بعد عقدين من الزمن على التغييرالسياسي(2003- 2023) واسقاط النظام الدكتاتوري، يتميز الوضع في العراق بحالة عدم الاستقرار بفعل تراكم المشكلات والتحديات على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والدوران في دوامة الأزمات المتشابكة، حيث يعيش المواطن تحت وطأة معاناة متواصلة بفعل السياسات الخاطئة التي اعتمدتها النخب الحاكمة منذ 2003.
فالنظام السياسي بات عاجزاً عن الاستجابة لمطالب وحاجات المجتمع ويسعى عبر وسائل متعددة، سلمية وعنفية، لاعادة انتاج نفسه وتسويق زعاماته الفاسدة. وبات جلياً ان منظومة الحكم الحالية غير قادرة على توفير حياة كريمة للعراقيين.
ان اخفاق النظام السياسي في الاستجابة للتحديات من جهة، وفشل عملية بناء الدولة على اسس سليمة ورصينة من جهة اخرى، شكلت ظواهر تهدد كيان الدولة والمجتمع.
ومن هنا نحاول رصد عدة قضايا تتعلق بهذه الاشكاليات وتحليل ابعادها في (5) محاور مركزة:
(1)
اقترن التغيير السياسي في التاسع من ابريل 2003 بالحرب والاحتلال الامريكي وفق قرار مجلس الامن الدولي 1483. وصاغت الولايات المتحدة الامريكية خارطة طريق وآليات عمل عنوانها ديمقراطي، لكن مضمونها وترجمتها اكدت انها على النقيض من ذلك، سواء ما يتعلق بمبادئ ومؤسسات الديمقراطية او شروط ومقومات الانتقال الديمقراطي وتطبيقاته.
انتقل العراق من دولة مركزية غير ديمقراطية (ملكية وجمهورية 1921-2003) الى دولة اتحادية نص دستورها (2005) على مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان. هذا التحول المهم في عملية بناء الدولة شهد تعثراً واضحاً على صعيد التطبيق. وان السير نحو الديمقراطية واجه ولايزال عوائق وصعوبات ادت الى تعثر التحول على صعيد الممارسة وقاد الى نتائج سلبية في مختلف المجالات.
ودون شك فقد تحققت خطوات هامة على صعيد بناء المؤسسات وآليات الديمقراطية منها: دستور 2005 والاستفتاء عليه، 6 دورات انتخابية، التعددية السياسية والحزبية، النشاط الواسع لمنظمات المجتمع المدني، الانتعاش الاقتصادي وتحسن مستوى المعيشة، التطور الكمي على صعيد التعليم، علاقات خارجية متوازنة نسبياً.. الخ.
ان طبيعة المجتمع العراقي بتنوع قومياته واديانه وتعدد قواه السياسية المعارضة قبل 2003، وفر فرصة لعقد حوارات ورؤى انطلقت من ضرورة التخلص من الدكتاتورية وارثها عبر توافقات ومساومات سياسية تنطلق من خدمة مصالح المجتمع وتحول دون عودة الدكتاتورية. وضمن هذا السياق اعتمدت التوافقية منهجاً. وكما يقول آرنت ليبهارت في كتابه (الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد): "السمة الاساسية للديمقراطية التوافقية، هي ان الزعماء السياسيين لكل قطاعات المجتمع التعددي تتعاون في ائتلاف واسع لحكم البلد".
وبعد 2003 اعتمدت التوافقية منهجاً لادارة الدولة والمجتمع، ولكن تم تطبيقها عبر المحاصصة الاثنوطائفية مع اول تشكيل لادارة الدولة – مجلس الحكم مروراً بجميع الحكومات وانتهاءاً بالحكومة الحالية اتي يترأسها محمد السوداني. وتم اعتماد صيغة المكونات (شيعة/سنة/ كورد) وتثبيتها في الدستور وتمت ترجمتها عبر اعراف قوضت التطور الاجتماعي والاستقرار السياسي.
