
هناك اعتقاد يفيد بأن التحليل السوسيولوجي الطبقي الكلاسيكي – أي التحليل الذي يعتمــد اساساً على آراء كارل ماركس وماكس فيبر - لا ينطبق على المجتمعات العربية، أو أن المجتمعات العربية تخلو من وجود أشياء من قبيل «الطبقات». وهذا تعميم يجانب الصواب، على الأقل فيما يخص المجتمعات العربية في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى. وبالطبع فإن اتخاذ هذا الموقف أو ذاك من هذه المسألة أمر متعذر من دون توفر دراسات متخصصة، مسندة بالوقائع، للبنى الاجتماعية العربية الحديثة. كما أن الرفض التام للتحليل الطبقي، انطلاقاً من الانتماءات الإيديولوجية الظرفية، غير مقبول البتة من وجهة نظر البحث العلمي.
***
يتوجب علينا، بلا مراء، أن نشدد على الطابع التجريبي لمبحثنا الحالي. فالتحليل الملموس للطبقات مهمة بالغة الصعوبة. فهي تتطلب، من جهة، إدراك الميول والكوابح الموضوعية للبنية أو البنى الاجتماعية التي تؤلف الطبقات جزءاً لا يتجزأ منها؛ وتتطلب، من جهة ثانية، التوفر على ثروة من التفاصيل، وبخاصة ما يتعلق بالأفراد والعوائل المتنفذين، والعلائق المتبادلة فيما بينهم، وهي تفاصيل ليس من الهيّن التوفر عليها.
زد على هذا أن الطبقات في العراق كيانات غير مستقرة نسبياً، على الأقل منذ فترة 1914. وبالطبع فأن البنية الطبقية لا تتميز، من حيث المبدأ بالثبات. غير أن الوضع في العراق اتسم بحركات دخول وخروج سريعة من وإلى الطبقات القائمة، أو حركات صعود وتدهور داخل هذه الطبقات عينها، وذلك نتيجة عدد من العوامل بينها : الغزو الإنجليزي، تغلغل رأس المال العالمي، تجزئة الإمبراطورية العثمانية وفصل المقاطعات العربية في شمال العراق عن مناطقها التجارية الطبيعية في سوريا؛ البناء السريع المؤسسات الدولة الملكية، الكساد العالمي في 1929، سياسات تسوية الأراضي في عامي 1932 و 1938؛ الشح الشديد وانفلات التضخم الجامح خلال الحرب العالمية الثانية وسنوات ما بعد الحرب، الهجرة الجماعية لليهود في أواخر الأربعينيات ومطلع الخمسينيات، التدفق المفاجئ لأموال النفط بعد عام 1952 ، ثورة 1958، اندلاع الانقلابات والانقلابات المضادة العديدة في الستينيات، تقويض السلطة الاجتماعية للملكية الخاصة الكبيرة؛ النمو الهائل للبيروقراطية (أجهزة الدولة) في حياة الناس؛ الارتفاع المذهل في إيرادات النفط في السبعينيات، وما رافقها من تزايد في القدرة المالية للحكومة، واستقلالها الاقتصادي عن المجتمع وتزايد قدرتها على الحكم المطلق، والهجرات الكبرى الى المدن خلال العقود الأربعة لرجال القبائل الفلاحين من الأرياف؛ تنامي سكان بغداد الى 13 ضعفاً بين أعوام 1921 و 1978.
كما تعرضت الطبقات الى انقلابات فجائية في حظوظها أو في العلاقات المتبادلة فيما بينها. ومست هذه الحركات والتحولات مجموعات بأسرها، وليس مجرد أفراد أو أسر: ولعل نمو الجزء الشيعي من طبقة التجار بعد هجرة التجار اليهود واحدٌ من الأمثلة ذات المغزى في هذا الصدد. بموازاة ذلك كانت بعض العناصر الطبقية تتقدم في جانب، وتتدهور في جانب آخر، كما هو الحال مثلاً في أن ثراء العديد من الشيوخ القبليين المالكين للأرض في ظل العهد الملكي (1921- 1958) على حساب أبناء القبيلة البسطاء، أدى الى تقويض الروابط القبلية، ما أضعف الموقع الاجتماعي التقليدي لهؤلاء الشيوخ. بتعبير آخر، إن هؤلاء الشيوخ كانوا يصعدون كطبقة اجتماعية، ويتفسخون كجماعة تقليدية من جماعات الوجاهة في آن واحد.
علاوة على ذلك، تألفت الطبقات في العراق، كما ألمحنا في الأمثلة الواردة أعلاه، من عناصر متباينة.
هكذا نجد أن ملاك الأرض أو التجار كانوا قابلين للتمايز من عدة جهات، ليس فقط إثنياً (إلى عرب وأكراد وتركمان واراميين وأرمن)، أو من ناحية حجم الأرض أو مستوى الدخل أو مقدار الرأسمال، أو درجة النفوذ السياسي أو الهيئة الاجتماعية، أو تناغم أو تنافر مصالحهم مع التغلغل الاقتصادي الغربي، بل كانوا يتمايزون أيضاً من ناحية هامة أخرى وهي: أن عناصر شتى متباينة من مختلف مجموعات الوجاهة (Status groups) داخل طبقة ملاك الأرض، أو داخل الطبقة التجارية حملت معها آثار تشكيلات اجتماعية متباينة، بدرجات متفاوتة من الشدة، كما هو الحال، مثلاً مع الأغوات القبليين من ملاك الأرض، والشيوخ القبليين من ملاك الأرض، أو السادة الملاك القبليين أو الحضريين، أو العلماء ملاك الأرض، أو قادة الطرق الصوفية الملاك، أو «ارستقراطية» الموظفين الملاك، أو المضاربين والتجار والصرافين ملاك الأرض، أو الصناعيين الملاك أو الضباط الشريفين السابقين الملاك. وكان ذلك جزئياً نتيجة لواقع أن العراق في العهـد العثماني كان يتألف الى حد غير قليل، من جماعات متمايزة، مكتفية بذاتها، وضعيفة الترابط فيما بينها؛ كما كان ذلك، جزئياً، نتيجة تغلغل شكل اجتماعي يتوخى تحقيق الربح وتوسيع الملكية الخاصة، وهو شكل اجتماعي صاغته بالأساس علائق العراق الحديثة نسبياً بالسوق العالمي القائم على الصناعة الكبرى، بينما كانت الأشكال الاجتماعية الأقدم عهداً تعطي القيمة لنبالة النسب أو للمعرفة الدينية، أو القدسية، أو المقدرة الحربية في الغارات القبلية، وهي أشكال اجتماعية تسيطر عليها العلائق المحلية والنظرة المحلية إلى حد كبير، وتمتاز بسيادة الحرف اليدوية الصغيرة وإنتاج الكفاف الزراعي، كما تمتاز خارج المدن بالأشكال المشاعية القبلية والملكية أو ملكية الدولة.
هل يترتب على هذا التنوع في العناصر المكونة للطبقات الاجتماعية أنها لم تكن طبقات اجتماعية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تحتم السعي أولاً إلى تحديد الطبيعة الجوهرية للظاهرة.
