
أبدأ من مشهد تلفزيوني:
الرئيس صدام حسين جالساً على كرسي مذهّب من طراز لويس السادس عشر وأمامه على مسافة أقل قليلاً من المسافة بين نوابه ووزرائه، صفوف من الادباء، بعضهم شاب شعره في عهد البعث والبعض الآخر فتح عينه وتعلم الكتابة تحت حكم الحزب الواحد والقائد الواحد. الرئيس لديه فكرة. وتتفرخ أفكار الرئيس من ذاته، من التأمل، كما الأحلام، ولذلك يحتاج الأدباء بالتحديد، لأنهم الأقدر على فهم التأمل وبلورته. لم يكن هذا اللقاء الوحيد للرئيس بالكتّاب. ففي فترة لا تزيد على الشهر (شباط الماضي) كان قد التقى الكتّاب البعثيين ومكتب الثقافة في الحزب. لهجة الرئيس هذه المرة هي مزيج من الود والحزم:
ما هي الأسباب التي تمنع مبدعي الشعب العراقي من تأرخة ملحمتهم البطولية في اطار ثقافة تاريخية بعيدة نسبياً عن الفكر النظري والستراتيجي وقريبة من الشارع والجمهور؟
السؤال ينطوي على اقرار ضمني بأن الفكر النظري والستراتيجي الذي كان وراء حربين أو كان الغطاء العقائدي لهما، لم يقنع الشارع والجمهور بما آلت اليه الأمور، ولذلك مطلوب من الادباء بما يملكونه من قدرة على التأثير من خلال الكلمة والصورة، أن يردموا هذه الفجوة. ودون أن يدري اعترف صدام للأدباء بسلطة ما، لا تتوافر للسياسي الذي يقود الدولة حتى لو توفرت له القدرة على التفكير النظري والستراتيجي. فالأديب وفق هذه الفرضية معني بأسئلة الوجود، في حين ان السياسي معني بالأسئلة التي تتعلق بتطبيقات الواقع، وزمن السياسي فيزيائي مباشر، يتعامل مع الحقائق الجزئية، ويصل الى هدفه بالقطعة، في حين ان زمن الكاتب تاريخي يتصل بالحقيقة الكلية.
سلطتان
ليست هذه الفرضية ابتكاراً خالصاً للقائد، فقد ولدت مع ولادة الدولة العراقية. فالملك فيصل الاول القادم من الجزيرة ثم دمشق افتقر الى جذور ملكية في التربة العراقية الصعبة، وقد جمعه مع المثقفين مشروع واحد هو بناء الدولة الحديثة، في مواجهة الحملة الطائفية التي شنها رجال الدين الشيعة، ولمواجهة ضغوط شيوخ القبائل الذين اصطفوا مع سلطات الانتداب ضد مشروع الملك.
لذلك عين الكثير منهم في الوظائف العليا من الجهاز الاداري: الجواهري في تشريفات البلاط، فهمي المدرس عميداً لجامعة آل البيت، الرصافي مفتشاً عاماً في وزارة المعارف، حسين الرحال مترجماً في وزارة الدفاع وزميله محمود السيد سكرتيراً لمجلس النواب. ولم يواجه المثقف خلال العقدين الذهبيين تلك العقدة المستديمة بين ذاته المعارضة ووجوده في جهاز الدولة. الأسماء المذكورة شكلت أبرز رموز المعارضة في زمنها، وامتلكت سلطة معرفة منفصلة وأحياناً متعارضة مع سلطة الدولة.
وقد أدرك المثقف سلطته على الناس الذين ماعادت تكفيهم سلطة الملالي وبلاغة الجامع، وراحوا بعد ثورة العشرين وخلال الحرب العالمية الثانية يبحثون عن الأفندية، قراء الجرائد في المقاهي. ورغم شحة معارف هذا الافندي فإن أية معرفة عندما تصل الناس تثير أسئلة وتحرض وتدخل صلب علاقات الفرد بالجماعة وتتحول الى ممارسة اجتماعية، أي انها تتحول الى سلطة حين تدخل حيز التطبيق. ولكن الثقافة لا تستطيع ان تحقق مفعولها من خلال صومعة التأمل ولا من تجمعات المحلة، انما تحتاج الى أجهزة ومؤسسات، ومن يتحكم بهذه الأجهزة ليس المثقف نفسه.