هذه المقدمات قادت الى نتائج او ترجمت في آليات تتنافى مع الديمقراطية:
- تحول التوافقية الى محاصصة اثنوطائفية سياسية وحزبية وتحولت الدولة الى غنيمة –الدولة الغنائمية – لكل مكون او طرف سياسي يستثمرها من اجل مصالحه الضيقة. وهذا الذي تحقق في جميع الحكومات ، بما فيها الاخيرة برئاسة محمد شياع السوداني التي نالت ثقة مجلس النواب في 27 تشرين الاول 2022 .
- تحولت المؤسسات الى هياكل غير فاعلة واصبحت تعيق التنمية والاستقرار وتضخمت باعداد هائلة غير منتجة واخفقت في تحقيق ادنى مستويات التنمية وهيمنت الدولة الريعية على جميع الهياكل الاقتصادية .
- تراجع الهوية الوطنية المشتركة وتصاعد الهويات الفرعية وتنافرها من حيث الانتماء والولاء وتنامي ميول الاحقاد والكراهيات والارتياب من الآخر وتنامي قيم التفاهة والرثاثة والانانية والابتذال .
- لم تعد الدولة المحتكر الوحيد للعنف ، للقوة، للسلاح، حيث تزايدت وتغولت تدريجياً قوى ما دون الدولة ( منظمات ارهابية ومليشيات ) . وانعكست ظاهرة تعدد مصادر القوة سلباً على هيبة الدولة والاستقرار السياسي والاجتماعي . وتشير بعض التقارير الى وجود ( 67 ) فصيل مسلح تنشط في مراكز المدن . هذا عدا سلاح العشائر والمنظمات والجماعات الارهابية ، في حين الاولوية ينبغي ان تُمنح لبناء جيش محترف غير مسيس قبل الشروع في البناء السياسي التوافقي .
- استشراء الفساد الذي اخترق مؤسسات الدولة وتحكم في جميع مفاصلها. نكتفي هنا بمقتطف من رسالة استقالة وزير المالية الاسبق علي علاوي المؤرخة في 16 آب 2022: "تعمل شبكات سرية واسعة من كبار المسؤولين ورجال الاعمال والسياسيين وموظفي الدولة الفاسدين في الظل للسيطرة على قطاعات كاملة من الاقتصاد، وتسحب مليارات الدولارات من الخزينة العامة. هذه الشبكات محمية من الاحزاب السياسية الكبرى والحصانة البرلمانية وتسليح القانون وحتى القوى الاجنبية".
- تزايد انتهاكات حقوق الانسان وتضييق هامش الحريات، خاصة حرية التعبير عن الرأي والاعتقالات التعسفية للصحفيين والكتاب والمثقفين والناشطين المدنيين بما في ذلك في اقليم كوردستان وتعاني الاقليات من الضغوط السياسية والتمييز والملاحقات خاصة المسيحيين والايزيديين والصابئة المندائيين وغيرهم، سواء في مرحلة داعش او ما بعدها وان بدرجة اقل.
- التباس العلاقة بين القوى الحاكمة في اقليم كوردستان العراق والحكومة الاتحادية والقوى المتنفذة بفعل عملية تخادم متبادلة بين الطرفين واعتماد سياسة الصفقات بديلاً عن فاعلية المؤسسات.
- الحضور القوي للدين السياسي ورموزه عبر التدخل المباشر وغير المباشر في السياسة واذكاء الطائفية داخل الدولة والمجتمع.
- تنامي العشائرية وتوسعها كأداة للتنظيم الاجتماعي وادارة وحل النزاعات عبر القوة والتفاوض وفق الاعراف القبلية وعقلية الثأر بعيداً عن مؤسسات الدولة.
- التدخلات الاقليمية والدولية باشكال مباشرة وغير مباشرة وتحول العراق بسببها الى ساحة لتصفية الحسابات والخلافات وميدان لمصالح الدول المجاورة اقتصادياً وسياسياً.
كل هذه العوامل/النتائج أدت الى اضعاف الدولة العراقية ونظامها السياسي، وحولت مشروع بناء الدولة التحديثية الى دولة التمثيل المكوناتي.
(2)
تتنوع وتتعدد الازمات في العراق وتأخذ مستويات وتجليات عديدة بفعل تشابكاتها وتعقيداتها من جهة، وتوجهات الفاعلين السياسيين وتغير مواقفهم من جهة اخرى. فالطبقة السياسية تعمل بعقلية الغنيمة، اي ان اهتمامها الاول يتركز على حصتها من مغانم السلطة وبذات الوقت تعمل على ابقاء العراق في موقع للدول الخارجية.
