطور القوى المنتجة في ظل الرأسمالية والآخر يدين الفراغ الكامل (ص 69). ويذهب اريك هوبسباوم الى ضرورة أن نرى القرن التاسع عشر لا بوصفه حفاظا على نظام قديم بل هو انتصار للرأسمالية وتحولها في الاشكال المحددة تاريخيا للمجتمع البرجوازي في نسخته الليبرالية ، وقد يرى مؤرخ في الحربين العالميتين والاضطرابات الاجتماعية المحيطة بهما في روسيا 1905 ، 1917 ، المانيا 1918 ، 1933 ، 1945 ، الصين 1925 ، 1927 كعمليات تحديث أزالت العوائق الاقطاعية والارستقراطية أمام التطور الرأسمالي في ضوء نتائجهما الموضوعية لا في ضوء نوايا الفاعلين المرتبطين بها ، لذا فان الحقبة البرجوازية لم تبدأ في اوربا الا بعد العام 1945(ص77). إن ترسيم اندرسون للظروف التي تشكلت فيها الحداثة قد يكون صحيحا بالنظر الى واحدة من الحالات وهي حالة فيينا المدينة التي تغري بالقول بأنها من اختراع القرن العشرين ، فالمدى الهائل من الابتكارات الثقافية التي أنتجتها المدينة خلال الفترة من 1890 -1930 قدمت أسماء في الرسم والهندسة المعمارية والتصميم والأدب وفي الفلسفة والفيزياء والاقتصاد السياسي والموسيقى ، كما أن منجز فرويد يغمر رؤيتنا للعالم في بداية القرن(ص81). هذه الثقافة المبهرة هي بالتأكيد اختبار لأي تفسير للحداثة. ويجب علينا أن ننظر الى الازدهار الثقافي للمدينة (فيينا) في سياق أزمة البرجوازية الليبرالية التي كانت الدعامة الاجتماعية الرئيسة للنظام السياسي في النمسا. هناك حقيقتان أساسيتان تميزان البرجوازية النمساوية عن البرجوازية الفرنسية والانكليزية ،هي أنها لم تنجح في تدمير الارستقراطية والاندماج معها بالكامل ،وبسبب ضعفها ظلت معتمدة على الامبراطور والولاء له والاندماج الثقافي بين الارستقراطية والبرجوازية، ووصلت عملية الاستيعاب التي قامت بها البرجوازية الى ذروتها مع انعطافة القرن، واذا كانت المانيا الفايمارية قد شهدت تطورا لواحدة من أهم الحركات الطليعية فقد كانت أيضا مسرحا تحطمت فيه آمال هذه الحركات كلها ، أدت هزيمة الثورة الألمانية الى اطلاق عمليتين معاديتين للثورة هما توطد كيان الدولة السوفيتية البيروقراطي تحت ضغط بيئة معادية ومن ناحية أخرى صعود النازية ، بمعنى أن النظامين رغم اختلافهما فقد شرعا اداريا في قمع ما أطلق عليه أحدهما (الشكلية البرجوازية) بينما أطلق الثاني ( البلشفية الثقافية) وهما مسؤولان عن القضاء على الحركات الطليعية.
ماركس أم نيتشه ؟
كانت الحرب العالمية الثانية هي التي دمرت الاحداثيات التاريخية للحداثة ومزقت أوصالها وبعدها انتهى النظام شبه الارستقراطي القديم أو النظام الزراعي وملحقاته وتم تعميم الديمقراطية البرجوازية وانقطعت الروابط مع ماضي قبل الرأسمالية ، وأخيرا تلاشت صورة الثورة أو أملها في الغرب وحلّ معها اقتصاد بيروقراطي للانتاج السلعي الشامل ، وأصبح الاستهلاك والثقافة الجماهيرية مصطلحين قابلين للتداول افتراضيا ... ينظر الى ماركس ونيتشه وسان سيمون على أنهم الأكثر تأثيرا في التفكير في الحداثة ، ويتخذ الثلاثة من عصر التنوير نقطة انطلاق لهم ولديهم مفهوم مميز للعصر الحديث الذي بدأ بالثورة الفرنسية والتطورات في الحقل العلمي والتقني في القرن الثامن عشر ، ورث سان سيمون مفهوم كوندرسيه للتاريخ بعدّه التقدم شكلا ملموسا في المجتمع الصناعي وأن المعرفة العلمية أساس القوة الاجتماعية ، ورأى ماركس المجتمع البرجوازي ليس كتجسيد للعقلانية بل نسخة