أيلول/سبتمبر 12
   
  ما زالت التنمية أحد الألغاز الاقتصادية التي تعجز دول العالم الثالث عن حلها واكتشاف حقيقتها، فلقد قطعت شوطا طويلا فيها، ولكن الثمار ما زالت قليلة؛ فديون العالم الثالث ما زالت كبيرة، وما زال التفاوت بين الفقراء والأغنياء كبيرا، ولا يزال لغز التنمية محيرا، لذلك حاول الوزير والسفير السعودي الأسبق غازي القصيبي تبسيط وتقريب مفهوم التنمية وتوضيح وسائلها وسبل تحقيقها عبر هذا الكتاب القيم (التنمية الأسئلة الكبرى).
  في مقدمة كتابه: يكشف القصيبي عن أهمية التنمية، وأن الجميع يسأل عنها بل وإن التنمية حاضرة في مقدمة القضايا التي تحملها أي حكومة جديدة في العالم، وسقوط أي حكومة ينبع من فشلها في التنمية، والثورات التي نشأت في هذا القرن العشرين إنما سببها هو إخفاق الحكومة في تحقيق التنمية، بل إن الفشل في تحقيق التنمية قد يقود لوقوع المجاعات في العالم الثالث.
  ويعترف القصيبي بصعوبة موضوع التنمية للقارئ العادي غير المتخصص، نظرا لكثرة الكتب المؤلفة في هذا الباب؛ لذلك جاءت فكرة إعداد كتاب صغير يبسط مفهوم التنمية وبعض نظرياتها، فهل يستطيع القصيبي تلخيص تلك النظريات وتوضيح مفهوم التنمية في 136 صفحة؟ هذا التحدي الذي سعى القصيبي لتخطيه في خمسة فصول.
   ففي فصله الأول من كتابه يجيب القصيبي على السؤال الأول في التنمية وهو التنمية لماذا؟
    بدلا من أن يضع المؤلف تعريفا نظريا للتنمية، ذهب للواقع ليقارن بين نموذجين: الأول في العالم الأول، والثاني في العالم الثالث، ليوضح مفهوم التنمية مفهوما عمليا ظاهرا للعيان؛ فيقارن بين مزارعين: الأول في أمريكا والثاني في السنغال؛ فالأول يزرع أرضه بالفول السوداني فيستفيد من أحدث سبل الزراعة، ويستفيد من البحث العلمي الذي تموله الحكومة فينتقي أفضل أنواع البذور وأجود أصناف السماد. ويستفيد المزارعون من الخدمات التي تقدمها الحكومة الأمريكية فتساهم  في الاستفادة من مزارعهم، ويستخدمون أحدث الوسائل في رش زرعهم بأحدث الوسائل، وكذلك في الحصاد، ثم يبيعون محاصيلهم من الفول السوداني بأعلى سعر، فيرتفع عن السعر الدولي نتيجة لتدخل الحكومة لحماية المزارعين من تقلبات السوق، ويُوضع المحصول في أحدث المخازن التي تحافظ على سلامته، ثم تقوم الحكومة بتصنيعه وتصديره، ونتيجة للسعر المرتفع للمحصول والتطور التكنولوجي في الزرع والدعم الحكومي الذي يتلقاه الفلاح الأمريكي، فانه يتمكن وعائلته من التمتع بكل ضروريات الحياة وكمالياتها.
  وعلى الجانب الآخر يذكر القصيبي المزارع السنغالي فيذكر صورة غياب التنمية في واقع المزارع السنغالي، فهو يملك أرضا كنظيره الأمريكي ويزرعها مثله بالفول السوداني، فيستخدم وسائل حديثة في الزرع، لكنها ليست كجودة الوسائل الأمريكية، ولا يستطيع استخدام الأسمدة ولا المبيدات لغلائها أو عدم وجودها، ثم يحصد الفول السوداني باليد، وليس أمام المزارع السنغالي خيار غير بيع محصوله للهيئة الحكومية التي تحتكر شراء المحصول بأقل من سعره الدولي لتضمن أرباحها، ثم يُوضع المحصول في مخازن بدائية فيؤدي لتلف أكثر المحصول، ونظرا لعدة عوامل يقل دخل المزارع السنغالي فيعيش هو وعائلته عيشة متدنية؛ فقريته ليس فيها كهرباء ولا بقالات ولا عيادات ولا ماء، وليس جميع السنغاليين فقراء مثل هذا المزارع، فهناك أغنياء ولكنهم قلة كموظفي الهيئة الحكومية التي تشتري محصول الفول السوداني فيعيشون عيشة جيدة مما يتوفر لهم ولأسرهم المسكن والتعليم والصحة والغذاء.