ولذلك لم تنجح الانتخابات ولا المؤسسات في ترسيخ الديمقراطية بل اختصرت جميعاً في تقاسم السلطة والنفوذ واحلال الصفقات بديلاً عن فاعلية المؤسسات.
فالانتخابات البرلمانية الاخيرة (2021) لم تحقق ما كان يأمله المواطن في الاصلاح الحقيقي ولم تؤد الى معالجة الازمات. وتحولت الانتخابات من آلية لتحقيق الديمقراطية الى وسيلة للانقضاض عليها . وكانت الاغلبية الصامتة والمعارضة التي قاطعت الانتخابات ، والتي تقدر ب 60 % من الناخبين بمثابة جرس انذار وعقاب للاداء السياسي . ولكن القوى السياسية المتحكمة بالسلطة لم تكترث لهذا التحدي وواصلت تجاهلها للأزمات وقاد ذلك الى اشتداد التناقض بين الدولة واللادولة . فقد فرضت المليشيات سياسة الامر الواقع عبر السلاح و تغولت واصبحت قوة موازية للمؤسسات الرسمية بل وتهددها خدمة لمصالح احزاب سياسية ودول .
وتجلى ذلك بوضوح في ظاهرة نشوء مراكز متعددة من داخل الدولة ومؤسساتها وتعمل ضد الدولة ومقوماتها ، اشبه بدويلات داخل الدولة ، تتمتع بكل ما تقدمه الدولة لها من مزايا وبذات الوقت تعيق عمل مؤسسات الدولة ، وبالتالي تم رهن الدولة للدويلة .
وبين الابعاد المحلية والخارجية للأزمة يجد العراقيون انفسهم متروكين بلا خدمات اساسية مثل الكهرباء والماء والصحة والتعليم وبقية الشؤون الحياتية . وبعد مرور عشرين عاماً لم تستطع الحكومات المتعاقبة من توفير مستلزمات الحياة الكريمة في بلد تزيد وارداته السنوية من النفط ما يفوق المائة مليار دولار سنوياً .
هذه القضايا غذت الاحتجاجات الشعبية و ادى الى فقدان الثقة بالسياسة والسياسيين نتيجة المسار الانحداري للاوضاع . واصبحت مسافة السلطة Power Distance بين الدولة والشعب واسعة واتسعت الهوة بينهما .
وحسب التقديرات الرسمية ان عدد العراقيين تحت خط الفقر او قريبين منه يبلغ حوالي خمسة عشر مليوناً ( 15 مليون ). وبيانات وزارة التخطيط تشير الى نسبة 25 بالمئة من السكان . اما البطالة فقد ارتفعت من 13.5 بالمائة من عام 2019 الى 16.5 بالمائة في 2022 .
ورغم تحذيرات القوى السياسية المدنية والديمقراطية غيرالحاكمة ومنظمات المجتمع المدني من تداعيات الاوضاع والدعوات الى المعالجة السلمية للأزمة ورفض اللجوء الى العنف، من خلال خارطة طريق عقلانية للحل، الا ان القوى المتنفذة واصلت سياسة التجاهل والايغال في نهج المحاصصة والفساد.
كما دعت الامم المتحدة الى الحوار الجاد للخروج من الازمة. واشارت ممثلة الامم المتحدة في احاطتها امام مجلس الامن الدولي يوم 17آيار 2022 الى " ان الطبقة السياسية منشغلة بالصراع على السلطة." و اكدت : " ان ثمن الانسداد السياسي باهض جداً واحتمال الانفجار الشعبي وارد ." وفي الاول من ايلول دان مجلس الامن الدولي اعمال العنف التي جرت في 29 و30 آب 2022 ودعا الى ضبط النفس وبدء الحوار بين اطراف النزاع .
