أيلول/سبتمبر 12
   
ماذا عن الايديولوجيا... من منظور التحليل النفسي؟
 
                                                                                                   
      المُلاحَظ أن العلاقة الإشكالية بين الإيديولوجيا والتحليل النفسي لم تنل ما تستحق من الاهتمام في الدرس الفلسفي أو النقدي العربي. ويمكن أن أتساءل: أيعود ذلك إلى أن التحليل النفسيَّ نفسَه لا يحتلّ إلى الآن مكانته بين العلوم الإنسانية الحاضرة في المشهَد الفكريّ العربيّ أم أنّ هناك قناعة داخلية مضمرة بأن لا شيء يمكن أن يقوله التحليل النفسي للإيديولوجيا كما لا شيء يمكن أن تقوله الإيديولوجيا للتحليل النفسي؟
       ماذا لو افترضنا عكس تلك القناعة: أن هناك علاقة وثيقة بين الإيديولوجيّ والنفسيّ، وأنّه لا تمكن الإحاطة بما تعنيه "الإيديولوجيا" إلا إذا كانت الاستعانة واسعةً ومعمّقةً بالتحليل النفسي؟ لكن ماذا عن العلاقة بين الإيديولوجيا والتحليل النفسي؟ أكان مفهوم الإيديولوجيا حاضرًا أم غائبًا عند فرويد؟ هل تناول مؤسِّسُ التحليل النفسي هذا المفهوم بالدرس والتحليل؟ وما بعد فرويد، أقاربَ المُحلِّلون النفسيّون الإيديولوجيا بتصورات نظرية وأدوات منهجية ومفهومات إجرائية جديدة؟ هل هناك من دراسات نفسية معاصرة طوّرت تحليل الإيديولوجيا من منظور التحليل النفسي؟ هل هناك من تحليلٍ نفسيٍّ لإيديولوجيةٍ من الإيديولوجيات الكبرى في مجتمعنا وعصرنا؟ وماذا عن إيديولوجية التحليل النفسي ذاته؟ ما الموقف الإيديولوجي للتحليل النفسي؟ وهل شهدت محتويات هذا الموقف الإيديولوجي للتحليل النفسي تحولات وتغيّرات؟
 سيجموند فرويد والإيديولوجيا
    ماذا عن فرويد والإيديولوجيا؟
   يمكن أن أفترضَ أنَّ فرويد لم يكتبْ أيَّ شيءٍ يكون خاصًّا بمفهوم الإيديولوجيا(1). لكن لا بدَّ من توضيحاتٍ قد تكشفُ أن التفكير في الإيديولوجيا لم يكن غائبًا كلَّ الغياب في أعمال مؤسِّس التحليل النفسيّ ودراساته:
 سيظهر المصطلح في مؤلَّفه: محاضرات جديدة في التحليل النفسي (1932)، وخاصة في المحاضرة الرابعة حيث يُقدّم مختلف سجلات الشخصية النفسية، مُعرِّفًا الأنا الأعلى بأنّها: تُمثّل الإكراهات الأخلاقيةَ كلَّها والطموحَ إلى الكمال؛ وبأنهّا ترتبط بالتأثير الذي يمارسه الآباء والمربّون؛ وبأنّها تتشكَّل لا انطلاقا من صورتهم بل انطلاقا من صورة أناهم الأعلى. فهذه الأخيرةُ تمتلئ بالمحتوى نفسه، وتُصبح ممثِّلةً للتقاليد ولكلِّ أحكام القيمة التي تَنتقلُ بين الأجيال(2) .
وفي محاضراته، يستدعي فرويد دراسته الصادرة سنة 1921: سيكولوجية الحشود وتحليل الأنا (Psychologie des masses et analyse du Moi )] حيث يميّز بين الأنا والأنا الأعلى، ويكشف الدور الذي يؤديه التماهي بوصفه أساسًا ليبيديًّا للرابط الاجتماعي: حَشدٌ (من الناس) سيكولوجي هو جمعٌ من أفرادٍ مختلفين جعلوا شخصًا واحدًا يستقرّ داخل أناهم الأعلى؛ وبفضل هذه النقطة المشتركة، فإنهم يمارسون التماهي مع بعضهم البعض داخل أناهم (3) .
انطلاقا من هذه الدراسات الفرويدية، قد يكون التفكير في الإيديولوجيا عند فرويد من خلال ثلاثة محاور كبرى:
تتميّز الإيديولوجيا بأنها من وظائف المثاليّ؛ فهي تشكيلٌ للوهم في ولائه للأنا الأعلى ولمثاليّ الأنا. وبعد فرويد، اهتم عددٌ من المحلّلين النفسيين بهذا المعنى للإيديولوجيا: ج. شاسكي- سميرجيل (J. Chasseguet- Smirgel) اعتبرت الإيديولوجيا من " أمراض المثالية" (1973)؛ وهناك مَن عدَّ الإيديولوجيا تكوينا للأنا في علاقةٍ بالسجلات المثالية ( الأنا المثالية؛ مثاليُّ الأنا؛ الأنا الأعلى ). ولكن تحليل أندري غرين ( André Green) كان الأكثر إحكامًا بخصوص العلاقة بين الإيديولوجيا ووظيفة المثاليّ: في دراسةٍ نشرها سنة 1969، تناول فيها العلاقة بين الجنسية (sexualité ) والإيديولوجيا عند ماركس وفرويد، موضِّحًا أن هذا الأخير يميّز بين نوعين من الأنشطة: أنشطة تستهدف التحكم في العالم الخارجي من أجل إشباع الحاجات، وأخرى تستهدف إشباعًا تعويضيًّا للاندفاعات العاطفية التي لم تتلقَّ جوابًا. وبهذا يتشكَّل حقلان: حقل الأشياء الواقعية وحقل الأشياء المثالية (4). وبهذا الحقل الثاني، ترتبط الثقافة والحضارات ومؤسَّسات الثقافة من دين وفن وفلسفة..؛ والإيديولوجيا، مثل الدين، تتحدد بواسطة علاقتها بالمثلنة (  L’ idéalisation): في نظر غرين، لابد من تصور للأيديولوجيا لا يعدّها لا إيجابية ولا سلبية، لا حسنة ولا سيئة، بل يعرّفها على أنها نسقٌ من التحويلات التي تعمل على تجميع تأثيرات تلك المثلنة الأولية ( L’idéalisation primaire )..(5). فالإيديولوجيا هي " بنيةٌ للمَثلنة"، بمعنى أنها تحقُّقٌ للرغبة النرجسية عن طريق الاستيهام. وعددٌ من الماركسيين اهتموا بهذا المعنى الذي يقارب الإيديولوجيا بوصفها معرفةً وتمثّلا مريضين، أي أنها فكرٌ مزيَّفٌ.