***
ما هي الطبقة؟ وما هي خصائصها المميزة؟
رغم أني أجازف بالتبسيط المفرط، إلا أن توخي الوضوح يفرض علي أن أقول، ابتداء، أنني أتمسك بوجهة نظر السوسيولوجيا الكلاسيكية القائلة بأن «الطبقة» هي، من حيث الجوهر، تشكيلة ذات أساس اقتصادي، رغم أن مفهوم الطبقة يشير، آخر المطاف، إلى الموقع الاجتماعي لعناصر الأفراد والأسر المؤلفة للطبقة في مختلف جوانب هذا التشكيل. هذا أولاً. ثانياً، أن مفهوم «الطبقة»، يتطلب أو يفترض من وجهة النظر ذاتها، وجود فكرة «اللامساواة»، أو أن «اللامساواة» تتعلق أساساً بتفاوت «الملكية»، بين طبقة معينة وواحدة أخرى في الأقل، أو طبقة واحدة أخرى سياسية، إن اقتصرنا على النظر الى التشكيلات بمنظور الثنائية. وإذا توخينا المزيد من الوضوح، أقول أننا نجد من الصعب ألا نتفق مع جيمس ماديسون وكارل ماركس، وماكس فير بأن «الملكية» أو «الافتقار إلى الملكية» هما العنصران الجوهريان للوضع الطبقي، وأن هذا التضاد يضم بذور علاقة الاحتراب بين الطبقات. إن القبول بهذا التعريف لا يعني بالضرورة القبول بسلسلة المفاهيم الأخرى المختلفة التي يقرنها كل واحد من هؤلاء المفكرين الثلاثة بمفهوم الطبقة، كما لا يعني القبول بالفرضيات والمضامين الأخرى الملازمة للمفهوم عندهم إلا إذا كانت هذه الفرضيات والمضامين قابلة للتثبت تجريبياً في الحالة قيد الدرس.
وفي الوقت ذاته، لا جدال في أن «الملكية» تتباين من حيث طابعها ومغزاها بتباين الظروف، وعليه لا يمكن إدراك طابع «الملكية» ومغزاها إدراكاً سليماً إلا في إطارها التاريخي المحدد.
ولا خلاف أيضاً في أن الطبقة ظاهرة متعددة الأشكال ومتمايزة إذ يمكن للطبقة أن توجد في شكل مميز خاص بها، أو قد توجد كعنصر ضمن «جماعة وجاهة» (مثلما هو حال طبقة ملاك الأرض ضمن مجموعة وجهاء مثل شيوخ القبائل)، أو قد توجد الطبقة كعنصر ضمــن عــدة مجموعات من «جماعات الوجاهة»، كما سبق أن أشرنا* ويمكن للطبقة أن تتألف من «نخبة».
* مثال ملاك الأرض من السادة التجار والأغوات وشيوخ القبائل والأرستقراطية والصرافين.
(مثل «أرستقراطية العمال») و «جمهرة» (كما هو حال غالبية العمال). وفي هذه الحالة الأخيرة لا يشكل مفهوم «النخبة» عنصراً نافياً لمفهوم «الطبقة» وبالعكس. ويمكن للطبقة أن تضم شرائح فرعية، عليا ووسطى ودنيا.
وإن الجماعات الواقعة ضمن الطبقة قد تكون نتاج الأوضاع الراهنة للطبقة (على سبيل المثال وجود تجار صاعدين، وتجار يتدهورون من حيث الثروة) أو قد تكون هذه الجماعات بقايا ثقالة من أوضاع اجتماعية سابقة، قديمة مثل التجار من كبار الوجهاء المعروفين باسم الجلبية)، أو قد تكون هذه الجماعات نتاج تراكب بنية وجاهة قديمة مع بنية طبقية جديدة (كما هو حال السادة العشائريين ملاك الأرض).
زد على هذا أن الجماعات الواقعة ضمن الطبقة غالباً ما ترجع، في أصولها على الأقل، إلى طابع غير اقتصادي: فالقاعدة الأولية لموقع هذه الجماعات قد يكون عسكرياً ودينياً، أو إدارياً - سياسياً، الخ (كما هو حال الشيوخ العشائر، وعلماء الدين و «أرستقراطية» الموظفين على التوالي).
وإنّ العلائق فيما بين جماعات الوجاهة المنتمية لطبقة معينة أو العلائق في ما بينها وبين الطبقة ذاتها، تختلف من وضع ملموس الى وضع ملموس آخر. زد على هذا أن العلائق بين شرائح الطبقة الواحدة قد تكون كعلائق بين طبقات متمايزة. ففي العراق مثلاً كان ملاك الأرض الكبار وملاك الأرض الصغار يقعون في مواقع متعارضة لبعضهم، كما هو الحال خلال سنوات 1958 - 1959 الثورية.
بناء على ما تقدم، لا يكفي أبداً أن نحدد الطبقة شكلياً بأنها مجموعة أشخاص يتميزون بعلاقة مشتركة أو متماثلة مع وسائل الإنتاج، نظراً لأن درجة التباين في الملكية أو سعة هذه الملكية، ودرجة وسعة السيطرة على وسائل الإنتاج، قد تكون من الضخامة بحيث تؤلف فارقاً نوعياً وليس مجرد فارق كمي، من ناحية نتائجه الاجتماعية.
زد على هذا، إنّ كاتب هذه السطور يتفق مع الرأي القائل بأن الطبقة لا تحتاج، لكي تكون طبقة، إلى أن تمتلك شعوراً موحداً بوصفها وحدة واحدة في كل طور من أطوار وجودها التاريخي والواقع أنها لا تشعر هذا الشعور في كل أطوارها. بتعبير آخر، إنها ليست جماعة واحدة منظمة وواعية لنفسها. لكن هذا لا يعني أن الطبقة هي مجرد مقولة ذهنية، أي شيء يفرضه العقل على الواقع. إن أفراد طبقة ما قد لا يكونون واعين طبقياً في سلوكهم، لكن سلوكهم مع ذلك يمكن أن يكون مشروطاً طبقياً. ومن البديهي أن تماثلاً معيناً في الوضع الاقتصادي لمجموعة ما يخلق - رغم الفروقات بين أفراد المجموعة في جوانب أخرى - تماثلاً معيناً في المصالح والميول، حتى لو كان هذا التماثل خفياً على مداركهم.
زد على هذا، أن لمن الضروري التمييز بين الشعور أو الوعي الطبقي الفعال والشعور أو الوعي الطبقي السلبي: ففي العراق الملكي، مثلاً، كان الفلاح المحروم من الأرض يعي، حتى في أنأى المناطق والمعزولة من التأثيرات الإيديولوجية الجديدة، تلك الفجوة الاقتصادية والاجتماعية التي تفصله عن الشيخ الملّاك، ويدرك، على سبيل المثال، أنه لا يمكن حتى أن يطمح في أن يتزوج ابنة الشيخ ، ورغم انه قد لا يعي الصلة المشتركة التي تجمعه بفلاحي اقطاعية اخرى أو منطقة أخرى، فإنه يفهم حقيقة أن الفلاحين الآخرين الذين يكدحون معه يشاركونه فقره، مع ذلك فقد كان هذا الفلاح، في غالب الأحوال، يرضخ لهذا الحال كقدر مكتوب، دون أن تحفزه أية رغبة أن يقلبه رأسا على عقب.