وفي احاطتها امام مجلس الامن الدولي في 4 تشرين الاول 2022 قالت بلاسخارت : ( ان الفساد سمة اساسية للاقتصاد السياسي العراقي وهو متغلغل في الحياة اليومية ويعمل كأداة للخدمات السياسية اكثر من كونه أداة لخدمة الشعب .) واكدت بلاسخارت ذات الموقف في احاطتها الاخيرة في الثاني من شباط / فبراير 2023 حين اشارت الى ان " الفساد في العراق تحول الى منظومة عاملة لسنوات ." و " ان تحديات العراق لم تظهر بين ليلة وضحاها ."
كل هذه الاوضاع ومستجداتها جعلت من العراق ارض رخوة و وفرت الظروف المناسبة الى اتجاه البلد نحو الفوضى وعدم الاستقرار المزمن بعد عجز القوى المتنفذة عن ايجاد لغة مشتركة للخروج من حالة الاستعصاء السياسي .
( 3 )
اثبتت التجربة العراقية بعد 2003 ان موازين القوى لا تتحدد فقط بنتائج الانتخابات ، ولا بعدد المقاعد البرلمانية ، وانما ايضاً بعوامل ومؤثرات اخرى ، داخلية وخارجية ، منها السلاح والنفوذ الشعبي اضافة الى العامل الخارجي ، وتحديداً الاقليمي .
فقد افرزت نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في العاشر من اكتوبر 2021 عن فوز واضح للتيار الصدري (73)مقعداً. ان شعار(الاغلبية الوطنية، لا شرقية ولا غربية )، الذي رفعه مقتدى الصدر كان المقصود منه ابعاد خصومه، تحديداً، الاطارالتنسيقي الموالي لايران. وتم الاعلان عن تشكيل تحالف(انقاذ وطن )الذي يضم نواب التيار وتحالف السيادة و الحزب الديمقراطي الكوردستاني . يقابل ذلك ما يطرحه الاطار التنسيقي الشيعي، من بديل وهو تشكيل حكومة توافق وطني تشارك فيها الاحزاب السياسية وبالتالي اعادة انتاج المحاصصة .
لذلك رد الاطار التنسيقي بتعطيل عمل البرلمان واعاقة انتخاب رئيس الجمهورية وما يتبع ذلك من تسمية الكتلة الاكبر ، وتكليف رئيس الوزراء، وهذا ما سمي بالثلث المعطل، والذي يسميه الاطار التنسيقي بـ الثلث الضامن .
وكرد فعل على هذه الاوضاع ، اعلن التيار الصدري استقالة جميع نوابه من البرلمان في 12 حزيران 2022 واقرت الاستقالة رسمياً في 19من الشهر نفسه .ولجأ بعدها التيار الى الشارع وصولاً الى اقتحام البرلمان والاعتصام امامه تحت شعار محاربة الفساد. في حين توجه اتباع الاطار التنسيقي الى الاعتصام قرب الجسر المعلق تحت شعار الدفاع عن الدولة ومؤسساتها .
استثمرت قوى الاطار انسحاب نواب التيار في مليء الفراغ في البرلمان عبر البدلاء في جلسة استثنائية عقدت بتاريخ 23 حزيران . ومع اعلان مجلس النواب رسمياً استبدال النواب المستقيلين من التيار بنواب من كتل اخرى تكون مرحلة جديدة من الصراع السياسي في العراق قد انطلقت. اقترنت الصراعات السياسية بحرب اعلامية شرسة جندت لها كل وسائل الدعاية والتضليل والقذع والتشهير والاتهامات المتبادلة وغذتها الفضائيات و وسائل التواصل الاجتماعي وشارك فيها عدداً كبيراً من " المحللين " السياسيين من الطرفين وعمقت ذلك ،حرب التغريدات بين الاطراف المتصارعة .
اندلع القتال بين الفصائل المسلحة من الطرفين يومي 29 و30 آب 2022 في بغداد (المنطقة الخضراء ) وفي البصرة ، اضافة لحرق مقرات بعض احزاب الاطار التنسيقي في بغداد وعدد من المحافظات. وبلغت الضحايا اكثر من 30 قتيلاً ومئات الجرحى .