الإيديولوجيا هي بتعبير فرويد ( Weltanschauung): أي رؤية للعالم ذات طابع كليانيٍّ، وبناءٌ عقلانيٌّ نسقيٌّ ومزيَّفٌ؛ إنها انحرافٌ في التفكير. الإيديولوجيا وظيفةٌ اجتماعيّةٌ ضروريةٌ للوجود الجماعيّ، وهي راسخةٌ في الحياة النفسية. تشتغل بوصفها بناءً للثقافة وبوصفها تكوينًا نفسيًّا.
الإيديولوجيا والتحليل النفسي والماركسية
       سؤالٌ مهمٌّ لا بدّ من طرحه: ما هي التطورات التي شهدها التحليل النفسي في احتكاكه بالماركسية؟ ماذا عن الوظيفة الاجتماعية للأيديولوجيا؟ ألا ينبغي لنا هنا أن نستحضر بعض الأسماء: يونج أدلر، فيلهيلم رايش؟ ألا ينبغي لنا هنا أن نستدعي السؤال الأساس عند فرويد: كيف سيكون التفكير من منظور التحليل النفسي في التشكّلات التي تؤدي دور الوساطة بين البنيات النفسية والبنيات الجمعية، الاجتماعية والثقافية؟
  وفي هذا الإطار، يستحق تفكير فيلهيلم رايش الاهتمام: وفي هذا الكتاب يطوّر نظريته بخصوص الإيديولوجيا: سيكولوجيا الحشود عند الفاشية La psychologie de masse du fascisme(1933).
لكنه كان قد قدّم بعض المنطلقات منذ كتابه: المادية الجدلية والمادية التاريخية والتحليل النفسي Matérialisme dialectique, matérialisme historique et psychanalyse(1929) . لا شك في أنَّ هناك ما يُميِّز رايش عن فرويد، لكنَّ الأولَ طوّرَ فكرةَ الثاني: لا بدَّ من مراجعة فكرة الماركسية التي تفصل بين الكائن الاقتصادي والكائن الاجتماعي، والتي تَعدُّ الإيديولوجيا ووعيَ الناس  محدَّدَيْن بشكلٍ مباشرٍ وحصريٍّ بواسطة الكائن الاقتصادي، واضعةً بذلك تعارضًا ميكانيكيًّا بين الإيديولوجيا والاقتصاد، بشكلٍ يَمنعُ الماركسيةَ من أنْ تفهم أنَّ الإيديولوجيا تؤثر في الاقتصاد أيضا: فالإيديولوجيا لا تعكس السيرورات الاقتصادية فحسب، بل إنَّ لها القدرة على ترسيخها في البنيات النفسية لأفراد المجتمع.
    وفوق ذلك، فالماركسية لا تعترف بالسيكولوجيا؛ وفيلهيلم رايش كان يؤسِّس تحليلا نفسيا يهتمّ بدور الذات في التاريخ، وبدور البنية الإيديولوجية التي يشكلّها الأفراد في مجتمع معين وعصر محدد. وفي نظر رايش، الإيديولوجيا قوة مادية قادرة على قلب التاريخ وتغييره، ولكنها تستمدّ هذه القدرة من سيكولوجية الأفراد في مجتمع معيّن وعصر محدد.
     بعد ماركس وإنجلز، يًقبلُ رايش بوجود تباعدٍ بين التطور الاجتماعي والرغبات الأصلية للكائن الإنساني؛ ومثل فرويد، يَقبلُ أنَّ هناك رغبات وحاجيات ثانويةً موضوعاتُها هي بدائلُ سوسيوثقافية (تعويضٌ سوسيوثقافي) للموضوعات الحقيقية. والإيديولوجيا- في نظر رايش- هي انعكاسٌ لذلك النقص ولذلك التعويض.
