
(1)
هذه هي المقالة الأولى ضمن سلسلة حول الدور الذي أسيء فهمه وأسيء تقديره للصهيونية الأميركية في قضية فلسطين. وحسب ما أرى فإن دور الجماعات والأنشطة الصهيونية في الولايات المتحدة لم يعالج بصورة كافية خلال مرحلة "عملية السلام"، وهو إهمال أجد انه مدهش تماماً، آخذاً في الاعتبار أن السياسة الفلسطينية تمثلت أساساً بإلقاء مصيرنا كشعب في أحضان الولايات المتحدة من دون أي إدراك استراتيجي للطريقة التي تخضع بها السياسة الأميركية عملياً للهيمنة، إن لم يكن السيطرة كاملة، من جانب أقلية صغيرة تبدو مواقفها من السلام في الشرق الأوسط بشكل ما اكثر تطرفاً حتى من تلك التي تتبناها كتلة ليكود في إسرائيل.
دعوني اقدم مثالاً بسيطاً: قبل شهر أوفدت صحيفة "هآرتز" الإسرائيلية أحد كتاب أعمدتها البارزين، آري شافيت، ليمضي بضعة أيام في التحدث معي. ونُشر ملخص جيد لهذه المحادثة الطويلة كمقابلة بصيغة سؤال وجواب في ملحق الصحيفة الصادر في 18 آب (أغسطس) الماضي، من دون أن تحذف مقاطع منها أو تخضع للرقابة. وقد عبرت عن وجهات نظري بصراحة تامة مع تأكيد كبير على حق العودة وأحداث العام 1948 ومسؤولية إسرائيل عن هذا كله. أثار استغرابي أن تُعرض آرائي كما عبّرت عنها بالضبط، من دون أدنى تحريف من قبل شافيت الذي كانت أسئلته دائماً كيسة وغير استفزازية.
بعد أسبوع على نشر المقالة جاء رد عليها من ميرون بنفنيستي، النائب السابق لرئيس بلدية القدس تيدي كوليك. اتسم الرد بطابع شخصي مثير للاشمئزاز، وكان يطفح بالإهانات وتشويه السمعة ضدي وضد عائلتي. لكنه لم ينكر أبداً أن هناك شعبا فلسطينيا، أو أننا شردنا في 1948.
لقد قال في الواقع، نحن قهرناهم، ولماذا ينبغي أن نشعر بالذنب؟ بعثت برد على بنفنيستي نشرته "هآرتس" بعد ذلك بأسبوع. ما كتبته نشر أيضاً من دون حذف. ذكّرت القراء الإسرائيليين بأن بنفنيستي كان مسؤولا عن تدمير )والأرجح أنه كان على معرفة بقتل عدد من الفلسطينيين) حارة المغاربة في 1967 التي فقد فيها مئات عدة من الفلسطينيين منازلهم تحت جنازير البلدوزرات الإسرائيلية. لكنني لم أكن بحاجة الى تذكير بنفنيستي أو قراء "هآرتس" بأننا كشعب موجودون، ويمكن على الأقل أن نناقش حقنا في العودة. فهذا أمر مفروغ منه.
توجد هنا نقطتان: الأولى، هي أن المقابلة كلها ما كان يمكن أن تظهر في أي صحيفة أميركية، وقطعاً ليس في أي صحيفة أميركية - يهودية. ولو كانت هناك مقابلـة فان الأسئلة الموجهة إلي كانت ستكون عدائية ومتغطرسة ومهينة، مثلاً، لماذا كنت متورطاً في الإرهاب، ولماذا ترفض الاعتراف بإسرائيل، ولماذا كان الحاج أمين نازياً، وهلم جرا. النقطة الثانية، هي أن صهيونياً إسرائيلياً يمينياً مثل بنفنيستي، مهما كان يمقتني أو يمقت آرائي، لن ينكر أن هناك شعباً فلسطينياً أجبر على الرحيل في 1948. لكن صهيونياً أميركياً سيظل يقول انه لم يكن هناك أي احتلال، أو كما زعم جون بيترز في كتاب صدر في 1948 بعنوان "منذ زمن سحيق" وقد اختفى الآن وكاد يطويه النسيان )فاز بكل الجوائز اليهودية عندما ظهر في أميركا)، لم يكن هناك أي فلسطينيين يعيشون في فلسطين قبل 1948.