و بعد بيان المرجع الديني السيد كاظم الحائري في 28 آب 2022 الذي اعلن فيه اعتزاله ودعوته الى انصار التيار الصدري بتقليد السيد خامنيئي في ايران ، اعلن السيد مقتدى الصدر في اليوم التالي 29 آب اعتزاله العمل السياسي . وفي 30 آب اعتذر للشعب العراقي في مؤتمر صحفي ودعا انصاره الى الانسحاب من ساحات القتال ووقف الاعتصام السلمي ...
وهكذا شهد العراق حالة التحول من الاعتصام السلمي الى الصدام المسلح بين القوى المتنفذة على صعيدي السلطة والمجتمع . ان الاحتكام للسلاح مثل تطوراً جديداً وانتقالة نوعية في الساحة السياسية في معركة السلطة . اي ان قوى النفوذ لا تتورع عن استخدام السلاح فيما بينها( داخل التيارات الشيعية ) ، مثلما استخدمته قبل ذلك ضد المحتجين في حراك تشرين . كما اثبتت تلك الصراعات من جديد ، ان المصالح الضيقة لتلك القوى تعلو على المصالح الوطنية العليا .
وجدير بالذكر، انه بعد انسحاب نواب التيار الصدري ، جرت عملية تغير واسعة في الخارطة السياسية عامة ، والتحالفات السياسية خاصة . ولم يعد مجلس النواب يمثل الا اقلية الأقلية .
كل هذه التطورات وتفاعلاتها خلال السنوات 2019 – 2022 ادت الى اشتداد ديناميات الصراع بين القوى المتنفذة واوسع القطاعات المجتمعية من جهة وبين القوى المتنفذة ذاتها من جهة اخرى .
والجدير الذكر هنا ، وفي خضم هذه الصراعات ، نلمس ضعف ، ان لم نقل غياب تأثير القوى المدنية والديمقراطية بفعل تشتتها وانقساماتها ، مما افقد قدرتها على توجيه الضغط الشعبي ضد ممارسات القوى المتحكمة بالمشهد السياسي .
( 4 )
ان رصيد الحراك الشعبي السلمي منذ 2011 ثم حراك تشرين 2019 والمشاركة الشعبية والشبابية والنسائية الواسعة والتضحيات الجسيمة ( الآف الشهداء والجرحى ) تحت شعار ( نريد وطناً) دلت ليس فقط على الرفض الشعبي للسياسات الخاطئة وانما ايضاً قدرات المجتمع في صياغة الحلول السلمية والمناسبة للمعضلات والازمات العميقة التي يمر بها البلاد .
ومن هنا تأتي اهمية اعادة بناء الدولة كمشروع وطني يقود الى الاستقرار والازدهار والتنمية المستدامة . فالتجربة العراقية ومجرياتها خلال العقدين الماضيين اكدت ، ان اعادة بناء الدولة هي عملية معقدة ولا تتحقق بالشعارات ولا بالنصوص الدستورية لوحدها .
فأنتقال العراق من دولة مركزية ( 1921 - 2003 ) الى دولة اتحادية ( 2005 ) بعد الاستفتاء على الدستور في 15 تشرين الاول / اكتوبر 2005 ، اقترن بمشكلات وتحديات عديدة ، ركزت النخب السياسية الحاكمة خلالها على السلطة السياسية وسبل الحفاظ عليها ، وأهملت الدولة ومقوماتها ، مما انعكس سلباً على هياكلها ومؤسساتها في عدة مستويات منها : الالزام السياسي الذي يؤسس العلاقات بين الحاكمين والمحكومين ، والتنظيم السياسي الذي يحدد بنية الدولة وكذلك الديناميات المهددة لاستقرار الاوضاع والهادفة الى اعادة النظر في علاقات السلطة وتأثيرها على بناء الدولة .
و أكد فوكوياما في كتابه " بناء الدولة " على ان ضعف مؤسسات الدولة هو المصدر الاول للمشكلات الخارجية والداخلية ، وما يترافق معها من ضعف التنمية والفساد المؤسساتي وانتشار الارهاب .
وهذا التشخيص لمسناه في العراق بعد 2003 ، حيث نجد ان اشكالية بناء الدولة تكمن في ضعف الحكم والادارة والتنظيم وقصور المؤسسات . فبناء الدولة يستلزم بناء المجتمع وسد الهوة بين السلطة والمجتمع عبر التنمية السياسية والبشرية وتقوية المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة فاعلة قادرة على الاستمرارية .