   ولكن بالنظر إلى ما قدَّمه رايش، يمكن أن أتساءل: هل استطاع رايش أن ينجح حيث فشل التحليل النفسي: التفكير في التشكّلات النفسية- الاجتماعية؟ هل استطاع رايش- والتحليل النفسي- النفاذ إلى هذه المنطقة البينية المعقدة: الداخل والخارج؛ النفسي والإيديولوجي؛ النفسي والسوسيوثقافي؟
الإيديولوجيا والتحليل النفسي: دراسات نفسية معاصرة ومفهومات جديدة
   4-1-  أصدر المحلِّل النفسيّ الفرنسيّ المعاصر رونيه كاييس( René Kaës  ) كتابًا بعنوان: الإيديولوجيا: المثاليّ والفكرة والمثل الأعلى ( L’ idéologie : l’idéal, l’idée, l’idole)؛ وذلك سنة 1980؛ وفي سنة 2016، ظهرت طبعة جديدة، مزيدة ومنقّحة. وفي هذه الأخيرة، يحتفظ الكتابُ بأغلب الافتراضات التي وضعها المؤلِّفُ خلال الثمانينيات من القرن المنصرم من أجل النظر إلى مسألة الإيديولوجيا من منظور نفسانيٍّ. لكن السنوات الفاصلة بين الطبعتين قادت المحلِّلَ النفسيًّ رونيه كاييس إلى تصوراتٍ ومفهوماتٍ فرضتْ عليه مراجعةَ المعطياتٍ الكلينيكية والتشييدات النظرية التي كان ينطلق منها في السابق. ومن جهةٍ ثانيةٍ، فالسياق الثقافي والجيو- سياسي قد غيّر من الأشكال المعاصرة لما سماه كاييس قلق - الوجود malêtre داخل الحضارة (وذلك عنوان كتاب أصدره سنة 2012). ولا مبالغة في القول إن لهذا السياق تأثيراتٍ تظهر من خلال التشكلات الأيديولوجية الجديدة، بل هي ظاهرةٌ على فضاء الواقع النفسي، بأشكاله ومحتوياته وسيروراته، عند الأفراد والمجموعات كما عند الجماعات والمؤسسات.
    لقد جاء المؤلَّف في سنة 1980 وليدَ حاجةٍ ضروريةٍ إلى إيجاد أجوبةٍ لأسئلةٍ مصدرها طبيٌّ كلينيكيّ (حالات مَرَضية) وعمليٌّ نظريٌّ (التحليل النفسي للجماعة). وما كان يسند هذا العمل هو تلك التغييرات العميقة التي جاءت مع أحداث 1968.
   لقد كان المحلل النفسي رونيه كاييس يلاحظ، وقتئذ، كيف يتأسّس الموقف الإيديولوجي، عند الذات الفردية، على أسسٍ هي من تلك التي تقوم عليها نفسيةُ الطفل، وعلى "نظرياتٍ" هي من تلك التي تطوِّرها تلك النفسية من أجل معالجة مجموعة من الأسئلة - الألغاز: الأصل؛ الميلاد؛ الإغراء؛ الاختلاف بين الجنسين..؛ وعلى أساس هذه الأجوبة، وبالقدر الذي تهيمن به تلك القوة الجبّارة للفكرة على تشكيلها، وتلك المقتضيات النرجسية القديمة المتعلقة بما هو مثاليٌّ، وتلك السيطرة المرتبطة بالصنم أو بالمثل الأعلى، تكون تلك الأسس قد ترسّخت انطلاقًا ممّا يسمّيه فرويد بـ: Weltanschauung: أي  انطلاقًا من رؤيةٍ للعالم، متماسكة ومهيكَلة بما فيه الكفاية، توفِّر، بطريقةٍ غير ملموسةٍ، كلَّ الأجوبة لكلّ الألغاز التي تواجه الذات.
  وكانت فكرة كاييس - وهو يدافع عنها إلى اليوم - هي أن الأفراد والجماعات والمؤسّسات ينتظمون حول ثلاثة مواقف ذهنية رئيسة تتطابق مع رؤًى للعالَم (Weltanschauungen): الموقف الإيديولوجي idéologique) )؛ الموقف الطوباوي utopique))؛ الموقف الأسطورشعري (mythopoëtique). ولا يتعلق الأمر هنا بنظامٍ تطوريٍّ، فهي مواقف تتشكَّل وتستقرّ في أوقاتٍ معينةٍ من التنظيم الذهني للأفراد والجماعات والمؤسّسات. وكلُّ واحدٍ من هذه المواقف يتألف في صورةِ نسقٍ أكثر أو أقلّ انفتاحا من أجل تفسير العالَم. وعند الذوات، تكون تلك النظريات الجنسية المرتبطة بالطفولة هي الرَّحم الذي منه تتولّد هذه الأنساق التفسيرية.
    وخلال الثمانينيات، كان كاييس يُعرِّف الموقف الإيديولوجي من خلال ما يتشكّل من استيهاماتٍ وتماهياتٍ وآلياتٍ للدفاع تعمل على إنتاج تكوينٍ نفسيٍّ يتميّز بالقوة الجبّارة للفكرة، وبسيطرة وظائف المثاليّ، وبالصورة المستحوِذة للمثل الأعلى (الصنم). وبذلك، يتأسَّس الموقفُ الإيديولوجيُّ على ضرورةِ بناءِ تفسيرٍ كونيٍّ على أساس مبدأ السبب الواحد.
 ويميّز رونيه كاييس بين الموقف الإيديولوجي الذي يتأسّس على مثاليِّ الأنا والإيديولوجيا التي تتأسّس تحت تأثير الأنا المثالية:
الموقف الإيديولوجيّ الأول يتبلور داخل الأنا بوصفه شكلا عليه أن يتحقّق بواسطة التماهي مع أشخاص محبوبين؛ ودورُه الحاسم في تشكيل التكتّلات والجماعات والمؤسّسات سجّله فرويد سنة 1921 في دراسته: سيكولوجية الحشود وتحليل الأنا(Psychologie des masses et analyse du Moi )؛ وهو موقفٌ مفتوحٌ على التحول وعلى التوافق مع مبدأ الواقع. ويُعَدُّ أندري غرين ( André Green ) من المحلِّلين النفسيين القلّة الذين تخلّوا عن ذلك التصور السلبيِّ في كلِّيته من الإيديولوجيا، فهو يركِّز في تحليله على الرغبة التي تَسنِدُ الإيديولوجيا أكثرَ من التركيز على طابعِها الضارِّ والسلبيّ والتخريبيّ.