سيعترف كل إسرائيلي من دون تردد، وهو يعرف تماماً، بأن إسرائيل بكاملها كانت في ما مضى فلسطين، أي )كما قال موشي دايان علناً في 1967) أن كل بلدة أو قرية إسرائيلية كان لها يوما اسم عربي. ويقول بنفنيستي بشكل صريح "نحن" انتصرنا، ثم ماذا؟ لماذا ينبغي أن نشعر بالذنب بشأن الانتصار؟ أما الخطاب الصهيوني الأميركي فانه ليس صادقاً بشكل صريح على هذا النحو إطلاقاً. فهو يجب أن يلف دائماً ويتحدث عن جعل الصحراء تزهر، وديموقراطية إسرائيل، وغيرها، متحاشياً كلياً الحقائق الأساسية عن 1948 التي عاشها فعلاً كل إسرائيلي. بالنسبة الى الأميركي تمثل هذه في الأغلب تخيلات، أو أساطير، وليست وقائع. ويبلغ مدى ابتعاد أنصار إسرائيل الأميركيين عن الواقع، وانغماسهم في تناقضات الشعور بالذنب الذي تولده حياة الشتات، فماذا يعني أن يكون المرء صهيونياً ولا يهاجر الى إسرائيل؟ ونزعة الغرور باعتبارهم الأقلية الأكثر نجاحاً والأكثر نفوذاً في الولايات المتحدة، يبلغ حداً يجعل ما يظهر في معظم الأحيان مزيجاً مرعباً من ممارسة العنف بالنيابة عن آخرين ضد العرب وخوفاً وكرهاً عميقين لهم، وهو نتيجة لعدم وجود أي تماس مباشر ودائم مع العرب بخلاف اليهود الإسرائيليين.
لا يمثل العرب إذا بالنسبة للصهيوني الأميركي أشخاصاً حقيقيين بل تخيلات عن كل شيء تقريباً يمكن تبشيعه وازدراؤه، وبالأخص الإرهاب ومناهضة السامية. تسلمت أخيراً رسالة من أحد طلبتي القدامى، ممن أتيحت لهم فرصة الاستفادة من أرقى تعليم متوافر في الولايات المتحدة، يسألني فيها رغم كل شيء بصدق وكياسة لماذا أسمح كفلسطيني لنازي مثل الحاج أمين أن يستمر في تحديد أجندتي السياسية. وقال مجادلاً "قبل الحاج أمين لم تكن القدس مهمة بالنسبة للعرب. ولأنه كان شريراً تماماً فقد جعل منها قضية مهمة بالنسبة للعرب لإحباط التطلعات الصهيونية التي اعتبرت القدس دائماً مهمة". لا يمثل هذا منطق شخص عاش مع العرب، ويعرف شيئاً ملموساً عنهم. انه منطق شخص يتكلم بخطاب منظم وتحركه إيديولوجية لا تعتبر العرب سوى دالات سلبية، يجسدون مشاعر عنفية مناهضة للسامية، ولذا ينبغي محاربتهم والتخلص منهم إن أمكن ذلك. ولم يكن محض صدفة أن يكون الدكتور باروخ غولدشتاين، الذي قتل بصورة مروعة 29 فلسطينياً كانوا يصلون بخشوع في الحرم الابراهيمي في الخليل، أميركياً، كما كان الحاخام مائير كاهانا. وبدلاً من اعتبار كاهانا وغولدشتاين حالتين شاذتين تشكلان إحراجاً لاتباعهما، يُنظر إليهما في الوقت الحاضر بتبجيل من قبل آخرين على شاكلتيهما. كما أن كثرة من المستوطنين المتطرفين اليمينيين الأكثر تعصباً الذين يجثمون على أراض فلسطينية، ويتحدثون بقسوة عن "ارض إسرائيل" باعتبارها عائدة لهم، ويكرهون ويتجاهلون المالكين والمقيمين الفلسطينيين الذين يحيطون بهم، ولدوا هم أيضاً في أميركا. ويبدو المشهد مرعباً عندما تراهم يسيرون في شوارع الخليل كما لو كانت هذه المدينة العربية كلها ملكاً لهم، ويفاقم ذلك ما يظهروه من استخفاف وازدراء سافرين ضد الغالبية العربية.