فقوة الدولة تقاس بمدى كفاءة وفاعلية مؤسساتها وقدرتها على اداء الوظائف المناطة بها والاهداف التي تسعى لتحقيقها ، حيث ينصب الاهتمام على دور المؤسسات في الدولة واثرها في تشكيل السياسات والتوعية السياسية وفي تحديد الفاعلين السياسيين وخياراتهم .
ويشير والت روستو الى مجموعة مهمة من عناصر الانتقال الديمقراطي ودورها في بناء الدولة وهي :
- النخب هي مفاتيح عملية الانتقال سواء في الحكم او المعارضة .
- يٌعرف الفاعلون بحسب مواقفهم من النظام السياسي وليس بحسب مصالحهم الاقتصادية او الاجتماعية.
- سلوك الفاعلين سلوك استراتيجي وتأثر افعالهم بتوقعاتهم .
- الدمقرطة تكون نتيجة مفاوضات ومساومات .
ومن الضروري الاشارة هنا الى ان الانتقال من الحكم السلطوي الى النظام الديمقراطي صوب بناء الدولة ، لا يتم بطريقة واحدة ولا يوجد نموذج جاهز للتطبيق في كل زمان و مكان ، الا ان هناك مجموعة من الشروط التي ينبغي توفرها في الدولة الحديثة وهي موضع اتفاق العلماء والمختصين :
- دولة تحتكر وسائل العنف الشرعي ، والقدرة على ممارسة الاحتكار .
- حدود سياسية وجغرافية يُمارس الاحتكار ضمنها .
- شعب يقطن ضمن هذه الحدود ، وتمثله الدولة رسمياً امام الدول الاخرى ( مواطنين ) .
- جهاز بيروقراطي متفرغ ومكلف بادارة الشأن العام ويعمل لدى الدولة .
- سلطة تشريعية تسن القوانين .
و اذا اعتمدنا هذه الشروط كمعايير وطبقناها على الحالة العراقية ، سنجد جوهر الأشكالية التي تشير الى التحدي الرئيسي الماثل امام العراق ، وكذلك السؤال الرئيسي المتعلق براهن ومستقبل هذه الدولة .
ومن الجدير بالذكر، ان اخفاقات النظام السياسي وعجزه عن تقديم معالجات ملموسة ادى الى تنامي ظاهرة الحنين الى الماضي، عهد الدكتاتورية والدولة " القوية " القمعية الضامنة للسلم الاهلي والحد الادنى من المنافع العمومية، خاصة وان التغيير العنيف اثبت ان البديل عن الانظمة التسلطية ليس بالضرورة الديمقراطيات الحرة المستقرة، وانما في احيان كثيرة ، يؤدي الانتقال من الدولة الوطنية القمعية الى تحكم المجموعات المستبدة التي تلغي كل مكاسب الاندماج الاجتماعي بتفتييت هياكل السلطة المركزية سياسياً وامنياً وادارياً . ويتم استبدال مثلث الادارة المركزية والجيش الوطني والحزب السياسي بالاحزاب المليشياتية المدعومة من الخارج وهي العقبة الكوؤد التي تحول دون تحقيق الاستقرار السياسي وتجديد هياكل الدولة .
فالمليشيات الحزبية ليس لديها مشروع وطني ولا تدافع عن بناء سياسي جامع وانما عملت على توظيف السلطة لاعادة تشكيل المجتمع والهوية والفضاء العام بغية ديمومة حكمها وهيمنتها وتوسيع حملات التضليل الساعية لتوجيه الغضب الشعبي بعيداً عن اسبابه الحقيقية، ومن هنا تكمن خطورة تحكمها في المجتمعات التي تتحلل فيها هياكل الدولة مثلما جرى في التجربة العراقية خلال العقدين المنصرمين .