   ثم ينتقل المؤلف للمقارنة بين المزارعين الأمريكي والسنغالي ليذكر البيئة السياسية، فالمزارع الأمريكي له نائب يتجاوب مع مطالبه، فيحرص على بقاء دعم الحكومة للمزارعين من البحوث والخدمات الميدانية، على الرغم من أن المزارعين لا يمثلون إلا جزءا بسيطا من المجتمع الصناعي. بينما السنغالي لا يجد من يمثله من النواب ولا من يضغط على الحكومة ليوفر له سعرا مناسبا، ولا من يوفر له خدمات ميدانية، مع أن المزارعين يمثلون قطاعا عريضا في السنغال.
  ويوضح القصيبي في التنمية جزئية خطيرة يخطئ فيها البعض فيظنون أن هدف التنمية هو جعل المزارع السنغالي كالأمريكي مثلا في ثقافته أو ثيابه أو جعل السنغال جزءا من أمريكا، فيحسبون التنمية غاية وليست وسيلة، فالتنمية وسيلة لتحسين حياة الأفراد والارتقاء بمستواهم الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والصحي، وليست هدفا لطمس هوية الأمة وتغيير ثقافتها كما فعل اتاتورك في تركيا أو صنع الشاه رضا خان في إيران.
  وبعد أن يستعرض القصيبي عددا من الأرقام والإحصائيات المفزعة التي توضح الفارق الكبير بين العالم الأول والثالث، يذهب باتجاه توضيح كم الديون والفقر والأمراض والتخلف التي تعاني منها دول العالم الثالث التي غابت عنها التنمية بخلاف دول العالم الأول. ويخلص المؤلف الى الجواب على سؤال لماذا ننمي فيقول: "إنه بدون تنمية لا بد من استمرار التخلف، ومع استمرار التخلف لا بد من استمرار الفقر، ومع استمرار الفقر تنعدم كل المقومات اللازمة للحياة البشرية وبدون تنمية ستسمر الفوارق الرهيبة بين البشر... وبدون تنمية ستزداد الهوة السحيقة بين الأغنياء والفقراء... وبدون تنمية سيستمر الجوع في حصد ضحاياه... أترانا نبالغ إذا قلنا إن العالم الثالث بدون تنمية ناجحة فعالة يقف على شفير مجاعات طاحنة؟" ( ص 23-22 بتصرف) .
  طبعا لم يبالغ القصيبي فالواقع في العالم الثالث يشهد بصدق تلك الكلمات.
  وفي فصله الثاني يطرح القصيبي سؤالا: التنمية لمن؟ ويثير القصيبي دهشة القراء من هذا السؤال، ثم يذهب بهذه الدهشة الى بيان أن التنمية قد تحدث والرخاء قد يأتي لكن لا يعمان الجميع، فالأغنياء حقا زادوا غنا لكن الفقراء أيضا زادوا فقرا، وحتى نفرق بين تنمية حقيقية يستفيد منها الجميع وتنمية لا يستفيد منها إلا أقلية ينقل عن محبوب الحق في كتابه ستارة الفقر الذي يثني عليه القصيبي ثناء شديدا، فيقول محبوب الحق: "يجب أن يكون الهدف من التنمية هجوما محددا على أسوأ انواع الفقر، يجب أن تكون أغراض التنمية موجهة على نحو تدريجي إلى القضاء على سوء التغذية والمرض والأمية والبطالة وعدم تكافؤ الفرص، لقد علمونا أننا يجب أن نحصر اهتمامنا في الناتج القومي الكلي وحده على أساس أن هذا الاهتمام كفيل بحل مشكلة الفقر، أما الآن فعلينا أن نعكس الآية: علينا أن نهتم بمشكلة الفقر، وهذا الاهتمام كفيل بحل مشكلة الناتج القومي (ص 41).