الموقف الإيديولوجيّ الثاني هو موقفٌ جذريٌّ راديكاليٌّ يخضع لنداءاتٍ ملحاحةٍ صادرة من تلك القوة الجبّارة التي تأسّست على النرجسية الطفولية. وهو موقفٌ إيديولوجيٌّ يفرض نفسه ضدّ اللايقين وضد المجهول، وذلك بوصفه فكرةً ضدّ فعل التفكير، أو بوصفه عجزًا حقيقيًّا عن التفكير. ومن أهمّ خصائصه أنه موقفٌ يأمر بفعلٍ ويبرّره، ذو طبيعةٍ أمريّةٍ، تشكيكيّةٍ، لا يَقبَل بأيِّ اختلافٍ ولا بأيِّ غيريّةٍ، ويعلن أشياءً ممنوعٌ التفكيرُ فيها. وبعبارةٍ واحدةٍ، فالموقف الإيديولوجيّ الراديكاليّ هو تنظيمٌ نرجسيٌّ قائمٌ على رفضٍ جماعيٍّ لأيِّ إدراكٍ للواقع لصالح القوة الجبّارة للفكرة، ولصالح تمجيدٍ للمثاليّ، ولصالح تثبيتٍ للمثل الأعلى أو الصنم.
    ويسجل رونيه كاييس أن هناك في التحليل النفسي غيابًا لهذا التمفصل بين حقلَيْ الواقع النفسي للذات والواقع النفسي للجماعة، مع أنه في هذا التمفصل تتشكّل وتتبلور تمثّلات العالَم؛ ويوضّح أنّ المتن النظريَّ الخاصَّ بالتحليل النفسي للفرد لم يُستثمَر بعدُ في مقاربة الإيديولوجيا نفسانيًّا، وأنْ ليس هناك من تمييز كافٍ بين الإيديولوجيا بوصفها خطابًا نوعيًّا حول واقع العالَم خاصٍّ بمجموعةٍ اجتماعية وبين الموقف الإيديولوجي الذي أسّسته ذاتٌ فرديةٌ ومجموعةٌ معينة.
       وفي الطبعة الجديدة للكتاب ( 2016)، يؤكّد رونيه كاييس على فكرة استمرارية الإيديولوجيا بوصفها موقفًا ذهنيا؛ وبوسائل جديدة، يحاول استكشاف ما فيها من أبعادٍ جديدة، مركِّزًا على السؤال الآتي: كيف يستمرُّ الوهمُ بأن الأوهام قد ماتتْ؟
    ومنذ الثمانينيات، كان رونيه كاييس من الباحثين القلائل الذين يدافعون عن فكرة أنه إذا انهارت الأنساق الإيديولوجية الكبرى التي سادت لقرنين من الزمن، فإن ذلك لا يعني إلا موتًا سطحيًّا للإيديولوجية. ويفترضُ المحلّلُ النفسيُّ أن الموقفَ الإيديولوجيَّ هو استعدادٌ دائمٌ من الفكر الإنسانيّ، وأن إظهارَ ذلك الموقف يكون تبعًا لثوابتَ نفسيةٍ في علاقتها بسياقاتٍ اجتماعية محددة. والفكرةُ هنا هي أنَّ الموقفَ الإيديولوجيَّ يبقى موجودًا حتى عندما تتغيّر محتوياته، وهو يَظهر في شكل ذرّاتٍ وشذراتٍ متفرقةٍ من دون تنظيم نسقيّ قبل أن يجتمع في أنساقٍ إيديولوجية جديدة.
   والحجة على أن الإيديولوجيات تموت لتعود من جديد هو ما وقع من الأحداث بعد ذلك (11 سبتمبر 2001 بنيويورك؛ 11 مارس 2004 بمدريد؛ باريس 2015..) ما سمح بتشكُّلِ إيديولوجياتٍ يبدو أن الأصولياتِ الدينيةَ هي أهمُّها.هناك مخاوفُ قديمةٌ استدعتْ دفاعاتٍ صارمةً وعنيفةً وقاسية: الخوفُ من الإخصاء، القلقُ من التأنيت (féminisation)، الهجرةُ الخارجية المرفوضة، واكتساحُ الإسلام المرفوض ، هشاشةُ الهُوية، تمجيدُ العنف. والأحداثُ الإرهابية التي شهدتْها الألفيةُ الجديدة هي من تمظهرات الإيديولوجيات التي تسندها وتدعمها؛ ولابد أن نفهم كيف ترتبط هذه الأحداث الدموية بتلك الإيديولوجيات الراديكالية، وأن نستوعب محدداتها وسيروراتها النفسية، وأن نتساءل: ما سببُ هذا الرعبِ كلِّه؟ ولماذا يبقى هذا الشرُّ الراديكاليُّ المدمٍّرُ للإنسانية داخلَ كلٍّ كائنٍ إنسانيّ من أجل تلك الفكرة ذات القوة الجبّارة، من أجل ذلك الشيء المثاليّ العنيف، من أجل ذلك المثل الأعلى الديني؟ وأن نحاول أن نتمثّل كيف يكون اللاوعي أمام هذا الرعب الذي يثيره الإرهاب: كيف يكون ردّ فعل اللاوعي، كيف يكون فعله، وما هي الدفاعات التي يستثيرها داخل الذات وداخل الجماعة؟
    ومع ذلك كله، يبقى الافتراض الأساس عند رونيه كاييس في الطبعة الجديدة من كتابه: الموقف الإيديولوجي، سواء كان شذريًّا أو نسقيًّا، لابد له من ثلاثة مكونات: القوة الجبّارة للفكرة؛ شيءٌ مثاليٌّ نموذجيٌّ؛ مثلٌ أعلى مهيمن (صنم).