ألفت الانتباه الى هذا كله لتثبيت نقطة أساسية واحدة: عندما اتخذت منظمة التحرير الفلسطينية في أعقاب حرب الخليج القرار الاستراتيجي - الذي كان بلدان عربيان رئيسان حسماه قبل المنظمة - بالعمل مع الحكومة الأميركية، وإذا أمكن مع اللوبي النافذ الذي يتحكم بمناقشة سياسات الشرق الأوسط، فإنها أقدمت على هذه الخطوة كما فعل البلدان العربيان قبلها بالاستناد الى جهل هائل وافتراضات خاطئة على نحو استثنائي تماماً. كانت الفكرة، كما أوضحها لي ديبلوماسي مصري كبير بعد 1967 بوقت قصير، هي أن يتم الاستسلام عملياً ويقال إننا لن نواصل الكفاح بعد الآن. نحن الآن مستعدون لأن نقبل إسرائيل ونقبل أيضاً دور الولايات المتحدة المقرر في مستقبلنا. كانت هناك أسباب موضوعية وراء وجهة نظر كهذه في ذلك الحين، كما هو الحال الآن مثل التساؤل عن جدوى مواصلة المعركة، كما فعل العرب تاريخيا إذا كان ذلك سيؤدي الى هزيمة أخرى وحتى كارثة. لكنني اعتقد بقوة أنها كانت سياسة خاطئة أن يُلقى بسياسة العرب ببساطة في أحضان الولايات المتحدة، وفي أحضان المنظمات الصهيونية الرئيسية أيضاً، لأن الأخيرة تمارس نفوذاً كبيراً في كل مكان في الولايات المتحدة، معلنين في الواقع أننا لن نقاتلكم، دعونا ننضم إليكم، لكن رجاءً احسنوا معاملتنا. كان الأمل هو أننا إذا تنازلنا وقلنا نحن لسنا أعداءكم سنصبح كعرب أصدقاءهم.
المشكلة تكمن في التفاوت بالقوة الذي ظل قائماً. فمن وجهة نظر الأقوى، أي تأثير سيطرأ على استراتيجيتك إذا كان خصمك الأضعف يقر بعجزه ويقول ليس هناك شيء آخر أقاتل من اجله، خذني، أريد أن أكون حليفاً لك، حاول فحسب أن تفهمني بشكل افضل وربما ستكون عندئذ أكثر إنصافا؟ إحدى الوسائل المفيدة للإجابة على هذا السؤال بطريقة عملية وملموسة هي أن نلقي نظرة على آخر تطورات الأحداث في السباق الانتخابي على مقعد ولاية نيويورك في مجلس الشيوخ، حيث تتنافس هيلاري كلينتون مع الجمهوري ريك لازيو على المقعد الذي يشغله حالياً الديموقراطي دانييل باتريك موينيهان الذي سيتقاعد من منصبه. فقد أعلنت هيلاري العام الماضي أنها تؤيد إقامة دولة فلسطينية، وخلال زيارة رسمية الى غزة مع زوجها عانقت سهى عرفات. إلا أنها منذ دخول السباق الانتخابي في نيويورك بزّت حتى أكثر الصهاينة يمينية في حماسها لإسرائيل ومعارضتها لفلسطين، بل ذهبت الى حد تأييد نقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس و(ما هو اكثر تطرفاً) تأييد تخفيف الحكم الصادر بحق جوناثان بولارد، الجاسوس الإسرائيلي الذي دين بالتجسس ضد الولايات المتحدة ويقضي الآن حكماً بالسجن مدى الحياة. وقد حاول خصومها الجمهوريون إحراجها بتصويرها على أنها «نصيرة متحمسة للعرب» وبترويج صورة فوتوغرافية تظهر فيها وهي تعانق سهى. وبما أن نيويورك هي قلعة النفوذ الصهيوني فان إطلاق نعوت مثل «نصيرة متحمسة للعرب» و «صديقة سهى عرفات» يعادل أسوأ إهانة ممكنة. هذا كله على الرغم من أن عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية هما حليفان معلنان لأميركا، ويتلقيان مساعدات عسكرية ومالية أميركية، ويستفيدان في مجال الأمن من الدعم الأمني لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي أي». في غضون ذلك، وزع البيت الأبيض صورة فوتوغرافية يظهر فيها لازيو وهو يتصافح مع عرفات قبل عامين. واضح أن كل ضربة تستحق الأخرى.
الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الخطاب الصهيوني هو خطاب القوة، والعرب فـي هـذا الخطاب هم أهداف للقوة - وأهداف محتقرة أيضاً، وبعدما راهنوا على هذه القوة باعتبارهم الخطاب هم أهداف للقوة - وأهداف محتقرة أيضاً -، وبعدما راهنوا على هذه القوة باعتبارهم خصمها السابق المستسلم لم يعد بإمكانهم أن يتوقعوا أبدا أن يكونوا على قدم المساواة معها. ومن هنا المشهد المخزي والمهين لعرفات (رمز العداء دائماً وأبدا بالنسبة الى عقل الصهيوني) وهو يستخدم في سباق محلي تماماً في الولايات المتحدة بين خصمين يحاولان أن يبرهنا أيهما أكثر تأييداً لإسرائيل. علماً أن أيا من الاثنين، هيلاري كلينتون وريك لازيو، ليس حتى يهودياً. ما سأناقشه في مقالتي المقبلة هو كيف أن الاستراتيجية السياسية الممكنة الوحيدة تجاه الولايات المتحدة بقدر ما يتعلق الأمر بسياسة العرب والفلسطينيين هي ليست إقامة حلف مع الصهاينة أو مع السياسة الأميركية بل تنظيم حملة تعبئة جماهيرية موجهة إلى السكان الأميركيين لمصلحة حقوق الفلسطينيين الإنسانية والمدنية والسياسية. كل الترتيبات الأخرى، سواء أوسلو أو كامب ديفيد، مصيرها الفشل لان الخطاب الرسمي يخضع كلياً، ببساطة، لهيمنة الصهيونية، وما عدا استثناءات فردية لا توجد أي بدائل له. لذا فان كل ترتيبات السلام التي تتم على أساس تحالف مع الولايات المتحدة هي تحالفات تعزز النفوذ الصهيوني بدلاً من التصدي له. إن الإذعان بانبطاح السياسة الشرق أوسطية يتحكم بها الصهاينة، كما فعل العرب على مدى ما يقرب من جيل حتى الآن، لن يحقق الاستقرار في بلادهم أو المساواة والعدل في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، تكمن المفارقة في انه يوجد داخل الولايات المتحدة كتلة رأي ضخمة مستعدة لاتخاذ موقف نقدي تجاه إسرائيل والسياسة الخارجية للولايات المتحدة على السواء. والمأساة هي أن العرب يعانون الضعف والتشرذم وغياب التنظيم والجهل لدرجة تحول دون إمكان الاستفادة منها. وسأناقش في مقالتي أيضا الأسباب التي تكمن وراء ذلك، لأن طموحي هو أن أسعى للوصول الى جيل جديد ربما يعاني الحيرة والإحباط معاً بسبب الموقع البائس والمزدرى الذي توجد فيه الآن ثقافتنا وشعبنا، والإحساس الدائم بالخسارة المثيرة للسخط ولكن المهينة الذي نعانيه جميعا نتيجة ذلك.