  ثم يستعرض القصيبي أثر الفساد غير المقصود في عرقلة عجلة التنمية (البيروقراطية البريئة) فيذكر منها أن الموظف المسؤول يبالغ في المعلومات التي يهتم بها ويقلل مما لا يهتم بها، وينحاز لما يهتم به من سياسات ويقف ضد السياسات التي تتعارض مع مصالحه، ويتجاوب مع الأوامر بقدر خدمتها لمصالحه، والدرجة التي يقوم بها في تلقي المخاطر والمسؤوليات التي تخص وظيفته تسير وفقا لتحقيق أهدافه الشخصية، فإذا انتقلنا إلى البيروقراطية غير البريئة سنجد ملايين الأرقام الدالة على الرشوة والفساد المعطلة لقطار التنمية، إذا استطعنا العثور عليها لأن الموظفين لا يسجلون إنجازات فسادهم، لنرى في النهاية "أن الأجهزة البيروقراطية في العالم الثالث تحولت في معظم العالم الثالث إلي مراكز قوى لا يمكن السيطرة عليها، ولا تذعن لسلطان أحد، وتعمل على تحقيق أهدافها الشخصية عن طريق الابتزاز المنظم والرشوة" (ص 49).
  هذا ما يحدث مع بعض الموظفين والإداريين، أما ما يحدث مع رجل الشارع العادي في صعوبة الإجراءات لسداد حق من حقوق الدولة عليه كفاتورة الهاتف أو تجديد رخصة سيارة مما قد يدفعه لدفع رشوة أو عمولة لتيسير المعاملة فهذه صورة أخرى للبيروقراطية.
  ثم يخلص المؤلف للإجابة على من ننمي؟ فيقول: "يجب أن ننمي لصالح السواد الأعظم من الناس وهذا يتطلب منا أولا: أن نزيل استئثار الصفوة الحاكمة بثمرات التنمية، ويتطلب منا ثانيا: أن ننهي احتكار سكان العواصم للمزايا، ويتطلب منا ثالثا: أن ننتشل التنمية من براثن البيروقراطية وننقذها من براثن الفساد" ( ص55).
  ثم يحذر القصيبي من مظهر خطير للتنمية الصورية، وهو التضخم (انخفاض القوة الشرائية للنقود بسبب ارتفاع أسعار الخدمات والسلع) ويفضل القصيبي بقاء الناس بلا تنمية لا تأتي بالتضخم بدلا من تنمية ممتلئة بالتضخم، ويدعو لتنمية حقيقية توفر السلع الخادمة للصالح العام والقيام بإجراءات تخفض الفقر وتخفف التفاوت بين البشر في الأجور وتوفير مزيد من فرص العمل وتقليل المعتمدين على العون التضامني من الدولة.
   وفي الفصل الثالث: التنمية ماذا؟ يستعرض المؤلف السبل التي اتخذها العالم الثالث من أجل تحقيق التنمية في منتصف القرن الماضي في السعي للتصنيع، ثم تبع ذلك السعي لتغيير الهوية ونقل ثقافة غريبة ولغة غريبة لبلاد العالم الثالث، كانت التنمية مجرد نقل عشوائي بدون رؤية شاملة ولا صافية ولا أهداف واضحة، لتصبح نتائج التنمية لأقلية قليلة من أفراد الشعوب.
   إن المنطلق الجديد للتنمية هو تنمية جميع القطاعات والمجالات لتوفير الحاجات الأساسية للإنسان من طعام ومسكن وعمل وصحة وصرف صحي وتعليم، بالإضافة للحاجات غير المادية كالكرامة والحرية والأمن.
  لنصل للفصل الرابع الذي هو بعنوان التنمية كيف؟ والجواب هو التخطيط، ويفرق الكاتب بين إجراءات شكلية وإجراءات حقيقية في التخطيط، فيكون التخطيط هو انزال تطلعات المواطن لواقع الوطن، فالدول التي لا تخطط لن تنمو وبقاء الدول على خطط ثبت فشلها يرقى لصفوف الجرائم، ثم يستعرض المؤلف عددا من خطايا التخطيط التنموي في العالم الثالث: فذكر إهمال الجانب الزراعي على حساب الجانب الصناعي، والانفاق المبالغ فيه في الجانب العسكري على حساب الحاجات الرئيسية للشعوب، والاهتمام بالمدن الكبرى على حساب القرى والأرياف، ومن تلك الخطايا تشويش الرؤية مما يؤدي إلى الخلط بين الحاجات الرئيسية للفرد والكماليات، فالانفتاح على بعض الكماليات مع إهمال الأساسيات كرغيف الخبز من أعظم خطايا التنمية في العالم الثالث، ومن تشويش الرؤية أيضا استبدال منتج محلي رخيص بمنتج مستورد مكلف.
  ويشير القصيبي في نهاية الفصل الرابع لأهمية أن تكون التنمية وفقا لحاجات الأفراد الذين يعيشون في الأرياف والأقاليم وليست وفقا لرؤية الموظف المخطط القابع في مكتبه محاطا بالخبراء الأجانب الذين لا يدرون عن حاجات الشعب الحقيقية، فالتنمية لن تتم عبر النقل الحرفي للنماذج الغربية التي لا تتوافق مع البيئة العربية مثلا.