جديدة من الاستغلال الطبقي ، بينما كشف نيتشه عن التعاقب التاريخي لأشكال الهيمنة لكنه أنكر امكانية وجود مجتمع خال من الاستغلال ، وقد حظي حكمه بتجدد ملحوظ لدى مجموعة المفكرين في فرنسا الذين يطلق عليهم أنصار ما بعد البنيوية فوكو وديريدا ودولوز ، ويعد فكر نيتشه مركزيا في المناقشات المعاصرة حول الحداثة وما بعدها ، ربما يفهم موقف نيتشه على أنه أحد أشكال المناهضة للرأسمالية وهي معارضة للرأسمالية باسم القيم السابقة عليها ، رفض نيتشه الحضارة البرجوازية لانحطاطها. ولعل فلسفة نيتشه هي المصدر الذي نهل منه أقطاب ما بعد البنيوية. فقد قام دولوز بتلخيص عديد من الموضوعات الرئيسة لفكره في كتابه (نيتشه والفلسفة) 1962 واعترف ديريدا بتأثير نيتشه في نصوص مختلفة وذهب فوكو أبعد من ذلك معلنا (إنني نيتشوي ببساطة ) ويقدم شرحين رئيسين لاسلوبه في قراءة نيتشه ، وهو يستكشف الأسئلة التي طرحها نيتشه فلسفيا للمرة الأولى ، ولعل مركزية النزعة الجمالية تتأكد لدى فوكو من قراءته نيتشه لأول مرة عام 1953 ، كما يتابع مؤلف الكتاب المسح النقدي الذي قام به فنسنت ديسكومبي للفكر الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية فيقدم اقتراحا: يمكننا أن نرى في التطور الأخير في الفلسفة في فرنسا انتقال جيل الثلاثة (هيغل ، هوسرل ، هيدجر ) بعد عام 1945 الى جيل سادة الشك وهم ماركس ونيتشه وفرويد ولكن أحد الثلاثة يظل له تأثير حاسم على فكر 1968 وهو هيدجر ، اذ يضع ديريدا نفسه بوضوح استمرارا لفكر هيدجر ، أو كما قال فوكو قبل وفاته (كان هيدجر بالنسبة لي دائما هو الفيلسوف الأساسي) حتى كتابات التوسير المبكرة تحمل بصمات هيدجر ، ويشير فوكو الى أنه طوال الفترة 1945 – 1955 حاولت الجامعة الفرنسية المزاوجة بين الماركسية والظاهراتية ، هذا المشروع هو واحد من الشواغل المحورية في فكر سارتر وميرلوبونتي.
استغل ديريدا أكثر من أي شخص آخر في تيار ما بعد البنيوية الموارد الفلسفية التي قدمتها نظرية دي سوسير في اللغة ، لأنها تتضمن نظرية في المعنى مضادة للواقعية فهي تشكك في مسألة المرجع أي العلاقة بين التعبيرات اللغوية والأشياء الموجودة خارج الخطاب ، وقد اتخذ ديريدا وأنصار ما بعد البنيوية الآخرون الخطوة الاضافية المتعلقة بأفكار نسقية اللغة وبدلا من انتاج المعنى ضمن حدود البنية المغلقة أصبح الآن يتألف من الدوال التي تتكاثر الى ما لا نهاية ، ولا تكمن الصعوبة في التوجه الحسي عند ديريدا مثلما هو الحال في المثالية التقليدية بانكاره لوجود الاشياء بشكل مستقل عن التفكير أو مستقلة عن الخطاب ، لذا فإن اعلان ديريدا (لا شيء يوجد خارج النص) مضلل ، وفي ضوء مفهومه عن الاختلاف على أنه لا شيء انطولوجي خارج النص أي أنه ينكر قدرتنا على معرفة الأشياء ,يمكن مقارنة هذا الموقف بموقف كانط الذي كان يرى أننا لا نستطيع معرفة (الشيء في ذاته) ، وتحول مفهوم التفكيك الى غطاء لإضفاء الشرعية على مثالية حقيقية منشغلة بصورة نرجسية بتوجه نصي ذاتي التوليد لانهاية له، ومع ذلك فان ديريدا مهتم باثبات الطابع السياسي المعارض لفلسفته بالقول (كيف تجد هذه الفلسفة نفسها بدلا من أن تنقش نفسها داخل فضاء تسعى اليه ولكنها غير قادرة على التحكم فيه ؟ لا أعلم ولا أعرف ما اذا كان يمكن أن توجد معرفة بهذا الفضاء ، فأن نصفه بالفضاء الاجتماعي والسياسي هو وصف تافه لا يشبع وحتى التعليلات التي تعدّ تحليلات اجتماعية لا جدال فيها هي في كثير من الأحيان لديها أقل القليل مما يمكن قوله في الشأن المراد (ص 134). هذا المقطع مثير للأهتمام بسبب ما يعتوره من تذبذب بين التلميح الى الظروف الاجتماعية للخطاب والحيلولة دون اجراء أي تحليل لهذه الظروف ، ومهما كانت التزامات ديريدا السياسية الشخصية فهو غير قادر على ترسيخها بأسس منطقية لأنه يحرم نفسه من الوسائل المتاحة سوآءا بتحليل الترتيبات الاجتماعية القائمة أو تبرير هذا الرفض ، ان جذور موقف ديريدا تعود الى فلسفة اللغة التي تقوم على انكار أية علاقة بين الخطاب والواقع. من الجائز اعتبار المساهمة الأكثر ديمومة للتوجه النيتشوي الفرنسي في سلسلة النصوص التاريخية التي استكشف فيها فوكو تكوين مشروعه في مؤلفاته: تاريخ الجنون 1961 ,المراقبة والمعاقبة 1975 ، تاريخ الجنسانية 1984 ، ولقد خضع فكره لأزاحة نظرية عن الأعمال التي كتبها في الستينات مثل (الكلمات والأشياء) ، كان الدافع وراء منجز فوكو أكثر من مجرد الاعتبارات النظرية فقد اشتمل على تفسير خاص لمايو 1968 رفض فيه أية محاولة لرؤيتها تبريرا للمشروع الاشتراكي الثوري الكلاسيكي فيقول (إن ما جعل حدث 1968 ممكنا هو أنه مناهض للماركسية بعمق) (ص142). اذ شملت منازعة السلطة باسلوب لا مركزي من أن تكون سعيا لاستبدال مجموعة العلاقات الاجتماعية بأخرى وقد تنجح أية محاولة من هذا النوع لانشاء جهاز جديد للمعرفة – السلطة بديلا عن الجهاز القديم ، وقد سعى فوكو الى اعطاء هذه الحجة وهي في حد ذاتها غير أصيلة ،بل هي في الواقع شائعة في الفكر الليبرالي منذ توكفيل وميل ، وبالتالي لا يمكن اعطاء اولوية سببية للقاعدة الاقتصادية كما في الماركسية كما أن السلطة تستدعي بالضرورة المقاومة وان كانت متشظية ولا مركزية مثل علاقات القوة التي تنازعها ، يثير هذا المفهوم المشكلة المتأصلة في نقد نيتشه لعصر التنوير.
يواصل دولوز الاصرار على اولوية الرغبة على السلطة ويشير الى أن الهروب من معضلات فوكو تكمن في تبني متغير حديث من انطولوجيا نيتشه عن ارادة السلطة ، وان مناقشة أفكار دولوز وفوكو يكشف عن المصادر السياسية لفكرهما ومنه الرفض بعد مايو 1968 مثل عديد من المثقفين اليساريين لأي منظور للتحول الاجتماعي العالمي ورد الفعل على الآمال الثورية المحطمة وصعود الحركات الاجتماعية الجديدة (النسويات ، أنصار البيئة ، المثليون ، القوميون السود) ، ان تجربة هذه الحركات تظهر أن التغيير في العلاقة الاجتماعية لا يجب أن تصنعه قوة كلية ويمكن تغيير الظروف بشكل تدريجي ، هذا الحكم يلخص ما حدث لجيل 1968 خلال السبعينات بداية من الجماعات الثورية الصغيرة حتى الحملات المركزة على قضية لأسباب منها حجم كتاباته بالمعرفة وهي ذات تأثير مهم على اولئك الذين تخلوا عن الماركسية فان مفهوم المقاومة ينطوي على محتوى سياسي محدد ، ولعل واحدة من علامات انحطاط ما بعد البنيوية الفرنسية في الثمانينات هي في اخلاء أي محتوى سياسي من مفهوم المقاومة ،وهكذا فان ليوتار المؤلف لفلسفة الرغبة لا يثق بأي شكل من أشكال العمل السياسي حتى أنه ارتاب في مظاهرات الطلاب المعتدلة في باريس كانون الأول| ديسمبر 1986 ، وكما جاءت نهاية هذا الانحطاط من خلال عمل جان بودريارد فهو يعارض مفهوم فوكو عن السلطة وكذلك المفهوم الماركسي عن الانتاج بفكرة الإغواء ،والفكرة تتسم بطابعها الدوري والمتقلب والسير دون هدف ، ولعل الجذور النيتشوية واضحة بما فيه الكفاية في هذا المفهوم.