    منذ أبحاثه خلال الثمانينيات، بدأ تحليل رونيه كاييس يغتني بمفهومات عديدة: يحتلّ فيها مفهوم الترابطات اللاواعية (  alliances inconscientes ) مكانة مركزية؛ وعمل على استعارة مفهوم الرابط الاستبدادي  (lien tyrannique) من التصورات التي وضعها دونالد ملتزر(D. Meltzer ) سنة 1968. وقد أخذ منه بالأخصّ تلك الفكرة التي تقول إن الاستبداد هو دفاعٌ ضدّ مخاوف الإحباط والاكتئاب. والإيديولوجيا، بوصفها شيئا استبداديًّا، تعمل على تنظيم أمرين: الأول علاقات الخضوع للشيء الاستبدادي، والثاني روابط السيطرة على الفرد والجماعة الخاضعين لهذا الشيء الاستبدادي، وذلك من أجل مقاومة تلك المخاوف.
   في طبعته الجديدة، كما في طبعته السابقة، هدف هذا الكتاب ليس هو تحليل إيديولوجية محددة، بل إنه يحاول أن يؤسِّس بعضَ العناصر التي تساعد على القيام بتحليلٍ نفسيٍّ للذهنيات؛ وهو يحاول، فوق ذلك، التوسع من أجل مقاربة المواقف الثلاثة (الموقف الإيديولوجي؛ الموقف الطوباوي؛ الموقف الأسطور شعري)، وهو في كل ذلك يضع صلاحية تطبيق التحليل النفسي على الذهنيات الجماعية موضع سؤال.
    4-2- لنقفْ قليلا عند هذه المفهومات النفسانية الجديدة التي يمكن أن نستعين بعا في مقاربة الإيديولوجيا من منظور التحليل النفسي:
مفهوم: التحالف اللاواعي ( alliance inconsciente )
اقترح رونيه كاييس هذا المفهوم من أجل النظر في علاقات العنصر بالمجموعة، ومن أجل النظر في الطريقة التي يتكوّن بها اللاوعي داخل تشكلات الروابط التذاوتية ( ما بين الذوات) وسيروراتها، أخذًا بعين الاعتبار تأثيرات اللاوعي في تلك التشكلات والسيرورات. وهكذا، فكلّ واحدٍ منّا في حاجة إلى الآخر من أجل تحقيق رغباته اللاواعية التي لا يمكنها التحقق من دون الآخر، وبشكلٍ متبادل. والغاية من هذه التحالفات هو العمل على كبت أو رفض أو محو أو إنكار كل ما يجعل تلك الروابط في موضع خطر. وينتج عن ذلك اتّفاقٌ لاواعٍ هو المؤسِّس للاوعي كلّ واحد؛ وبهذا المعنى، فإن التحالفات اللاواعية تعمل على هيكلة الحياة النفسية لكل ذاتٍ، بوصفها ذاتًا للاوعي وذاتًا لتلك التحالفات.
   انطلقت أبحاث كاييس في موضوع التحالفات اللاواعية منذ 1971، مسجِّلا أنه ليس من الممكن أن تكون إيديولوجيا(   idéologue) أو مؤمنا( croyant ) بإيديولوجيا لوحدك، بل لابد من أن يدعمك الآخر ضدّ الشك واللايقين. فأنْ نعتقد جماعةً، وننضمّ إلى تلك الفكرة القادرة على كل شيء، إلى ذلك الشيء المثالي، إلى ذلك المثل الأعلى الذي يحمينا من الموت، ذلك كله هو الذي يحفظ للمتن الإيديولوجي وحدته، ويجعل كلّ واحد مرتبطًا بالآخر داخل المجموعة الاجتماعية. وهذا كله جعل كاييس يكتشف في ما بعد أن التحالفات اللاواعية هي التي تؤسِّس الموقف الإيديولوجي، وهي التي تتجلى وظيفتها في تأكيد قدرتنا على أن لا نفكّر وأن نحافظ على التماسك المتخيّل بين أنا تلك الذوات والمجموع الذي تشكّله. لكن كاييس يعود ليسجل أن الإيديولوجيا ليست تنظيما دفاعيا فحسب، بل هي بناءٌ لليقينيات الأساس الموضوعة لكل فعلٍ أو تفكيرٍ جماعيّ. وفي الواقع، من أجل أن نفكّر ونتصرّف جماعةً، لابد أن يتأسّس اتّفاقٌ لاواعٍ كي لا نفكّر في بعض موضوعات التفكير: كي نقوم بكبتها ورفضها ووضعها في الخارج، في مكانٍ نفسيٍّ آخر، في" خارج الذات" الذي يبقى مع ذلك جزءًا من الذات.
   وقد ميّز كاييس بين أنواع من التحالفات اللاواعية، وقام بتحليل الميثاق النرجسي، وتحالفات الإخوة، والتحالف الرمزي مع الأب..إلخ. وهذان نوعان مهمّان من هذه التحالفات - التحالفات المهيكِلة-:
الميثاق النرجسيّ: مكوّنٌ أساسٌ في الجهاز النفسي - الجماعي؛ وهو ميثاقٌ يُعيّن لكلّ واحدٍ مكانا معينا حدّدته له الجماعة، ودلالة ذلك المكان يمنحها مجموع الأصوات التي تتمسك بخطاب معين مطابق للأسطورة المؤسِّسة للجماعة. ويكون مفهوم الميثاق النرجسي مناسبًا عندما يعمل على وصف ذلك المكوّن الذي يُهيكِل استثمارَ الجماعة للذات نرجسيًّا.