حين كانت هناك نواة مجتمع مدني في العهد الملكي لم تكن السلطة متحكمة بكل أجهزة المعرفة. لديها قائمة من الممنوعات، لكنها لم تمتلك السلطة الايديولوجية التي تتيح لها التأثير على المثقف الذي يعمل في جهازها، ولذلك كان المثقف قادرا على الوصول لجمهوره من خارج هيمنة السلطة، وكان يمارس عمله الثقافي كهواية بلا مردود، في حين يعتمد على وظيفة مثل التعليم، وتأتي سلطته كمثقف من ثقافته، وليس من علاقته بجهاز الدولة، أي من شعور أكبر عدد من الناس بأن القصائد والقصص والأغاني التي ينتجها تعبر عن أحاسيس الناس الجماعية، التي لم يستطيعوا التعبير عنها.
حامل الرسالة
وطوال ذلك لم يفارق المثقف العراقي الشعور بأنه حامل رسالة اجتماعية للناس. وهذه الرسالة تجمعه مع السياسي ضمن مشروع واحد في بلد شهد انخراط أوسع عدد من المثقفين في العمل السياسي والحزبي. وشكل السجن والتعذيب جزءاً لازماً من سيرة ونتاج هذا المثقف الذي رأى الأهوال. ولكن رغم التضحيات الكبيرة التي قدمها المثقف العراقي لم تكن فكرة الديموقراطية والتسامح أولية في رسالته هذه. وقد بدّد وقتاً طويلاً وتضحيات كبيرة في الدعوة لأهداف اخرى: الاشتراكية، الوحدة العربية، رفع راية الاسلام، معاداة الامبريالية، ولم تكن الديمقراطية من مفرداته الأساسية رغم انها الطريق الأقل كلفة لتحقيق الاهداف السابقة، وقبل ذلك كونها الشرط الوحيد لممارسة مهنته، الكتابة. يطالب بها حين يكون الضحية ولا يريدها لخصمه. ويشارك المثقف السياسي في مقولة ان الديمقراطية مشروع مؤجل لما بعد تحرير فلسطين، وتحقيق الوحدة، ويقصرها احياناً على الطبقات الكادحة، بينما يعتبرها البعض بدعة كبيرة لا تنسجم مع التقاليد الاسلامية. وكثيراً ما تحول المثقف الى داعية عنف ضد خصومه. لنتذكر قصيدة الجواهري:
فضيق الحبل وأشدد من خناقهم فإن في بعض ارخائه ضرر
أو قصيدة البياتي:
إنا سنجعل من جماجمهم منافض للسجائر
أو قصيدة مظفر النواب:
جلد إقطاعي خيمتنا على اعظامج يارجعية
ولنتذكر بالمقابل ان استباحة دماء المثقفين اليساريين في السجون والشوارع استندت بالمقابل على فتاوى اصدرها بحقهم مثقفون متدينون اعتبروا الشيوعية كفرا والحادا.
لقد سرق صدام حسين والبعث هذا التوازي بين العنف وثقافته من تقاليد الشارع العراقي، وحَوَلَهُ الى سياسة رسمية للدولة.
مثقف السلطة
نردد دائماً عبارة موسومة لكورنك "كلما سمعت كلمة ثقافة امتدت يدي تلقائياً الى مسدسي". نستعمل هذه الجملة كناية عن عداء نظام فاش للثقافة. بينما الفاشية تفعل عكس ذلك تماماً. فالفاشية وهي فكرة مثقفين خذلتهم ثقافتهم، ترفع الثقافة عالياً فوق كل شيء، وفوق الحياة والعمل المادي، فهي بمثاليتها الصوفية تؤمن بأولوية الروح على الواقع وأسبقية الإرادة على الإمكانية وتريد أن تحل كل شيء بالأيديولوجيا النازلة من فوق، من الرأس، من النخبة المفكرة وفوقها القائد، إلى الجماهير التي تبلع، دون أن تهضم بغض النظر عن صلاحية الزمان ومدى قناعة الجماهير، الحساء المقدم لهم.
كتب هتلر: "التجليات الثقافية، لا الانجازات الاقتصادية تصنع تاريخ الأمم".
وكتب عفلق: "الروح هي الأصل في كل شيء، الدافع الروحي لا يسيطر على المادة فحسب، انما يخلقها".