حتى الآن قد يبدو وكأنني لم أقدم تعريفاً يحدد الطبقة، بل تعريفاً يبددها. الواقع أنني كنت اسعى إلى التشديد على الواقع الموضوعي للطبقة، بما هو متميز عن واقعها الذاتي، أي واقع ما وصفه ماركس، بالتعبير الهيجلي، «الطبقة في ذاتها». وأن عملية تبلور الطبقة ورسوخها في كيان اجتماعي، مستقر نسبياً، بختوم محددة تحديداً صارماً، ووعي سياسي، أي تحولها الى «طبقة لذاتها» عملية بالغة التعقيد بالطبع، وتعتمد على ترابطات أوضاع ملموسة.
***
في ضوء الإيضاحات السالفة، ينبغي التوكيد بأن الطبقات في العراق هي، والى حد كبير، نتاج الربط التدريجي للبلاد، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، بسوق أمبريالي بريطاني، يقوم على الصناعة الكبرى. أما قبل ذلك، فأن الملكية الخاصة، بمعنى الاستيلاء الخاص على وسائل الإنتاج، كانت غائبة خارج مدن العراق والأراضي المجاورة لها، بل كانت غائبة حتى عن المدن ذات الأساس المهزوز. ولو استثنينا أملاك الوقف الذري، لوجدنا أن الملكية الخاصة كانت عرضة للمصادرة المتكررة: ففي بغداد العثمانية - المملوكية، أي بغداد في فترة 1749 - 1831 ، كانت مراكمة الممتلكات والثروات والمقتنيات - باستثناء ما تحوزه الأسر، ذات المكانة الدينية المرموقة - أمراً غير مأمون، نظراً لأن هذه الممتلكات والثروات كانت كفيلة بأن تستثير حسد وجشع الباشوات الحاكمين. وعليه لم تكن «الملكية» في تلك الفترة الأساس المهيمن للتراتب الاجتماعي. لقد كانت «الطبقات» موجودة، بلا مراء في المناطق الحضرية، ولكن في أشكال ابتدائية وفي هيئة بنى متوازية داخل الطوائف الدينية المعترف بها. زد على هذا لما كان العراق يتألف من رقاع متعددة و معزولة نسبياً، تضم عملياً دولا - مدينة واتحادات قبلية ذات استقلال ذاتي، فإن روابط «الطبقة» في المدن كانت تنزع في الأساس، إلى أن تغدو روابط محلية، لا روابط على نطاق البلد بأسره، باستثناء حالة بعض مقرضي النقود أو التجار، وبخاصة تجار الترانزيت، الذين كانوا ينشطون في أطر واسعة، وينعمون بصلات حضرية - قبلية، وصلات عربية، أو حتى صلات طبقية عالمية.
إذا كانت «الملكية» و«الطبقات» ظواهر ثانوية، فما هي الأسس أو الأشكال الأكثر حسماً للتراتب الاجتماعي في العراق المملوكي؟ إن السمات البنيوية لهذا العراق معقدة بعض الشيء بفعل تعدد مجتمعاته، وانعزالها الجغرافي عن بعضها البعض بصورة نسبية.
ورغم أن البنى الاجتماعية لمختلف المدن والمناطق كانت تمتاز بخصائص مشتركة، فإنها كانت تختلف باختلاف الوظائف التاريخية، أو الأحوال الطبيعية لهذه المدن والمناطق عينها. ومن البداهة القول أن الطابع الاجتماعي لمدينة سوق قبلي، مثل مدينة سوق الشيوخ، يختلف اختلافاً بيّناً عن الطابع الاجتماعي لمدينة من مدن العتبات الشيعية المقدسة، مثل النجف، مركز الزيارات الدينية، أو يختلف عن الطابع الاجتماعي لمدينة بغداد، التي بقيت ردحاً طويلاً من الزمن مركزاً أساسياً للحكم، ومركزاً تجارياً ذا أهمية عالمية.
وهكذا نجد في النجف أن سادن الحضرة العلوية الشريفة هو أغنى الناس، وهو أيضاً الحاكم المطلق، في حين أن السلطة في سوق الشيوخ تتركز بين يدي هذا التاجر المبرز أو ذاك، علماً أن التجار كانوا شيوخ قبائل، أو ينحدرون من عوائل شيوخ، أصابوا ثراء واسعاً من متاجرتهم بالسلع المنتزعة من القوافل.
ولا يمكن للبنى الاجتماعية، المحلية أو الجهوية (المناطقية) إلا أن تحمل بصمات عوامل طبيعية شتى، من مثل انغمار الأنحاء الوسطى والجنوبية من العراق بمياه الفيضان، وانعتاق شماله من هذا الغمر، في الوقت ذاته. ولهذا الأمر، في اعتقادي، صلة بانفتاح وليونة الحياة الاجتماعية في بغداد، بالقياس الى صرامتها وتزمتها في الموصل. وأن هذا العامل نفسه (غمر الفيضان)، زاد من حركية تنقل الشطر الأعظم من الزراع القبليين العرب، ولعب دوره في إنقاذهم من الأوضاع الشبيهة بالقنانة التي وقع فيها الفلاحون التقليديون في كردستان المعروفون بـ المساكين.
وعلى أية حال، فإن هناك مبادئ عدة للتراتب الاجتماعي تفعل فعلها في آن واحد في بغداد التي كانت حظوظها الاقتصادية تتطلب مع مد وجزر تجارة المرور (الترانزيت) عبر العراق وتقلبات نزاع حكامها مع القبائل المحيطة، حول المناطق المنتجة للمواد الغذائية على ضفاف دجلة والفرات.
هناك التراتب الهرمي للثروة، كما أن هناك علاوة على ذلك، التراتب الديني: المسلمون فوق المسيحيين، واليهود والصابئة. وهناك التراتب الطائفي السنة فوق الشيعة. وهناك التراتب الإثني: الكرج (الجورجيون) والترك فوق العرب والأكراد والفرس. وهناك تراتب القوة: الكرج الأحرار فوق الجميع. وهناك أيضاً تراتب الوجاهة أو المكانة بين مختلف الجماعات المهيمنة (Status)، حيث يقف الباشوات الكرج وكبار ضباطهم وكبار موظفيهم في القمة؛ ثم السادة، ثم قادة الطرق الصوفية وكبار «علماء» السنة وأغلبهم سادة أيضاً، ثم الجلبية، أي التجار ذوي المكانة الاجتماعية البارزة.
يعتمد موقع الجلبية على الثروة أساساً؛ أما موقع الكرج فيتوقف على احتكارهم لوسائل العنف وعلى روح تكاتفهم العالية كعبيد سابقين، وعلى امتياز تدريبهم العسكري أو الإداري ومعرفتهم الوثيقة بالأوضاع المحلية، وتحالفهم الغالب مع السادة ورؤساء الطرق الصوفية، وكبار علماء الدين، وتعتمد مكانة هؤلاء على نبالة المولد - كالقربى من الرسول محمد أو الانحدار من هذا الولي أو ذاك - وتكتسب هذه الجماعة شرعيتها من الدين، أو من التضلع بالشريعة. أما في درجة الأدنى من السلم فيقف صغار العلماء، وصغار التجار، والحرفيون.