(2)
طرأ حدث صغير ينطوي على إحراج منذ أن كتبت مقالتي الأخيرة عن الموضوع قبل أسبوعين. فقد جرد مارتن انديك سفير الولايات المتحدة (للمرة الثانية خلال إدارة كلينتون) لـدى إسرائيل بشكل مفاجئ من الإذن الأمني الديبلوماسي الممنوح له من جانب وزارة الخارجية الأميركية للاطلاع على الوثائق السرية. وحسب الرواية المتداولة فانه استخدم جهاز الكومبيوتـــــر النقال العائد له من دون اتباع إجراءات أمنية مناسبة، وبالتالي يحتمل أن يكون أفشى معلومات أو كشفها لأشخاص غير مخولين. ونتيجة لذلك لم يعد بإمكانه أن يدخل وزارة الخارجية أو يغادرها من دون مرافقة، ولا يمكن أن يبقى في إسرائيل، ويجب أن يخضع لتحقيق كامل.
ربما لن نعرف أبدا ما حدث فعلاً، بدليل أن انديك أعيد الى منصبه ثانية من دون أي إيضاحات. لكن الشيء المعروف على نطاق واسع ورغم ذلك لم تتناوله وسائل الإعلام هو فضيحة تعيين انديك. إذ أعلن عشية تقلد كلينتون منصبه رسمياً في كانون الثاني (يناير) 1993 أن مارتن انديك، الذي ولد في لندن وكان مواطناً استرالياً، منح الجنسية الأميركية بناء على رغبة عاجلة للرئيس المنتخب. ولم تتبع الإجراءات الأصولية: كان إجراء يستند الى امتياز رئاسي أتاح تعيين انديك، بعد حصوله على الجنسية الأميركية مباشرة، عضواً في مجلس الأمن القومي ومسؤولاً عن الشرق الأوسط. كان هذا كله، حسب اعتقادي، الفضيحة الحقيقية، وليس الطيش اللاحق لانديك أو حماقته أو حتى ضلوعه في تجاهل قواعد السلوك الرسمية. فقبل أن يصل انديك الى قلب الحكومة الأميركية في منصب رفيع المستوى ومحاط بالكتمان الى حد كبير، كان رئيساً لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وهو مؤسسة أبحاث ذات طابع فكري ظاهرياً تمارس دعاية نشيطة لمصلحة إسرائيل وتنسق عملها مع «ايباك» (لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية)، اللوبي الأقوى والأعظم نفوذا في واشنطن. وتجدر الإشارة الى أن دنيس روس، مستشار وزارة الخارجية الذي يرأس الفريق الأميركي في عملية السلام، كان أيضا رئيساً لمعهد واشنطن قبل التحاقه بإدارة بوش. لذا فان قناة الاتصال بين جماعات الضغط الإسرائيلية وسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط منتظمة للغاية، ومنظمة.
مارست «ايباك» نفوذاً كبيراً على مدى سنين، ولا يرجع ذلك إلى استنادها على جالية يهودية سنة التنظيم وذات صلات جيدة وحضور بارز وناجحة وثرية فحسب بل أيضا لأنها في اغلب الأحوال لم تلق مقاومة تذكر. وهناك رهبة واحترام كبيران لـ «ايباك» في أرجاء البلاد، لكن بشكل خاص في واشنطن حيث يمكن في غضون ساعات أن يُعبأ مجلس الشيوخ بأكمله لتوقيع رسالة الى الرئيس لمصلحة إسرائيل. فمن سيعارض «ايباك» ويحتفظ بموقعه في الكونغرس، أو يتحداها من اجل، مثلاً، القضية الفلسطينية عندما لا يمكن لهذه القضية أن تقدم شيئاً ملموساً لمن يتحدى «ايباك»؟ في الماضي، تصدى واحد أو اثنان من أعضاء الكونغرس علناً لـ «ايباك» لكن سرعان ما جرى عرقلة إعادة انتخابهما من قبل لجان العمل السياسية الكثيرة التي تخضع لسيطرة «ايباك»، وهكذا انتهى الأمر. وكان السناتور الوحيد الذي تبنى موقفاً يمكن اعتباره معارضاً ولو من بعيد لـ «ايباك» هو جيمس أبو رزق، لكنه لم يكن يرغب في إعادة انتخابه وقرر، لأسباب خاصة به، أن يستقيل عندما انتهت فترة عضويته التي استمرت ست سنوات.