ترفع الفاشية الثقافة لتستولي عليها مثل أي مجال حيوي. وقد وضعت السيطرة على الثقافة في أولويات أول مؤتمر قطري للبعث العراقي بعد وصوله للسلطة: "ليس مهمة ذات ضرورة حزبية فقط، بل وطنية أيضاً". والوسيلة الأسرع هي السيطرة على الثقافة قبل أن تتحول من ذات المبدع الثقافية الى الآخر (كتابة أو صورة أو اغنية)، وقبل ان تتحول الى مثل وأعراف، لا تستخدمها كقوة ضغط وتأثير على الواقع لصالحهم.
فالسيطرة التامة على المجتمع لا يمكن انجازها من خلال الجهاز الحزبي المحدد العدد والقدرات، ما لم تسنده اجهزة التوصيل الحديثة في بلد يشكل سكان المدن فيه أكثر من 60 بالمائة، ويدرس في الجامعات والمدارس 4 ملايين طالب يزدادون سنوياً بنسبة 14 بالمائة. وهنا ستحتاج الدولة الى المثقفين لتشغيل هذه الأجهزة وفق مشيئتها، وسيحتاج المثقف الى الدولة التي تملك كل وسائل اتصاله بالناس. فيستطيع المثقف ان يفصل وعيه ونتاجه الثقافي عن عمله الوظيفي في جهاز الدولة. قسم كبير من المثقفين يعملون مثل العمال الاجراء.. يحصلون على أقل القليل مقابل ما يقدمونه ويشعرون باستغلال الدولة التي يكرسونها. ولكن مع توسع جهاز الدولة الايديولوجي في أعقاب الفورة النفطية حدث تحول في الوضع الاجتماعي للمثقفين. استثمرت السلطة عائدات النفط الهائلة لتعويم كل شيء، وعملت بحكم آلياتها على إحداث تفاوت كبير في مستوى حياة المثقفين، فلم يعد انتساب المثقف للطبقة الوسطى وما دونها مسألة أزلية، انما ارتفع دخل بعضهم بسبب توظيف ثقافته لصالح السلطة الى ما فوق المتوسط، وعمل عدد منهم كمقاولين ثقافيين خارج جهاز السلطة. وللحفاظ على هذا المستوى الحياتي، اضطر المثقف للتنازل عن وجدانه الثقافي، أو جزء منه لترسيخ وتبرير النظام المعرفي للسلطة.
يبدأ تراجع المثقف بسبب الخوف من السلطة، ففي غياب البدائل يتحول القمع، عندما يتجرد من اسبابه، الى قدر، ويتحول اليأس الى ظاهرة اجتماعية ترتبط بالرغبة في السير مع الموجة العاتية. وسيسند هذا اليأس مستوى حياتي جديد ومصالح، بحيث يكون المثقف في النهاية خائفاً على السلطة بعد ان كان خائفاً منها. ويصبح أداة رقابة وتخويف بيد السلطة ضد زملائه ورفاقه السابقين.. يكتب التقارير عن المعاني المشاغبة والمتمردة في القصائد والقصص، يُخَوِن الادباء الصامتين خلال الحرب مع ايران، يمنع النتاجات التي لا توافق عقل السلطة. وقد شهدت الحرب مع ايران توظيفاً نموذجياً لثقافة المثقف كداعية حرب، مفتون بقسوة الجندي وحركة المجموعات خلال الهجوم والدفاع، وعلى أيدي ادباء (القادسية) انهارت القيمة الاعتبارية للكلمة، حين وضعوا في مقايسة جائزة مع دم الجندي على الجبهات، وحققوا خلال سنوات الحرب غزارة لم يشهد لها العراق مثيلاً في كمية النتاج الروائي وشعر المعركة وأغانيها. وتبنى هذا "الأدب" تبجيل الحرب، بغض النظر عن اسبابها ونتائجها الكارثية، كقيمة بذاتها باعتبارها اختبار لإرادة أمة ومدرسة أخلاقية للأجيال على نسق التفسير النازي.
القمع والثقافة
لنعد هنا الى صورة البداية، لقاء صدام بالمثقفين، ولنتذكر ان هذا الاهتمام بالمثقفين (ثلاثة لقاءات خلال شهر) يرجع الى بدايات صعوده داخل الحزب والدولة من خلال سيطرته على جهازين:
- مكتب العلاقات العامة الذي انشئ في نهاية الستينات وهو الاسم المُلَطَف للجهاز الامني الذي استطاع صدام من خلاله تصفية خصومه داخل الحزب وخارجه.