كما عملت القوى المتنفذة في العراق على تشويه التعددية السياسية والاجتماعية التي هي جوهر الديمقراطية ، و دأبت على تقويض آليات التمثيل والتداول السلمي للسلطة والقضاء عليها عن طريق اجراء عمليات التمثيل والانتخاب التي تتحكم فيها قوى غير مؤمنة بالديمقراطية وآلياتها و وفق قوانين غير عادلة ، حيث يأخذ النظام الانتخابي شكل المحاصصة القبلية او الطائفية او المناطقية. ومن هنا نجد ان المسلك الانتخابي في العراق لم يكن ضمانة كافية لحل الازمات السياسية . كما ان التعددية الحزبية والسياسية القائمة لا تعبر عن طبيعة التنوع المجتمعي.ونتيجة لذلك اصبحت الدولة رهينة الصراع السياسي من اجل التحكم بمنافعها ومواردها بدلاً من تكريس الولاء لها من حيث هي كيان جماعي معبر عن روابط المواطنة المشتركة .
لذلك فالرهان المطروح يتلخص في نزع عسكرة الحياة السياسية الذي هو شرط الاستقرار ودفع الحوار السياسي خارج مظلة الاكراه والعنف بعيداً عن الاحتكار السياسي والاستتئثار الفئوي او المذهبي باسم الدين، او باسم مبدأ ما او شعار ما لا يحظى بالاجماع الاجتماعي.هذا هو جوهر أزمة بناء الدولة . ولا سبيل لاعادة بناء الدولة الا على اساس المساواة والتكافؤ بين قوى سياسية وطنية ومجتمعية يجمعها مشروع واحد لبناء دولة ديمقراطية مستقرة .
( 5 )
ان ما مر ذكره من تشخيص للظواهر والتحديات المتعلقة بالوضع العراقي لا تعني استحالة الحل. ونجد ان بعض القوى، وخاصة الحاكمة تطرح فكرة اجراء اصلاحات فوقية من داخل النظام السياسي عبر حلول جزئية مع تعديلات محدودة ومساومات وسطية تؤمن اولاً مصالح الاطراف المتنفذة المتصارعة بما يعني عملياً ابقاء الوضع كما هو عليه .
ان المعالجة الجذرية للاوضاع تبدأ من الاعتراف بالخلل البنيوي في النظام السياسي ، فالازمة تتعلق ببنية الدولة ونظامها السياسي واقتصادها الريعي الذي لم يعد قادراً على الاستجابة للتحديات بسبب غياب الرؤية الواضحة وفقدان الارادة السياسية للمعالجة وتشبث القوى المتنفذة بالحكم .
من هنا تأتي ضرورة عقد اجتماعي جديد في اطار دولة تعتمد مباديء الديمقراطية والحكم الرشيد والمواطنة المتساوية ، يتم فيها تغيير فلسفة الحكم وفق عمل جذري وبطرق سلمية .
وحزمة الحلول تكون لمراحل آنية ومتوسطة واخرى بعيدة الاجل. فاصلاح النظام السياسي سيكون المدخل للتغيير المناسب صوب بناء الدولة الوطنية الديمقراطية .
ومن الضروري البدء بمعالجات وخطوات اجرائية تؤسس لمراحل لاحقة من التغيير المدعوم مجتمعياً في المجالات التالية :
اولاً – على الصعيد السياسي والقانوني:
- تشكيل حكومة وطنية وفق الاستحقاق الدستوري على اساس الكفاءة والنزاهة .
- التحضير لانتخابات مبكرة خلال فترة لا تزيد عن سنة وحل مجلس النواب بعد تشريع قانون انتخابي عادل ، واعادة تشكيل المفوضية المستقلة العليا للانتخابات وابعادها عن المحاصصة .
- اجراء تعديلات دستورية لمواد محددة ذات طابع اجرائي ، خاصة ما يتعلق بالتوقيتات الدستورية ومعالجة المشاكل الدستورية بما يتعلق بتفسير الكتلة الاكبر ونصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية . ويتطلب ذلك اعادة تفسير المادة 76 من الدستور والغاء وسائل الالتفاف عليها و تشريع قانون المحكمة الاتحادية العليا حسب المادة 92 من الدستور .
- تنظيم العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة اقليم كوردستان وفق الدستور باتفاق معلن للشعب، بما يؤمن الحقوق المشروعة للمواطنين، وتشريع قانون النفط والغاز الاتحادي .