ميثاق الإنكار: وضع كاييس هذا المفهوم من أجل وصفِ كلِّ ما يكون مآله - داخل مجموعة من الذوات المتفاعلة- هو الكبت والإنكار والرفض. ووظيفة الميثاق تتجلى في أن الروابط تنتظم وتتقوى في تكامل المصالح. وبذلك يبدو ميثاق الإنكار كأنه الوجه الآخر المكمِّل للميثاق النرجسي. ولميثاق الإنكار قطبان: قطب تنظيمي وقطب دفاعي: فكل مجموعة من الذوات إلا وبينها استثمارات متبادلة واستيهامات متبادلة، ومجموعة مشتركة من المعتقدات والمثل العليا؛ لكن داخل هذه المجموعة تنتظم أشياء أخرى أيضا: التضحية؛ الكبت؛ المحو؛ الرفض؛ بقايا؛ دعْ ذلك جانبًا.. إلخ. وبهذا، فهو ميثاق يخلق داخل المجموعة أشياء غير قابل للدلالة وغير قابلة للتحويل، ومناطق للصمت، وجيوب التسمّم، هي التي تجعل الذات غريبا عن حكايته الخاصة.
 
 الإيديولوجيا هي لا-مُفكَّرُ الجسد، هي لا- كلامُ الجسد:
من الواضح أن الكلام يكون صادرًا عن الجسد، والجسد هو مكان الرغبة، وإذن فكل كلام هو رغبة؛ لكن الكلام يحاول أن يمارس التبادل وأن ينسج ثوبا مخادعا يتوهَّم من خلاله أنه مستقلّ عن الجسد؛ ولهذا، فهو باللغة وداخل اللغة يعمل على خنق كل ما هو مقلق داخل الجسد. وفي النهاية، فإن كلَّ كلام منظَّم، مفكَّر فيه، ممأسَسٍ، هو كلام يَشتغل من أجل أن يَنكر (وجود) الجسد.
 في علاقةٍ بالجسد، يمكن أن أتساءل: كيف تتأسَّس الإيديولوجيا؟ باول شيلدر(P. Schilder) من المحللين النفسيين الرواد المعاصرين لفرويد، نشر سنة 1936 مقالا بعنوان:
تحليل الأيديولوجيات كوسيلة للعلاج النفسي، وخاصة في العلاج الجماعي،
The analysis of ideologies as a psychotherapeutic method , especially in group treatment  وهو يُسجِّل في هذا المقال أن الإيديولوجيات تأتي من الوضعية الليبيدية للطفولة الأولى، وهي على علاقةٍ وثيقةٍ بموقفِ الطفل الانفعالي والشعوري تجاه آبائه وباقي أعضاء محيطه، وهي تتأسَّس بالتقمُّص (التماهي) أو بالتقليد ( المحاكاة).   لكن رونيه كاييس يسجِّل ( ص90) أن الفكرةَ الأصيلةَ عند شيلدر لا تتعلق بما سجلناه أعلاه، بل بالعلاقة التي يقيمها بين الإيديولوجيا وصورة الجسد. ويسجل شيلدر أنَّ انشغالَك بالجمال وببنية جسدك يؤدي دورًا مهمًّا عندك كما عند كلِّ كائن إنساني، وهو الذي يشكّل جزءًا من نظام أفكارك. وفي الواقع، فتقييمك لجسدك الخاص هو في الوقت نفسه تقييمٌ يهمُّ القوةَ والصحة، النشاطَ والسلبية، الذكورة والأنوثة، الموت..: إنه حول هذه التقييمات تتأسَّس الإيديولوجيات. ويدرس شيلدر عددًا من المرضى: أحدهم كان مكرَهًا على كتابة كلماتٍ فاحشةٍ حول الله الذي يتصوره رجلا طويلا وقويًا، فإيديولوجيته تعطي القيمة للطول والقوة اللذين يعنيان الشيءَ الكثيرَ للطفل الصغير الضعيف. وهناك مريض آخر يتميز بالمثلية، وهو يشكو من صعوبة التفاهم مع الآخرين الذين يسعون إلى الهيمنة عليه ومراقبته وإغرائه واختزاله في وضعية سلبية...؛ وهو يخاف من مواجهة الأب بسبب قدراته الفيزيقية، ولكنه لا ينتبه إلى قدراته الفيزيقية الخاصَّة به، ويبدي عدوانيةً عنيفةً تجاه أبيه أو بديله: وراء الأب، ترتسم صورة الأمّ العدوانية.. يسجل شيلدر أن أغلب المرضى لا يحكُمون على أنفسهم بالضَّعف والعجز الفيزيقي فقط، بل بِنقصِ الشجاعة في علاقاتهم الاجتماعية وعجزِهم عن التأثير في الآخرين: وحياؤهم الاجتماعي له علاقةٌ وثيقةٌ بعدوانيةٍ قوية. وبخصوص الذكوريٍّ والنسويّ، يسجل شيلدر أن الخوفَ من أن تكون مؤنَّثًا بزيادةٍ يتأسَّس مع الخوف من أن تكون سلبيًّا وخاضعًا لأحدٍ آخر أكثر قوة. وهنا لا يتعلق الأمر بالخوف من الأب وقضيبه فحسب، بل بالخوف من أمٍّ تملك عضوًا جنسيا مدمِّرًا. ويظن شيلدر أن تحليل الإيديولوجيات ممكن ومُستحَبّ: إنه جزءٌ من تحليل الأنا ( Moi). وفي البداية، يهتمّ التحليل بالمحتوى الواعي للإيديولوجية والمنطق الذي ينتظمه، والسؤال النهمّ في نظره هو: لماذا تبنَّى هذا الفرد/ أو الجماعة هذه الإيديولوجية بالذات؟
 لكن السؤال الأكثر أهمية هنا هو: ماذا عن الايديولوجيا، بوصفها لا مفكر الجسد، عندما يكون الجسد ذكرا أو أنثى؟ هل يتذوق الولد التجريدات النظرية لأنه في حاجة ضرورية وسريعة إلى تفسير نهائي ووحيد أمام العضو الجنسي للبنت وما يشكّله من تهديد لولوج ذكره؟ وإذا كانت الوظيفة والإشكالية الأبويتان مختلفتان بالنسبة إلى الولد والبنت، فإن الاستيهامات الهذيانية ( البارنويدية) الذكورية أو الأنثوية التي تقوم عليها كل إيديولوجية تمنح الامتياز للقبضة الأمومية التي لا يمكن الانفلات منها إلا بصناعة آخر (  Autre) بالقرب من هذا الكائن- المرأة - الأول- الذي ينتمي إلى عالم ما قبل اختلاف الجنسين (ص95). "موسم الهجرة إلى الشمال، لعبة النسيان تقترحان استيهاما تقوم عليه إيديوىوجيا الشخصية المحورية: إن هذه الشخصية هي نتاج الأمّ من دون تدخل الأب، هي ليست من صنع الأب، بل من صنع الأمّ وحدها، إنها من نسل لا- أبوي"(6).