وبالطبع فهناك درجة كبرى من التوافق بين كل هذه التراتبات. نعني أن الذين يقفون في قمة هرم السلطة كانوا يقفون أيضاً على القمة من ناحية الثروة، أو بالنسبة لغيرهم، على قمة هرم الجماعات الدينية أو الطائفية أو الإثنية أو قمة الوجهاء.
ولا بد لنا من أن نضيف الى ذلك، أن النزاع المستديم بين بغداد، من جهة، وهذا الاتحاد القبلي أو ذاك، من جهة أخرى، ثم الانقطاع المتكرر لتجارة المرور (الترانزيت)، والعلائق الخطرة المتأرجحة بين المماليك والسلطان العثماني، كانت السبب في نزع الاستقرار عن السلطة السياسية وعن الملكية سواء بسواء. فمثلاً، من بين تسعة باشوات مماليك نجد أن واحداً منهم قد أسقط، وستة آخرين قد أعدموا.
ولو التفتنا الى الريف، لوجدنا أن البنية القبلية تتوجه، في الأساس، لأداء دور عسكري. وقد حدّد هكذا الواقع طبيعة التراتب القبلي القائم، الى درجة كبيرة. وهكذا نجد أن عرب البوادي المحاربين، المترحلين، والمنتزعين للأتاوات، أي ما يعرف بأهل الإبل، بسطوا على الشاوية (مربي الأغنام) وعلى المعدان (سكنة الأهوار) والفلاليح، سيطرتهم التامة، ونظروا إليهم بازدراء، رافضين أي تصاهر معهم. وكانت جماعة الوجهاء المبرزين مثل شيوخ المشايخ (أي رؤساء الاتحادات القبلية الكبرى) والشيوخ (زعماء العشائر المحاربة المنضوية تحت لواء الاتحاد القبلي) ينحدرون، في العادة، من أهل الإبل المحاربين هؤلاء.
أما في كردستان العراق الجبلية، فإن البيكات والأغوات القبليين، المتحدرين من فرسان البدو هو النظير الكردي لشيوخ المشايخ، وقد فرضوا سيطرتهم على الفلاحين الكرد اللاقبليين.
لقد ارتكز موقع كل هذه الزمر البارزة، المتسيدة، بالأساس على التفوق في أسباب القوة، أي السطوة العسكرية، كما ارتكز على الحقوق المكتسبة بالولادة، وعلى النسب، وأيضاً على الأعراف القبلية الموغلة في القدم، وأن يكن العرف هنا منظوراً إليه في حدود البسطاء من أبناء القبائل، وليس بالضرورة من زاوية القبائل الخاضعة.
وقد وجد هذا التراتب الاجتماعي، وقتذاك كما في الفترة اللاحقة، تسويغه الإيديولوجي في القرآن الكريم، حيث تنص الآية (32) من سورة الزخرف «نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِياً» وتضيف الآية (11) من سورة النحل: «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ».
ويمكن لنا أن نستنبط مقدار الأهمية التي أعطتها الشريعة للملكية (أو الرزق) من واقع أن الشريعة نصت على وجوب الحفاظ على خمسة أمور، بينها الملكية، وهي «الدين والنفس والعرض، والنسل والمال». وعزز مبدأ «الكفاءة» الذي ثبتته الشريعة التراتب الطبقي، ويقصد بـ«الكفاءة» هنا التكافؤ أو التناسب في الزواج، فالزوج، مثلاً، لا يمكن، مبدءاً، أن يكون أدنى من زوجته بحكم المولد أو المهنة أو الثروة، حتى لا تصاب المنزلة الاجتماعية لوالد المرأة أو أسرتها بأي زلل. هناك عامل آخر يتعلق بالتراتب الاجتماعي وهو أن العرب شعب يتمسك، أو كان يتمسك بقضية النسب. فالحضريون منهم، مثلاً، يعتبرون المنحدر الشريف على وجه الخصوص ذا أهمية كبرى.
من هنا حرص كثرة من عوائل الوجهاء الحضر على أن تنسب نفسها إما إلى بيت الرسول الكريم، أو الى أحد القادة المحاربين البارزين من زمن الفتوح العربية، مثل خالد بن الوليد، أو أن تنسب نفسها إلى ولي من الأولياء الطاهرين، أو الى قبيلة من القبائل المهيبة.
ولا يمكن لنا، في هذا المبحث الوجيز، أن نتعقب بالتفصيل تأثيرات التحول التدريجي للعراق خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الى ملحق للنظام الرأسمالي الصناعي (وهو عامل حاسم في هذا المبحث) وما نجم عن هذا التحول من وقائع وعمليات، وبخاصة تأثيرات هذا التحول على المعايير والبنى القائمة في العراق قبلئذ. فنحن نتناول هذا الجانب في خطوطه العامة، المجردة مقتصرين على تأثيره المحدد على تشكل وبروز الطبقات الاجتماعية.
ولعل التغير الأهم في هذا المضمار هو استقرار وتوسع الملكية الخاصة، ثم تمركزها الشديد آخر المطاف. ففي عام 1958، كان هناك 2480 فرداً يملكون 17٫7 مليون دونم، وكانت هناك 49 عائلة، تؤلف صميم طبقة ملاك الأرض، تملك وحدها 5,4 مليون دونم، وتشكل هذه الأملاك 55,1% و 16,8% من مجموع الأراضي الزراعية المملوكة ملكاً خاصاً. وكان نحو أربعة أخماس العوائل في العراق، آنذاك، عديمة الملكية.
وينبع تطور الملكية الخاصة وتركزها في جانب من واقع أن الفلاحة القبلية، التي كانت محلية أساساً، أو تقوم على اقتصاد معيشة الكفاف، أو أنها كانت ملحقة بالإنتاج الرعوي، أخلت مكانها للزراعة المستقرة الموجهة للسوق. وهناك عوامل أخرى أسهمت في تطور وتركيز الملكية الخاصة، منها تزايد دور النقود، ونشوء المضاربة بالعقارات، واستيلاء الشيوخ والأغاوات، ممن كانوا في السابق محاربين على الأراضي المشاعية للقبيلة، وعلى أنحاء واسعة من أراضي الدولة (تسمى في العراق الأراضي الأميرية)، وذلك في الغالب من دون حق قانوني في الملك ومن دون دفع قرش واحد لقاءها؛ وتوطد الملكية على أسس قانونية أكثر رسوخاً، وذلك، أساساً، بفضل قوانين الأرض لعام 1858 وعام 1932، وينطوي هذا الواقع ضمناً على ترسيخ وتمركز سلطة الدولة بشكل متزايد؛ هذا علاوة على انتشار وسائل المواصلات، ونمو المدن، وشيوع الأفكار والتقنيات الأوربية، وحلول الصلات الإقليمية (الجهوية) محل الروابط القرابية واشتداد الترابط المتبادل بين مختلف أقسام المجتمع.
وغدت العلاقات بين العراقيين، بحكم الضرورة، أقل فأقل خضوعاً لصلات القرابة أو المكانة الدينية أو اعتبارات النسب، وأكثر فأكثر خضوعاً للممتلكات المادية. واكتسبت الملكية أهمية أعظم كأساس للتراتب الاجتماعي، وللتدرج في مقياس السلطة، رغم أن وضعية استقلال العراق الملكي ونفوذ بريطانيا المؤثر في الهيكل البنيوي، لم يسمحا للملكية المادية بأن تلعب كامل دورها في هذا الشأن.