- الجهاز الثاني، وهو موضوع اهتمامنا الآن، هو مكتب الثقافة والاعلام الذي ترأسه بعد ازاحة منافسه عبد الخالق السامرائي.
وقد سارت عملية التمركز في الجهازين بوتيرة متساوية ومتوازية. فمع تسنمه الموقع الاول ازيحت الصحف الناطقة بلسان الاحزاب الاخرى على التوالي، لتبقى صحافة الحزب الواحد. دمج مكتبي الثقافة والاعلام الحزبيين في مكتب واحد، ووزارتي الثقافة والاعلام في وزارة واحدة. وألحق اتحاد الادباء العراقيين واتحاد الادباء الاكراد بوزارة الثقافة والاعلام.
لم يفترق جهازا القمع والثقافة مهما تغيرت المسؤوليات الرسمية الى ان استقرا في صيغتهما الحالية قسمة بين الابنين: تولى الاصغر الصاعد (قصي) مسؤولية الاجهزة الامنية، بينما تولى الابن المعوق الأكبر (عدي) مسؤولية "المُجَمَع الثقافي" الذي يضم الاتحادات الثقافية الخمسة اضافة لقناتين تلفزيونيتين وثلاث صحف.
لم ينفصل الجهازان بهذا التوزيع انما تكاملا وتداخلا. فبالقمع يفرض الأب سلطته المادية من خلال سيطرته على أجهزة المعرفة، ويضمن الهيمنة الفكرية والروحية على المجتمع. يتداخل الجانبان الى درجة يصعب رسم الخط الافتراضي الفاصل بينهما، حيث يتحول القمع إلى أيديولوجية، لانه يهدف الى إجبار المواطنين على قبول فكر السلطة باعتباره الفكر الوحيد، بينما تصبح مهمة المعرفة الأحادية إعطاء القمع مشروعيته باعتباره ضرورة وطنية.
وخارج ذلك ستفرض السلطة رقابة حازمة مسندة بعنف مطلق، يصل حد التصفية الجسدية للمثقف الذي يخالف إرادتها. وهذه السلطة لا تعاقب على الفعل، انما على أي شكل من المعرفة يخالف معرفتها، وتقيس الاستثنائي والشاذ على أساس مرجعيتها، وتنظر الى الحياة باعتبارها نوعاً من التراكم على تلك القاعدة الواحدة، مقدمة القاعدة والقانون على الواقع، وتحول كل المعارف الى شبكة من الحتميات والضرورات، بحيث تصبح مهمة العقل هي البحث عن موقع على هذه الشبكة، مدفوعاً بقوة إرغامه الخاصة. وتصبح عملية المعرفة نظاماً قسرياً يكيّف حركة الفكر ليتطابق مع الفكر، تشيعه السلطة. وتستخدم قوة العادة الاجتماعية والسلوك الجماعي كقوة ضغط للتأثير على فكر الفرد لترويضه وصناعته ضمن السايكولوجية الجماهيرية.
البؤس كملحمة بطولية
ارجع الى صورة البداية فأقول: لا جديد في المشهد، فليست هذه المرة الاولى التي يلعب فيها صدام دور المعلم، وليس جديداً ان يلعب كتّاب قضوا أكثر من نصف عمرهم في الكتابة، رغبوا في ذلك أو اجبروا، دور التلاميذ ليستمعوا الى توجيهاته. الجديد هو ان صدام فاجأ الجميع بأن الملحمة التي طالب الكتاب بكتابتها، كُتبت فعلاً على شكل رواية "زبيبة والملك" وان كاتبها هو صدام نفسه. لا ينبغي اعتبار الأمر مجرد نكتة فجة من طرافات قائد وصل حد الجنون. فاستباقه الكّتاب الى الفعل، اراد ان ينتزع منهم سلطة ليجمع السلطتين (سلطة الحاكم وسلطة الكاتب) في شخص واحد. وينبغي فهم هذه الرواية كرسالة في ظروف العراق الحالية تحت الحصار المأساة التي يعتبرها صدام "ملحمة بطولية" تعطيه مصدر قوة ثالث. فبالاضافة الى تحكمه بالجهاز الامني ومصادر معرفة الناس، سيتحكم من خلال الحصار بطعام الناس وضروريات حياتهم اليومية الاخرى، والطعام يمكن ان يوجّه وعي الناس، على أساس ان المحتاج يسعى الى استرضاء صاحب الحاجة بدلا من ان يثور عليه، اذ يتركز كل وعيه على الحاجة الحيوانية للحصول على