 ولننظر الآن في الإيديولوجيا والنظريات الجنسية الطفلية: سؤال يطرحه الطفل الصغير: من أين يأتي الأطفال؟ ولا يحصل الطفل إلا على جواب متملص أو توبيخ أو حكاية. والطفل المخدوع قد لا يصدق الحكاية، فيشكّ في أن الكبار يخفون معرفة سرّية ممنوعة ومرغوبة. صمت الآباء وجنسه يدفعان الطفل إلى ابتكار نظريات خاطئة وزائفة: النظرية الأولى أن الكائنات الإنسانية تملك كلها قضيبا. هو يلاحظ أن البنت لا تملك قضيبا، لكن القيمة الإيروسية التي تمنحها ذاته للقضيب تمنعه من أن يتصور شبيها له من دون هذا العضو الضروري، ولأن هذا الاعتقاد يسمح له أيضا بأن يتمثل الخصاء. والنظرية الثانية يحكمها الجهل بالفرج، بالعضو الجنسي النسائي. وتتضمن هذه النظرية استيهاما بأن الرجل يمكن أن يكون حاملا مثل المرأة..؛ والخلاصة أن هناك" ثلاثة عناصر: توفير تفسير؛ بناء منطق قادر على جعل التجربة عقلانية؛ اقتراح فكرة سهلة الاستعمال؛ هذه هي الأسس المشتركة بين النظرية الجنسية الطفلية والإيديولوجيا: فهذه أو تلك تعزّز يقينا ضعيفًا. فالنظرية الجنسية الطفلية تفكّر ضد الرغبة في معرفة الرغبة: إنها " معرفة - ضدّية   contre-savoir  "(R. Gori, 1978, p.138) تجعلك تتجنّب المعرفة بالنقصان"(7).
والآن لنفكّر قليلا في الجسد والشفاهية في علاقتهما بالإيديولوجيا: " تستمدّ الإيديولوجيا، من علاقتها بالشفاهية، واحدة من وظائفها الكبرى: إنها تنشأ ضدّ الانفصال، وضدّ الانقطاع. تتكلّم الإيديولوجيا من دون أن تنفصل شفتاها عن الثدي. ولذلك، فهي عندما تتكلم، فإنها بالكاد تتواصل، إنها تتجنّب الخصاء الشفوي، والأفضل أنها تنكره، بما أن الثدي يجري التحقق منه هنا، بدلا عن الكلام الذي يَشهد على ضياعه. فالإيديولوجيا تجد نفسها في وظيفتها الصوتية (جدار صوتي: R.Gori, 1975 )، في همهماتها وغمغماتها، المتكررة والدائرية: تسدّ الثغرات، وتعزّز، وتكرّر"(8)   .