وبالطبع فإن عناصر البنى الاجتماعية التقليدية، والقيم والمفاهيم المرافقة لها، لم تختف تماما، بل بقيت قائمة الى جانب عناصر البنى الجديدة ومرتكزات الذهنية الجديدة، وأن يكن بقاؤها هذا في شكل مخفف. الواقع، أن الزمرة (أو الجماعة) الواحدة ذاتها كانت تحمل سمات من البنى القديمة والبنى الجديدة بشكل متراكب. هكذا نجد أن الشيوخ الملاكين والسادة الملاكين، خلال الحكم الملكي، كانوا جزئيا، جماعة وجهاء تعتمد في مكانتها على الأعراق الموروثة أو المكانة الدينية، من جانب، مثلما كانوا جزئيا، طبقة اجتماعية، من جهة أخرى. وكان تحول هؤلاء من جماعة وجهاء الى طبقة اجتماعية بطيئا وملتويا. ولكن بحلول الخمسينيات غدت معايير الملكية أقوى من معايير المكانة التقليدية في تحديد الموقع الاجتماعي لهذه الزمر.
هناك نقطة أخرى ذات صلة بالموضوع تستدعي توكيدا خاصا. خلال العقود الأولى من العهد الملكي - أي خلال العشرينيات والثلاثينيات - كانت مختلف الزمر المؤلفة لطبقة ملاك الأرض المهيمنة اجتماعيا (ونعني بها الملاك السادة القبليين والحضريين، والشيوخ والأغاوات الملاكين، والموظفين «الارستقراطيين الملاكين»، والضباط الشريفيين السابقين الملاكين) ينافسون بعضهم بعضا على السلطة والنفوذ والأملاك. أما خلال العقدين الأخيرين من العهد الملكي - أي في الأربعينيات والخمسينيات - فأن هذه الزمر نفسها وحدت صفوفها، وأدركت مصالحها المشتركة في القضايا الحاسمة، من قبيل اعفاء طبقتهم (طبقة ملاك الأرض) من الضرائب، والاقصاء العملي للطبقات الأخرى من المناصب الهامة في الدولة، ثم، وهذا هو الأهم، الدفاع عن النظام الاجتماعي الذي كان ينفعهم جميعا. وتمثلت الآليات التي أتاحت تنسيق أفعالهم في مجلس الوزراء، وفي البرلمان، الذي سيطروا عليه سيطرة حاسمة لفترة من الزمن، وفي حزب الاتحاد الدستوري، الذي كان المعبر التنظيمي الأوضح عن مصالحهم المشتركة وقتذاك.
ومن الواضح أن كبار ملاك الأرض كانوا ما يزالون، خلال العشرينيات والثلاثينيات، طبقة جنينية، أو «طبقة في ذاتها»، حسب تعبير ماركس، أو مجرد «أساس ممكن للعمل الجماعي» حسب تعبير ماكس فيبر؛ أما في الأربعينيات والخمسينيات فقد تحولوا بلا مراء الى «طبقة لذاتها»، أي الى مجموعة متميزة، واعية لنفسها سياسيا.
وكان المحفز على وحدة هؤلاء هو تصاعد خطر الطبقات المتمردة المهدد لموقعهم الاجتماعي. وكانت هذه الطبقات المتمردة، خلافا لكبار الملاك، تعاني من عواقب ارتباط العراق بسوق عالمي يقوم على الصناعة الكبرى، أي تعاني من انهيار أو تمزق الاقتصادات المحلية القديمة، التي كانت قائمة على الزراعة القبلية التقليدية أو الحرف التقليدية، أو صناعة القوارب القديمة، أو وسائل النقل القديمة (الجمال والسفن الشراعية).
وتمتد جذور كل أحزاب وحركات المعارضة الهامة، بمن في ذلك الشيوعيون والضباط الأحرار وحزب البعث، في هذه التغيرات والتمزقات البنيوية وغير ذلك مما يتصل بها. ونبعت من هذه المصادر عينها، تيارات التمرد التي كانت وثبة 1948 وثورة تموز 1958 أقوى تعبيراتها قاطبة.
فالحزب الوطني، الذي وقف موقف المعارضة الدائبة للنفوذ الإنجليزي خلال العقد الأول من العهد الملكي، يستمد جذوره العميقة من الحرفيين الذين فقدوا وسائل عيشهم التي اعتمدوها منذ زمان أسلافهم الموغلين في القدم، وذلك بسبب تدفق السلع الصناعية الإنجليزية المنتجة آليا. أما الشيوعيون في بغداد فقد وجدوا واحدة من أكبر وأرسخ قواعد تأييدهم خلال الأربعينيات في محلة باب الشيخ، مركز صناعة النسيج اليدوي، التي كانت مزدهرة ذات يوم. واستمد سلك الضباط وحزب البعث أكثر عناصرهم تمردا من كثرة من العوائل العربية الشمالية، التي انتقلت الى العاصمة، بعد أن انهارت حياتهم الاقتصادية التقليدية نتيجة العقبات الناجمة عن رسم الحدود الجديدة مع سوريا، أو إثر تدهور صناعاتهم التقليدية، مثل انتاج العباءات (الصوفية) في عانه، والأكلاك في تكريت. وأن جل الدعم الجماهيري الذي ناله الشيوعيون أيام الوثبة، أو خلال «المد» عام 1959، أو في أيام انقلاب شباط 1963 المريرة، جاء من «شروك» بغداد، نعني الفلاحين القبليين المهاجرين من لواء العمارة، الذين تدهور نمط معيشتهم بفعل العلاقات الزراعية الجديدة، واستخدام مضخات الري من جانب ملاك الكوت وبغداد استخداما غير مقيد. ونجد أيضا أن لا أقل من 32% من إجمالي عضوية اللجان المركزية للحزب الشيوعي خلال سنوات 1955 - 1963، كانوا من السادة الفقراء، أو من أبناء البلدات الإقليمية الصغيرة، التي تدهورت اقتصاداتها القديمة بفعل القوى الناجمة عن خضوع العراق للسوق العالمي.
تشير هذه الوقائع كلها، دون أي لبس الى الجوانب البنيوية أو الطبقية للنشاط السياسي المعارض أو الثوري في العراق.
***
هل يمكن لنا النظر إلى أنظمة الحكم التي أعقبت النظام الملكي وفهمها بمعايير طبقية؟
ينبغي أن نشير، في الحال، الى أن من بين عواقب ثورة 1958 الارتفاع الملحوظ في الوزن العددي للطبقات الوسطى. فخلال العقدين المنتهيين عام 1968، نما سكان مدن المنتمون الى هذه الطبقات الى ضعف ما كانوا عليه. ويبدو أن أفراد هذه الطبقات ومن يعيلونهم زادوا من 739,000 الى 1,676,000 ، رغم أن المعطيات المعتمدة ناقصة جزئيا، أو ليست دقيقة دقة كافية. وهناك كل ما يؤكد على استمرار ميل الاتساع هذا خلال السبعينيات.