هابرماس والتواصلية
يعد يوجين هابرماس الفيلسوف الرئيس في اليسار الغربي المعاصر في أواخر الثمانينات لأسباب منها حجم كتاباته ونطاقها وأهميتها ،في محاولته اعادة بناء المادية التاريخية كنظرية في التطور الاجتماعي وتقديمها تفسيرا يمكن الدفاع عنه للعملية المتناقضة للتحديث الرأسمالي اضافة الى دفاعه عن مشروع التنوير، هذه الجوانب الثلاثة موجودة في كتابه (الخطاب الفلسفي للحداثة)، وان عمله في اواخر السبعينات انصبّ على مختلف اتجاهات الفكر المحافظ التي أعيد احياؤها في الرأسمالية الغربية الرافضة كليا أو جزئيا للحداثة وان اعادة ظهور لا عقلانية اليمين الأوربي قبل الحرب يمثل تهديدا للديمقراطية الليبرالية ، يشرح كتاب نظرية الفعل التواصلي 1981 فلسفة هابرماس عن اللغة كأساس لنظريته عن الحداثة كما يطرح اطار المفاهيم الذي يعتمد عليه في نقده لما بعد البنيوية (ص 162). وقد شرح أسباب عزمه على تأليف الكتاب الذي يركز على التحديث كعملية عقلانية ( لقد دفعني الوضع الألماني المتوتر الذي أصبح أشبه بمذبحة بعد اختطاف شلاير الى الخروج من البرج العاجي للنظرية لاتخاذ موقف ،بدا أن الديمقراطية مهددة من جماعات أقصى اليسار واليمين المتطرف على السواء) (ص 165). ويهتم هابرماس بالدفاع النقدي عن الحداثة وهو يؤكد عدم اكتمالها وفشلها في تحقيق امكاناتها وفي هذا يمكن عدّ عمله استمرارا للتراث الماركسي وتحديدا لمدرسة فرانكفورت ، ويأخذ هابرماس مسار جورج لوكاش ، فقد طرح لوكاش تفسيرا للعقلانية في كتابه (التاريخ والوعي الطبقي ) يصفها بأنها عملية تشيؤ ويراها نتاجا لاختراق عبادة السلع جميع مجالات الحياة الانسانية واختزال العلاقات الانسانية الى علاقات بين أشياء يحكمها السوق بفعل آليات الرأسمالية ، الوجه الآخر لعملية التشيؤ هو طبقة العمال ، واذا كانت نظرية هابرماس العقلانية التواصلية ضعيفة ولا تستطيع مقارعة نقد العقل ما بعد البنيوي فهي تقدم تفسيرا قويا للحداثة الاجتماعية ويميل الى المبالغة في ادراك مشروع التنوير في المجتمع المعاصر، ويجادل بأن نموذج الانتاج كنظرية للمجتمع يعاني من عيوب متأصلة أولا لا يمكن شرح كيفية ارتباط نوع النشاط النموذجي للعمل بأشكال التعبير الثقافي الأخرى ، وثانيا لا يمكنه أن يخبرنا ما اذا كان يمكن اشتقاق أي نشاط معياري من التفاعل الأيضي بين المجتمع والطبيعة ، ثالثا تحديد الممارسة بالانتاج يحدّ من المدى التفسيري للنظرية الاجتماعية الماركسية. ولقد قاده مفهومه التوافقي حول ما هو اجتماعي الى المبالغة في تغليب الرأسمالية المتاخرة على التناقضات التي حللها ماركس في (رأس المال) ويجادل بأن الأرثوذوكسية الماركسية قد تجد صعوبة في تفسير التدخل الحكومي والديمقراطية الاجتماعية ودولة الرفاه وهي ثلاثة أمور مترابطة ، ففي ظلها لا يكون العداء الطبقي ثابتا وكبيرا ولا يعيق ديناميات النمو الرأسمالي .. ويربط عدد من الكتاب الماركسيين والمتعاطفين مع الماركسية بين ظهور ثقافة ما بعد الحداثة والتغيرات الحاصلة في نمط الانتاج الرأسمالي , ويعتبر فريدريك جيمسون أكبر مدافع عن هذا الراي الذي يجادل بأن منح بعض الأصالة التاريخية لثقافة ما بعد الحداثة يعني تأكيد الفروق البنيوية بين المجتمع الاستهلاكي واللحظات السابقة للرأسمالية التي نشأ منها، وكما هو معلوم فإن هناك ثلاث لحظات للرأسمالية: رأسمالية السوق، مرحلة الاحتكار، مرحلة الأمبريالية ومرحلة ما بعد الصناعة أو متعددة الجنسيات .. كل لحظة تشير الى عامل مؤثر البخار (رأسمالية السوق)، الكهرباء والسيارات (الرأسمالية الاحتكارية) ،الكومبيوتر والطاقة النووية (ما بعد الصناعة).
"ضد ما بعد الحداثة: نقد ماركسي"، تاليف: اليكس كالينكوس، ترجمة: محمود أحمد عبدالله، دار شهريار للنشر والتوزيع، ط 1، بغداد، 2024.
اليكس كالينكوس: منظر سياسي وناشط بريطاني واستاذ الدراسات الأوروبية بكلية كينجز في لندن وعضو اللجنة المركزية لحزب العمال الاشتراكي البريطاني.
الهوامش:
1- بدر الدين مصطفى، دروب ما بعد الحداثة، المملكة المتحدة، مؤسسة هنداوي، 2018، ص18.