الطعام، وتبقى الحاجات الاخرى الروحية والديمقراطية تجريدا ذهنيا وبطراً زائداً عن اللزوم. وفي جو الحصار انهارت الطبقة الوسطى المتعلمة، صاحبة المشروع التنويري. فحدود العراق تنزف كل يوم عقوله في شكل هجرة واسعة لأفضل عقوله التقنية والثقافية، وتحول القسم الباقي منها الى طبقة رثة من حرفيين وباعة كتب على الرصيف، تخلت عن كل أدوات المعرفة إزاء الحاجة الى الطعام والدواء. الرواية تحيل واقعاً راهناً الى اسطورة موهومة تتعلق بالمصالحة بين ملك ورعيته المظلومة، وصلة المصالحة هنا هي امرأة من عامة الشعب (زبيبة) ووسيلتها هي حكمة الكلمة. الرواية مليئة بالرموز والكنايات الصوفية مثل جمال الروح الذي يفوق جمال الشكل، والتناغم بين قمة الجبل والسهل المنخفض والجمال والفقر. وعادة ما يمهد البؤس الواقعي للخطاب الصوفي الذي يُعلي غنى الروح على بؤس الجسد، وعندما يصل البؤس حد الموت جوعاً، في مثل ظروف العراق المحاصر، لا يعود الجائع قادراً على المطالبة بحلول منطقية لمصائبه، ولا يملك الارادة والقدرة على انقاذ نفسه، لذلك يبقى بانتظار معجزة، ويطلب مخلِصاً من خارجه.
واذا كانت هذه الرواية مقدمة كمثال للاقتداء، والتأكيد في حديث القائد على "الثقافة التراثية" نريد ترحيل الواقعة السياسية من أسبابها ومجالها، فيقصيها الى التاريخ. فالقائد هنا يقدم نفسه باعتباره منحدراً من التاريخ، ويعود الى التاريخ ليدعي النطق والعمل باسم المرجعية التاريخية. وعلى الاديب أن ينكر الواقع ويحل محله تولهاً صوفياً، فيحل الماضي الغنائي المتخيل، ويوحّد الجميع في اسطورته.. الغني والفقير، الجلاد والضحية، الانسان والارض، والأهم هو الجميع والقائد. يخلط الازمنة، فيحيل الواقعة الحالية التي يقوم بصنعها القائد الى التاريخ والاساطير والتراث، فيلهم الجماهير صورا ورموزا تثير حماسها وفق خطه السياسي، لا يكون وسيطا عاطفيا بين عقل السياسي البارد وغرائز الناس.
الديمقراطية أولا
ولكن كلما تطابقت ايديولوجيا السلطة مع جهازها القمعي زاد الصراع بين حكمة المثقف الفردية وجنون السلطة الشامل. وسواء داخل اجهزة الدولة أو خارجها، يحدث تعارض حاد بين عملية الادلجة القسرية التي تريد سلطة الصوت الواحد اشاعتها في المجتمع، وبين حاجة المثقف للفضاء الحر للكتابة.
نعود فنقول ان المثقف العراقي بدد كثيراً من الوقت خارج فضاء الديمقراطية، ودفع غالياً ثمن الخطيئة والخطأ لأن النضال من اجل الديمقراطية لا يحتمل التأجيل. وقد تعقدَ طريق الديمقراطية اليوم أكثر من أي وقت مضى، لأنه يتطلب النضال على ثلاث جبهات معاً: ضد السلطة المستبدة، ضد الحركة السياسية المعارضة، التي اكتسبت خلال الصراع، وهو علاقة جدلية، بعض صفات جلادها، وضد تقاليد الاستبداد في مجتمع كامل. لا يواجه المثقف سلطة الاستبداد وحدها، انما أيضاً تيارات نابعة من مجتمع منهك القوى، مفكك، مدين لدول اقليمية ودولية ستفرض شروطها في شكل الحكم، تيارات نابعة من قاع مجتمع مسدود الافق ستقاوم حرية المثقف بشروط سلفية... ومع ذلك، لا خيار للمثقف المؤمن بالديمقراطية، إلا النضال من أجلها، وسيلة للحكم ونظاماً للمجتمع وطريقة للحياة. لذلك أصبح التزام الكتّاب التزاماً بالديمقراطية. وبعدها ليختلف المختلفون.
نشرت المادة في الثقافة الجديدة، العدد 303، تشرين الثاني – كانون الأول 2001
--------------------------------