وأقصد بـ«الطبقات الوسطى» ذلك الجزء المكون من المجتمع الذي يتميز بتعددية وظائفه ولكنه يتميز باشتراكه في وضعية وسيطة، أي أنه يحتل موقفا وسطا بين معدومي الملكية وكبار المالكين، ويضم هذا الجزء عناصر عديدة بينها ضباط الجيش والموظفون، وأصحاب المهن، والتجار والباعة وملاك الأرض.
هل اقترن التوسع العددي للطبقات الوسطى بأية زيادة في ثقلها الاجتماعي والسياسي؟
يجوز لنا القول، عن حق، أن الصورة الفعلية معقدة بعض الشيء، وأن أنظمة الحكم التي جاءت نتيجة ثورة 1958 والانقلابات العسكرية التي تلتها، بما في ذلك النظام الحالي، هي نظم طبقة وسطى، ولكن ليس بالمعنى الضيق القائل أنها عملت صراحة باسم الطبقات الوسطى، أو أنها خدمت بوعي مصالح هذه الطبقات الوسطى. بأي معنى إذن يمكن تسويغ القول بأنها نظم طبقة وسطى؟ لا بد في هذا الشأن من إيراد عدد من النقاط.
أولاً، أن عبد الكريم قاسم، والأخوين عارف، وغالبية أعضاء اللجنة العليا للضباط الأحرار، واللجنة الاحتياطية للضباط الأحرار، ولجنة القادة العسكريين لعام 1958، ومختلف قيادات حزب البعث، ومجالس قيادة الثورة لعام 1963 وأعوام 1968- 1977 ، ينتمون الى عوائل متوسطة أو متدنية الدخل.
ثانياً، منذ ثورة تموز وحتى اليوم، نجد أن أبناء الفئات الوسطى لم يكتفوا باحتلال مواقع نواتات الدولة الممسكة في المبادرة والقرار، بل إنهم بسطوا ما يشبه الاحتكار على المواقع العليا والوسطى في أجهزتها الإدارية.
ويمكن إدراك المعنى الحقيقي لهذه الوقائع حين نتذكر أن تقويض مرتكزات الملكية الخاصة الكبيرة والاستقلالية المالية الفعلية للدول عن المجتمع بفضل تدفق عائدات نفط ضخمة، تراجعت أهمية علاقة الأفراد والفئات بالملكية، بينما ازدادت أهمية السيطرة على جهاز الحكومة، فأصبح الإمساك بهذا الجهاز هو المحدد الأكثر حسما للفعل الاجتماعي، قياسا الى ما مضى.
ثالثاً، أن الظروف التي ولدتها ثورة تموز والانقلابات اللاحقة، كانت الأكثر مواءمة لنمو الطبقة الوسطى. والحق أن مصالح الطبقة الوسطى تتغلغل في الدولة بدرجة أعظم من مصالح أي عنصر آخر في المجتمع. صحيح أن المعطيات الإحصائية المتاحة ليست بالدقة التي نتمناها، ولكن يصعب مع ذلك ألا نفسرها باعتبارها تنبئ بتحول ملحوظ في المداخيل في المدن، منذ 1948، على حساب الأعمال الكبرى والملكيات الكبرى، ولحساب الطبقة الوسطى المعتمدة على الراتب، وأيضا، وإن يكن بدرجة أقل، لحساب أصحاب الأجور. الواقع إن مداخيل شغيلة المدن قد ارتفعت منذ 1958 بسرعة أكبر من ارتفاع الأسعار، وأنهم باتوا يشاركون منذ 1964 بأرباح المؤسسات الكبرى، وأن شغيلة القطاع العام والمؤسسات الحكومية حصلوا في العام 1974 على أكبر زيادة قياسية في الأجر اليومي مقدارها 200 فلس، وأن الحد الأدنى للأجر اليومي عام 1977 بلغ 1100 فلس. والحق أيضا أن العدد الأكبر من العمال يعيشون الآن (1977) حياة أفضل، وينعمون بلباس أفضل، وبحماية مالية أفضل إزاء حالات المرض والبطالة. وعلى الغرار نفسه كانت الفئات المعتمدة على الراتب من الطبقة الوسطى، هي المستفيد الرئيسي من توسيع خدمات الدولة في التعليم والصحة، وخفض إيجارات السكن بنسبة 32,5% بموجب قوانين 1958 و1963 و1977، علاوة على منح الأراضي الحكومية مجانا لأجل السكن لكل المواطنين من أصحاب العوائل والدخل المحدود، وذلك بموجب قانون صادر عام 1963. أما القسم المعتمد على الأعمال من الطبقة الوسطى فقد شق طريقه قدما هو الآخر: فقد استفاد صغار أصحاب المهن والتجار من تعاظم التسهيلات في أمور عملهم ومن القروض المصرفية، وخفض إيجارات المحلات بنسبة 37%. غير أن القسم العسكري من الطبقة الوسطى ازدهر ازدهارا أعظم بوجه خاص، وهو ما نتبينه من ارتفاع «الرواتب والعلاوات» للقوات المسلحة بستة أضعاف تقريبا منذ ثورة تموز، كما نتبينه من واقع أن تناسب الدخل بين راتب أدنى جندي متطوع وراتب أعلى ضابط هو كنسبة 13:1، في حين أن التناسب بين راتب أدنى جندي مكلف (ويشكل الجنود المكلفون جل عناصر الجيش) وراتب أعلى ضابط هو 46:1، آخذين في الحسبان ارتفاع تكاليف العيش، ولكن دون أن نأخذ في الحساب المساكن الممنوحة للضباط، والملابس الموفرة لهم، والعلاوات المدفوعة لخدمهم، أو العلاوات الإضافية الممنوحة لكبار القادة العسكريين.
ثالثاً، أن الظروف التي ولدتها ثورة تموز والانقلابات اللاحقة، كانت الأكثر مواءمة لنمو الطبقة الوسطى. والحق أن مصالح الطبقة الوسطى تتغلغل في الدولة بدرجة أعظم من مصالح أي عنصر آخر في المجتمع. صحيح أن المعطيات الإحصائية المتاحة ليست بالدقة التي نتمناها، ولكن يصعب مع ذلك ألا نفسرها باعتبارها تنبئ بتحول ملحوظ في المداخيل في المدن، منذ 1948، على حساب الأعمال الكبرى والملكيات الكبرى، ولحساب الطبقة الوسطى المعتمدة على الراتب، وأيضا، وإن يكن بدرجة أقل، لحساب أصحاب الأجور. الواقع إن مداخيل شغيلة المدن قد ارتفعت منذ 1958 بسرعة أكبر من ارتفاع الأسعار، وأنهم باتوا يشاركون منذ 1964 بأرباح المؤسسات الكبرى، وأن شغيلة القطاع العام والمؤسسات الحكومية حصلوا في العام 1974 على أكبر زيادة قياسية في الأجر اليومي مقدارها 200 فلس، وأن الحد الأدنى للأجر اليومي عام 1977 بلغ 1100 فلس. والحق أيضا أن العدد الأكبر من العمال يعيشون الآن (1977) حياة أفضل، وينعمون بلباس أفضل، وبحماية مالية أفضل إزاء حالات المرض والبطالة. وعلى الغرار نفسه كانت الفئات المعتمدة على الراتب من الطبقة الوسطى، هي المستفيد الرئيسي من توسيع خدمات الدولة في التعليم والصحة، وخفض إيجارات السكن بنسبة 32,5% بموجب قوانين 1958 و1963 و1977، علاوة على منح الأراضي الحكومية مجانا لأجل السكن لكل المواطنين من أصحاب العوائل والدخل المحدود، وذلك بموجب قانون صادر عام 1963. أما القسم المعتمد على الأعمال من الطبقة الوسطى فقد شق طريقه قدما هو الآخر: فقد استفاد صغار أصحاب المهن والتجار من تعاظم التسهيلات في أمور عملهم ومن القروض المصرفية، وخفض إيجارات المحلات بنسبة 37%. غير أن القسم العسكري من الطبقة الوسطى ازدهر ازدهارا أعظم بوجه خاص، وهو ما نتبينه من ارتفاع «الرواتب والعلاوات» للقوات المسلحة بستة أضعاف تقريبا منذ ثورة تموز، كما نتبينه من واقع أن تناسب الدخل بين راتب أدنى جندي متطوع وراتب أعلى ضابط هو كنسبة 13:1، في حين أن التناسب بين راتب أدنى جندي مكلف (ويشكل الجنود المكلفون جل عناصر الجيش) وراتب أعلى ضابط هو 46:1، آخذين في الحسبان ارتفاع تكاليف العيش، ولكن دون أن نأخذ في الحساب المساكن الممنوحة للضباط، والملابس الموفرة لهم، والعلاوات المدفوعة لخدمهم، أو العلاوات الإضافية الممنوحة لكبار القادة العسكريين.