والآن ما هي العلاقة بين الإيديولوجيا والجسد والشرجية وصورة الأمّ الشرجية: يبدو أن التكافؤ المزدوج للوظائف (التخلص، الاحتفاظ؛ التدمير- التحكم) موجود في قلب النظام الإيديولوجي(9). والمحتوى الجسدي هو الشكل الأكثر بدائية للمِلْكِيّة؛ وفي تلك المرحلة، كان الشعور بالأشخاص والأشياء كأنهم ممتلكات يمكن الاحتفاظ بها أو التخلّص منها(10). إن إبعاد شيء ما أو ضياعه يمكن أن يَعدّه اللاوعي سلوكا تدميريا ساديا كما يمكنه عدّه إخراجا شرجيًّا(11). إن بناء نظام من الأفكار والمُثُل يبدأ في الاشتغال من أجل ضمان الدفاع ضد مخاطر ضياع شيءٍ ما: أشياء داخلية؛ أشياء جماعية ومشتركة؛ الشيء- الجماعي المشترك. وإن استثمار الأفكار المزودة بالقوة- الكلية من أجل الاحتفاظ- الهيمنة أو التخلص- التدمير يحصل على طاقته من هذا التنظيم الغريزي للسادية أو الإيروسية الشرجية. وتتهيكل الإيديولوجيا انطلاقا من هذه الأزواج المتعارضة، المانوية، الدوغمائية، المكرّسة للقضاء على الشك والتناقض الوجداني(12) " إن الإيديولوجيا، بوصفها نسقًا، هي التي تُمثِّل صورة " الأمّ الشرجية"؛ فإليها تعود القدرة على المراقبة والإبعاد والمقاومة والمطالبة تماما كما يُسنَد إلى " الأمّ الشرجية"، احتراسًا، التحكم المطلق في الفضلات والمحتويات الداخلية للأمعاء والمثانة."(13)  في لعبة النسيان: الهادي في اجتماع حزبي حاسم- بعد حملة القمع من النظام الحاكم- يدعو أعضاء الحزب إلى الحديث عن الأم؟؟
هناك اقتناع عند الطفل بأن التحكم الذي تمارسه " الأمّ" يعكس اهتمامها بالحصول ومراقبة المحتويات الداخلية للجسد، محتوياتٌ تصبح في ملكية الأمّ بعد أن كانت في ملكية الطفل، إنها تملك القدرة على " التحكّم في الأشياء" كما سجل    M. Torok (م. توروك) سنة 1964. المنفذ الوحيد الذي يجده الطفل أمامه، من أجل التحرر من سلطة مراقبة كلية، وحرمان " الأمّ" من تلك السلطة، ومقاومة الرغبة التي يشعر بها تجاهها، هو أن يَنقل الاستثمار اللبيدي المتعلق بالمحتويات المعوية،  نحو الأنشطة الذهنية، وذلك بمعالجة الإنتاجات الذهنية، أي الأفكار، بوصفها أشياء شرجية (14). الإيديولوجيا معالجة للمخاوف الاعتدائية الداخلية (دفاع ضد الغرائز العدوانية السادية- الشرجية) وللمخاوف الإحباطية ( دفاع ضد ضياع ذلك الشيء الما قبل تناسلي objet prégénital).(15)
 وأخيرًا بماذا يمكن أن أختم تقرّبي المتواضع من موضوع إشكاليّ معقّد: الإيديولوجيا والتحليل النفسي؟
هل يكفي أن أسجل الملاحظات الآتية:
أن الإيديولوجيا ترتكز في بنيتها كما في العلاقات التي تقيمها ذواتها ( الفاعلون/ الذوات الفاعلة  ses sujets) معها على النرجسية. وكما أن النرجسي لا يتجاوب مع أي شيء آخر غير صورته، فإن الإيديولوجيا تحيل باستمرار على الشبيه، تتضاعف من خلال عناصرها، وتستعيد تدوير موضوعها داخل دائرة تبقى الذوات سجينتها. (ص107). الإيديولوجيا قريبة مما يسميه أندري غرين (1971) بالشيء الغير- نرجسي (objet transnarcissique ): فهي تضمن، بواسطة لعبة التقمصات والتماهيات، الوساطة بين البعد النرجسي الأولي والبعد الاجتماعي للتبادل. والمصطلح الذي اقترحه أندري غرين ينطبق على الفن، وليس من دون سبب: ينتمي الفن إلى نظام " المفتوح"(  l’ouvert » ") في حين تنتمي الإيديولوجيا إلى نظام الإغلاق  ( نظام خياطة الجرح ordre de la suture  ).
أن مصير النرجسية في مسار التطور الذي يعرفه الموقف الأيديولوجي يستدعي الحديث عن ثلاث لحظات: في البداية، هناك شهر عسل: الإيديولوجيا تدعم الأنا الضعيفة القلقة الخاضعة للتمزق والمهدَّدة باللاندماج؛ في اللحظة الثانية تتحول الإيديولوجيا إلى موضوع حب؛ أما اللحظة الثالثة، فتتميز بضياع حدود الأنا وبتبدّد الشخصية: تختفي الحدود، وتُعاش الأفكار على أنها واقعية، والسيرورات الذهنية التي لم تعد محتواة في حدود الأنا تُدرَك من طرف الأنا الجسدية على أنها قادمة من الخارج. تصبح الكلمات أشياء، والفكرة هي التي تحكم وتسود.
أن من الضروري الحديث عن الإيديولوجيا وفكر الجسد: مفهوم" فكر الجسد esprit du corps " ظهر عند فرويد في نهاية الفصل التاسع من كتابه: سايكولوجيا الحشود وتحليل الأنا: في المجتمع، هناك فكر مشترك، فكر الجسد: لا ينبغي لأحد أن يتقدم إلى الأمام، ينبغي لكل واحد أن يكون مثل الآخرين وأن يحصل على الشيء نفسه: فكر الجسد ليس إلا نتاج تماهٍ متبادل يُعدّ حلا للمأزق الذي تقود إليه الغيرة. يتشكل فكر الجسد داخل التماهي المتبادل بين أعضاء الجماعة بفضل الوهم أن كل عضو هو محبوب حبا متساويا من موضوع الحب: القائد، صورة الأخ الأكبر، وهذا بديل عن الأب. وتضمن الإيديولوجيا مناعة الجماعة من خلال الصورة المثالية للجسد الموحَّد والملتحم والبعيد عن التفرقة والانقسام. ولا ينبغي أن تكون هناك رؤوس كثيرة، بل رأس الجماعة فحسب. والجسد الجماعي هو موضوع نرجسي يتجسد في جسد القائد.
 
أ.د. حسن المودن، باحث مغربي

الهوامش

  1. رونيه كاييس، الأيديولوجيا: المثاليّ والفكرة والمثل الأعلى، 2016، ص 3.
  2. نفس المصدر ص3
  3. نفس المصدر ص4
  4. نفس المصدر ص10
  5. نفس المصدر ص10
  6. نفس المصدر ص95
  7. نفس المصدر ص99
  8. نفس المصدر ص 99
  9. نفس المصدر ص 100
  10.   نفس المصدر ص 100
  11.   نفس المصدر ص 100
  12. نفس المصدر ص 101
  13.   نفس المصدر ص 102
  14.   نفس المصدر ص 102
  15.   نفس المصدر ص 104