- تطبيق مبدأ عدم الافلات من العقاب ومحاسبة قتلة المتظاهرين السلميين .
- منع مشاركة الاحزاب التي تمتلك مليشيات مسلحة من المشاركة في الانتخابات وفقاً للقانون ، وتطبيق قانون الاحزاب رقم 36 لسنة 2015 .
- حصر السلاح بيد القوات الرسمية الدستورية ومنع السلاح المنفلت واصدار قانون تجريم حيازة الاحزاب للأسلحة.
- تطبيق مبدأ استقلال القضاء وابعاد القضاء ومؤسساته عن المؤثرات السياسية.
- اعتماد الاشراف الدولي الفاعل على الانتخابات.
- انتهاج علاقات توازن المصالح مع الدول المجاورة وفق مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية.
ثانياً – على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي:
- تنفيذ اجراءات اسعافية تخفف من معاناة الناس على الصعد الاقتصادية والمعيشية والخدمية والصحية.
- وضع برنامج سريع لمعالجة الاختلالات في العملية التربوية وتوفير المدارس والمستلزمات الضرورية.
- فتح ملفات الفساد ومحاسبة الفاسدين واسترجاع الاموال المنهوبة.
- معالجة ازمات الكهرباء والمياه وفق خطط علمية مدروسة تقوم على التخطيط والادارة والتنظيم.
- اعتماد اجراءات لتأمين بيئة آمنة للأستثمار وفق برامج ملموسة وواضحة.
- العمل على نشر ثقافة المواطنة والتآخي والتسامح والتكافل ونبذ الكراهية والاحقاد.
- تشجيع ودعم منظمات المجتمع المدني والأرتقاء بدورها المهم في حياة المجتمع والدولة.
ان هذه الحلول والمعالجات لا يمكن ان تجد طريقها للتحقيق بسهولة، خاصة وان النظام السياسي المحاصصاتي يتميز بكونه محمياً بسور محكم ارتباطاً بتخادم قواه وتكاتفها ضد اي تغيير رغم التناقضات الحادة فيما بينها. فخصوم التغيير ليسوا قلة، اذ ان غالبية الطبقة السياسية التي تملك السلطة والثروة والنفوذ وتسيطر على الاعلام وتتحكم بالمراكز الاقتصادية والانتاجية وتمسك بالمناصب الاساسية في الدولة وتتفنن في نهب المال العام وتعمل جاهدة لتكريس النظام الطوائفي المدعوم بتسويات اقليمية ودولية وتتواطأ لمصلحة السلاح غير الشرعي، بصفته صاحب مصلحة في استمراريتها، سوف تستخدم كل طاقاتها من اجل التصدي لدعوات التغيير ومنع تحقيقها .
الا ان كل تلك الاساليب والوسائل والامكانات الضخمة لم تفلح في اخراج النظام السياسي من أزمته العميقة مثلما لم تنجح في تخفيف غضب المجتمع بعد الفضائح التي قام بها رموز الفساد من السلطة واتباعها. كما استنفذت الاحزاب الحاكمة كل وسائل الخداع والتضليل والتجييش الطائفي والتوظيف السياسي للدين التي باتت مكشوفة للمجتمع الذي تفاقمت معاناته الاقتصادية والاجتماعية. وبات واضحاً ان النظام السياسي بطبيعته وقواه المحركة وعناصره ومؤسساته أصبح منتجاً لعدم الاستقرار ومولداً للازمات ومهدداً للسلم الاهلي.
لذلك تتزايد الفرص والظروف المناسبة امام قوى التغيير الديمقراطية والمدنية للعمل الجاد والدؤوب وتفعيل الضغط الشعبي صوب تحقيق الخيار البديل القادر على تحقيق مشروعه التغيير الديمقراطي بطرق سلمية، مستفيدة من اخفاقات وتناقضات القوى الحاكمة من جهة، وعجزها عن ادارة الدولة بطريقة صحيحة وفشلها في تلبية ابسط متطلبات وحاجات المجتمع الاساسية. هذا هو التحدي المصيري الذي ينبغي التوقف امامه بجرأة وثبات.
مهدي جابر مهدي اكاديمي وباحث عراقي