هل يمكن لنا أن نستخلص، بناء على ما تقدم، أن الطبقات الوسطى، بما هي عليه، تمارس منذ 1958 النفوذ الحاسم في البلاد؟
إن الطبقات الوسطى، كما أسلفنا، ليست متجانسة من الناحية المهنية، بل تتألف من عناصر متنوعة تقوم بوظائف متباينة. ولكن ليس من المفيد بشيء أن نغالي في هذه النقطة، أو أن نستخلص، في إطار العراق على الأقل، تمايزا جامدا بين أصحاب المهن والبيروقراطيين من الطبقة الوسطى، من جانب، وصغار التجار والملاكين من جانب، أو بين الجزء المدني والجزء العسكري من الطبقة الوسطى. فإجراء ذلك يؤدي الى إغفال واقع أن الكثير من الموظفين وضباط الجيش هم أيضا مالكون. كما أن ذلك يعني النظر الى مختلف عناصر الطبقة الوسطى بمعزل عن الترابطات الحية للأواصر الاجتماعية، أي فقدان الرؤية لترابطات عديدة من قبيل الشراكات والصلات غير الرسمية بين البيروقراطيين والتجار، أو الروابط بين الموظفين والضباط من جانب، والتجار أو الملاكين من جانب آخر، عبر العائلة أو الأسرة الكبيرة. الواقع أن هذه الصلات هي الآن أقوى مما كانت عليه في السابق يوم كانت الهيمنة على جهاز الدولة بيد السنة والتجارة في بغداد - والبصرة أيضا دون الموصل - بيد الشيعة. وإن القوة التجارية للشيعة في الوقت الحاضر لم تعد راسخة أو بينة، ولعلهم حصلوا على موطئ قدم أقوى وسط المراتب الدنيا والمتوسطة من البيروقراطية.
وعلى حين أن من الخطأ التشديد بدرجة أكبر من اللزوم على ثنوية السنة - الشيعة كعامل انقسام في صفوف الطبقة الوسطى، فإن الثنوية ما تزال ناشطة بلا شك، وبخاصة حين تتوافق مع تباينات جهوية، أو حين تتعزز بروح الفئوية المحلية.
والحقيقة، أن ضعف ميل الطبقات الوسطى لإنماء مشاعر مشتركة، أو الانخراط في فعل مشترك يمكن أن يعزى إلى بقاء الولاءات وأنماط التفكير القديمة، أكثر مما يعزى إلى التنافر المهني.
إن انعدام التماسك بين عناصر الطبقة الوسطى، مقرونا بواقع بقاء غالبية العراقيين خارج دائرة الفعل السياسي (باستثناء لحظات وجيزة وأن تكن هامة تاريخيا) قد أتاحت مرارا وباستمرار لعدد من الأفراد والزمر أن تحكم البلاد منذ 1958 رغم ضيق قاعدة نفوذها.
وقد كان هؤلاء الأفراد والزمر، على الأغلب، ضباطا أو مجموعات ضباط، ولكن لا يترتب على ذلك بالضرورة، أن أنظمة الحكم التي أقاموها كانت أنظمة ضباط، أو أن الضباط تصرفوا بصورة مستقلة ذاتيا، أو أن أفعالهم تفتقر الى اي طابع طبقي.
ولعل أقل الأنظمة سهولة في التعريف هو نظام حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، الذي تبوأ سدة الحكم في البلاد من 1958 حتى شباط 1963. فالزعيم يختلف عن جل ضباط الطبقة الوسطى، في أنه لم يكن ينحدر من البلدات البعيدة، العربية السنية، في الشمال الغربي، ولا كان مثلهم في تأثره بالنزعات العروبية: وكان من أبوين مختلفين مذهبيا، فأبوه شغيل نجارة سني تحول الى مزارع صغير، من بلدة الصويرة وأمه شيعية. وعليه - وابتغاء تبسيط وضع متشابك - لم يكن بوسع الزعيم أن يعتمد على نيل الدعم من ضباط شمال غرب العراق، وقد فعل ما بوسعه ليوازن ثقلهم وثقل الأحزاب السياسية المماثلة لهم في الأفكار، بزج قوى الشيوعيين، الذين يتمتعون بجذور في الطبقة العاملة ووسط نواب الضباط وضباط الصف والجنود العاديين. وقد ساد بفعل مضايقة أو تشجيع هذا الطرف تارة أو ذاك تارة أخرى، تبعا لمتطلبات اللحظة، معتمدا في المقام الأول على لوائه، اللواء التاسع عشر، ومستفيدا من التعاطف العام معه وسط فقراء الشيعة. في الوقت ذاته انتهج في سياساته الاجتماعية سياسة وسطى لا لبس فيها.
واستمد نظام عبد السلام وعبد الرحمن، ولدي عارف تاجر الأجواخ (خلال الفترة تشرين الثاني 1963 - تموز 1968) استمد قوته جزئيا - ولبعض الوقت - من صلاته بجمال عبد الناصر والناصريين العراقيين، إلا أنه استمد قوته بالأساس من الحرس الجمهوري، الذي وازن الوحدات العسكرية الأخرى، مثلما استمدها من دعم مجموعة ضباط من المحافظة العربية السنية، في الشمال الغربي، محافظة الدليم (الأنبار حاليا)، وهي مسقط رأسه.