  وفي الفصل الأخير والخامس الذي عنونه القصيبي بقوله التنمية: المفتاح السحري، ليتحدث عن شيء مهم لنجاح التنمية وهو الذهنية المطلوبة وهي الذهنية العلمية التي تلجأ لحل المشكلات بالأسلوب العلمي بدلا من التخبط العشوائي.
  فالذهنية التنموية لا ترى في قلة المال الضروري لتمويل التنمية مشكلة، فإتاحة الحرية أعظم أثرا من كثرة المال، وعدم المركزية واتخاذ مبدأ المشاركة في التنمية لا يترتب عليه أتعاب مالية كثيرة.
  والذهنية التنموية ترفض أن تتحمل الدولة جميع أعباء التنمية دون مشاركة القطاع الخاص في ذلك، فتستطيع بيع بعض المؤسسات لبعض الأفراد ليؤدي خدمة أفضل، فإصرار الدولة على تملك كل شبر ليس سببا وجيها لعدم مشاركة القطاع الخاص في التنمية، لا سيما مع ثبوت فشل النظام الاشتراكي في تحقيق التنمية.
  والذهنية التنموية قادرة على تنفيذ المشاريع باعتماد كلفة أقل إذا استغنت عن المعايير غير المهمة في تنفيذ المشروعات، بل وتستطيع تخفيض التكلفة مع تحسين الخدمة كما فعلت الصين في تدريب بعض الشباب تدريبا طبيا لمكافحة الأوبئة في الارياف، بدلا من النفقات الباهظة التي تأخذها أعداد الأطباء ثم يتركون القرى ويسكنون المدن.
  والذهنية التنموية لا تعترف بالتقنية الأغلى وإنما بالتقنية الأنسب، فالحرص على التقنية الأغلى إذا لم تتوافق مع الواقع يؤدي لنتائج كارثية.
  وتستطيع الذهنية التنموية تحقيق الكثير من النتائج إذا ركزت على التقنية الملائمة للبلاد، فنستطيع مثلا إضاءة الشوارع في القرى بالطاقة الشمسية مثلا.
  والذهنية التنموية لا تبحث عن حلول سريعة إذا كانت هذه الحلول لا تصل لنتائج فعالة في المجتمع.
  ثم يصل المؤلف لهذا المفتاح الذي يخرج لنا هذه الذهنية التنموية الرائعة فيقول: "الذهنية التنموية مرتبطة ارتباطا عضويا بالعلم، والعلم يرتبط ارتباطا بنظام التعليم، ووضع التعليم في العالم الثالث مأساة تحزن الأعداء قبل الأصدقاء، ولعلنا نضع أيدينا على المفتاح السحري للتنمية المفتاح الذي يستحيل في غيابه تحقيق التنمية رغم توفر كل عناصرها، ويمكن أن تتحقق التنمية مع وجوده حتى مع غياب عدد من عواملها، هذا المفتاح السحري هو التعليم" ( ص120).
  فشل النظام التعليمي في العالم الثالث من أهم عوائق تحقيق التنمية ومظاهر فشل النظام التعليمي في العالم الثالث عديدة فمنها: فشله في القضاء على الأمية، والعلاقة بين الأمية والتخلف وثيقة، وكذلك من مظاهر الفشل أيضا الفشل في الترشيد التعليم الجامعي، فالتعليم الجامعي يضخ كوادر بشرية عديدة غير مدربة، فتساهم في كثرة البطالة الثقافية.
  وبجوار إصلاح التعليم في العالم الثالث من أجل تحقيق التنمية يتطلب الأمر الاهتمام بالبحث العلمي، فالبحث العلمي في العالم الثالث يحتل مرتبة متدنية من الاهتمام والإنفاق، فبدلا من استيراد الكفاءات البشرية وتصدير الأدمغة العلمية يساعد البحث العلمي في إيقاف ذلك الاستيراد والتصدير المدمرين لبعض جهود التنمية.
  يختم المؤلف كتابه بوصيّة مهمة للجميع من أجل تحقيق تنمية حقيقية وليست تنمية شكلية فقط فيقول:" إن الطريق إلى التنمية يمر أولا بالتعليم وثانيا بالتعليم وثالثا بالتعليم، التعليم باختصار هو الكلمة الأولى والأخيرة في ملحمة التنمية" (ص126).
_____________
 
* غازي القصيبي، التنمية ... الأسئلة الكبرى، ط 1، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1992.