كان الحرس الجمهوري في الأساس هو اللواء العشرون لعبد السلام عارف، ولكنه تحول ليصبح أكثر قوة عسكرية ضاربة في الجيش، وليغدو مرتعا للضباط المنحدرين من الجُمِيلات، عشيرة الأخوين عارف، وتنتمي الى نفس العشيرة شخصيات نافذة، في مواقع حساسة، منها قائد حامية بغداد، ومساعد مدير - في الحقيقة المدير الفعلي - للاستخبارات العسكرية. وباختصار فإن نظام عارف جند في خدمته ولاءات قبلية، وجهوية، وطائفية ومهنية وقومية. زد على هذا أن هذا النظام سعى لتصفية الملكيات التجارية والمالية والصناعية الكبرى، وفتح باب المشاركة في الأرباح للعمال والمستخدمين، إلى أن يكسب لصفه المشاعر الطبقية التي تجعلها أكثر العناصر غزارة عددية ووعيا اجتماعيا غير أن تصفية الملكيات الكبرى كانت مدفوعة، أيضا، في جانب منها، بالرغبة في السير في ركاب عبد الناصر.
وإن اعتماد نظام حكم البعث الحالي على الروابط المحلية أشد وأقوى، رغم أنه استخدم الأسلحة التنظيمية الحديثة، أي تكنيك التعبئة الجماهيرية، بفعالية أشد من أي حاكم عراقي سابق (باستثناء عبد الكريم قاسم). إن نفوذ المرتبطين بتكريت - أي المرتبطين بالبلدة العربية، السنية، الصناعية السابقة - تكريت - سواء في الجيش أو الحكومة أو الحزب قوي بدرجة لا تخطئها العين. كما أن الروابط العشائرية والعائلية قائمة هي الأخرى: فمثلا أن الرئيس أحمد حسن البكر، ونائب رئيس مجلس قيادة الثورة صدام حسين، الذي هو أيضا رجل القمة الفعلي في إدارة الشؤون اليومية؛ ووزير الدفاع عدنان خير الله طلفاح، والرجل القوي في أجهزة الأمن والمخابرات برزان إبراهيم، لا يقتصرون على الانحدار المشترك من تكريت فحسب، بل ينتسبون الى عشيرة واحدة هي البو ناصر. زد على هذا أن صدام حسين هو الأخ غير الشقيق لبرزان، وابن عمة وزوج أخت عدنان طلفاح، وهذا بدوره صهر (زوج ابنة) الرئيس البكر.
لم تكن هذه العوامل (المحلية والقرابية) ذات أثر ملحوظ في نظام حكم البعث (شباط - تشرين الثاني) 1963 ، فقد كان تركيب الحزب وقتذاك مختلفا تماما، ويضم في قيادته، كما في «أعضائه الناشطين» أيضا، غالبية شيعية. ولقد كان التدهور اللاحق لنفوذ الشيعة في صفوف حزب البعث يرجع الى ظروف طارئة، والى الفعل الطبيعي للعلائق المحلية، أكثر مما يرجع الى سياسة حزبية مرسومة عن قصد. وبالطبع فإن نظام البعث الحالي لم يحصر اعتماده على قوة عصبوية التكارتة أو عصبوية البو ناصر. فقد عمل هذا النظام على بناء حزب البعث، وتوابعه كدروع واقية للحكومة، وتحويله الى مؤسسات لتنظيم وتعبئة الرضاء الجماهيري وتوجيه التغير الاجتماعي، مثلما عمل على مد الجسور مع القوى السياسية الأخرى. من هنا تحالفه مع الحزب الديمقراطي الكردستاني خلال عامي 1970 - 1971، ومع الحزب الشيوعي من عام 1972 وحتى الوقت الحاضر (1977 - وقت كتابة البحث).
وإذا ما كان تكاتف الزمر الحاكمة المتعاقبة، منذ تشرين الثاني 1963 على الأقل، قد عبر عن نفسه بصورة متكررة - وإن تكن غير حصرية - في أشكال محلية، طائفية، قبلية أو شبه قبلية، فلا ينبغي أن ننسى أن هذه الزمر الحاكمة، والأفراد المنتمين إليها، كانوا ينحدرون من الطبقات الوسطى، وينزعون، من بعض النواحي، الى النظر الى الحياة من زوايا متشابهة، ويعالجون الكثير من القضايا بأسلوب مماثل. ولما كان الحال على هذا النحو، ولما كانت هذه الزمر الحاكمة، أيضا، لا تستطيع سن قوانين خاصة بل قوانين عامة*، فإن الإجراءات الحكومية التي اتخذتها أفادت، بصورة تلقائية، الطبقات التي تعيش أوضاعا مماثلة لأوضاع هذه الزمر، أي الطبقات الوسطى، رغم أن هذه الزمر كانت تتصرف لحسابها الخاص. ولكن لا يسعنا الالتفاف على حقيقة وواقع أن عوائل الطبقات الوسطى الأكثر استفادة من الروابط غير الرسمية مع النظام الحاكم، هي تلك العوائل الوسطى العربية القاطنة في البلدات الطرفية للشمال الغربي من البلاد، أو النازحة من هذه البلدات الى بغداد؛ أي العوائل التي شكلت، منذ عام 1963، المنبع الأساسي الانحدار صانعي القرار، أو الماسكين بمواقع المسؤولية في الحكومة والإدارة، وجهاز حزب البعث.
وتنشأ من هذه العوائل في الوقت الحاضر طبقة جديدة، تتميز ذاتيا. الواقع، يصعب قول شيء أكثر تحديدا سواء عن صعود هذه الطبقة العليا، أو عن القضايا السالفة ذات الصلة بالموضوع، نظرا لأن العراق يمر بعملية تحول بنيوي ما تزال جارية.
إضافة لاحقة
منذ منتصف السبعينيات، تمكنت الطبقة العليا، كما أشرت في هذه الفقرة الأخيرة من مقالتي هذه، إلى أن تتميز ذاتيا عن عوائل الطبقة الوسطى المستفيدة سياسيا. زد على هذا، أن أثرياء رأسماليين قد برزوا من صفوف هذه العوائل وغيرها، كطبقة رأسمالية جديدة، طفيلية. وتضرب هذه الطبقة بعضا من جذورها في الزمرة التي يسميها النظام الحالي «وكلاء القطاع التجاري الاشتراكي»، وهي زمرة نمت من 24361 شخصا عام 1970 الى 126542 عام 1981*. إن نواة هذه الطبقة الجديدة هي كبار المقاولين الحكوميين، الذين يتميزون بأقوى نازع شخصي للتراكم.
وما تزال الروابط العشائرية والعائلية شديدة الفاعلية وسط الشرائح العليا للنظام الحاكم.
وهكذا أن نجد أن المتحدرين من تكريت ومن البو ناصر يضمون، إضافة إلى الرئيس ووزير الدفاع كلا من: علي حسن المجيد (مدير الأمن العام) فاضل البراك (مدير المخابرات العامة) الفريق حميد شعبان (قائد القوة الجوية)، الفريق ماهر الرشيد (قائد الفيلق الثالث)، الفريق ثابت سلطان (قائد الفيلق الرابع)، إضافة إلى آخرين.
* الخاص هنا بمعنى الجزئي، المتعلق بزمرة، أو جماعة محلية ضيقة، قرابية أو جهوية أو عشائرية. والعام بمعنى القانون الساري على عموم المجال الاجتماعي للدولة القومية الحديثة.
* التقرير القطري لحزب البعث المؤتمر القطري التاسع حزيران 1982، ص 145.
نشر هذا المقال عام 1977 في كتاب صدر بالانجليزية بعنوان: المجتمع العربي، القاهرة، مطبعة الجامعة الأميركية.
نشرت في الثقافة الجديدة، العدد 298/ تشرين الثاني 2001