لا يوجد الآن في الولايات المتحدة أي معلق سياسي يتبنى موقفاً واضحاً وصريحاً تماماً في التصدي لإسرائيل في الولايات المتحدة. وبين حين وآخر ينتقد بعض كتاب الأعمدة، مثل انتوني لويس في «نيويورك تايمز»، ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، لكن لا يُذكر أبدا أي شيء عن 1948 وقضية تشريد الفلسطينيين التي تكمن في صلب وجود إسرائيل وسلوكها اللاحق. وفي مقالة نشرت أخيرا، لاحظ المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية هنري براكت الإجماع المذهل في كل قطاعات الإعلام الأميركي، من السينما الى التلفزيون والراديو والصحف والمطبوعات الأسبوعية والشهرية والفصلية واليومية كل واحدة منها تتبع بشكل أو بآخر الموقف الإسرائيلي الرسمي الذي اصبح أيضا الموقف الأميركي الرسمي. هذا هو التوافق الذي حققته الصهيونية الأميركية في السنوات المنصرمة منذ 1967، والذي استغلته في معظم الخطاب الرسمي حول الشرق الأوسط. هكذا فان السياسة الأميركية تساوي السياسة الإسرائيلية، باستثناء مناسبات نادرة جداً أي (قضية بولارد) عندما تتجاوز إسرائيل الحد وتفترض أن لها الحق في نيل ما تشاء.
هكذا يقتصر انتقاد ممارسات إسرائيل على نحو تام على هجمات عرضية ونادرة حتى أنها تكاد تكون غير منظورة. ويبدو الإجماع العام منيعاً وفعالاً لدرجة انه يطبق في كل مكان في إطار الاتجاه السياسي السائد. ويتألف هذا الإجماع من حقائق لا يرقى إليها شك تتعلق بإسرائيل كديموقراطية، تتمثل فضيلتها الأساسية في عصرية وعقلانية شعبها وقراراتها. ذات مرة قال الحاخام ارثر هرتز برغ، وهو رجل دين ليبرالي أميركي بان الصهيونية هي الدين العلماني للجالية اليهودية الأميركية. ويحظى هذا بدعم واضح من قبل منظمات أميركية متنوعة يتمثل دورها بمراقبة الحيز العام منعاً لأي خروقات، حتى في الوقت الذي تدير منظمات يهودية أخرى كثيرة مستشفيات ومتاحف ومعاهد أبحاث لمصلحة البلاد كلها. هذه الثنائية أشبه بتناقض ظاهري يستعصي على الحل تتعايش فيه مشاريع عامة نبيلة مع أحقر المشاريع وأكثرها لا إنسانية. فإذا أخذنا مثالاً حديثاً، قامت «المنظمة الصهيونية في أميركا» ( ZOA )، وهي جماعة صغيرة ولكن صاخبة جداً من المتعصبين، بدفع كلفة إعلان نشر في صحيفة «نيويورك تايمز» في 10 أيلول (سبتمبر) الماضي يخاطب ايهود باراك كما لو كان مستخدماً لدى اليهود الأميركيين، مذكراً إياه بان ستة ملايين منهم يفوقون عدداً الخمسة ملايين إسرائيلي الذين قرروا التفاوض بشأن القدس. ولم تكن لهجة الإعلان تحذيرية فحسب بل كادت تكون تهديدية، قائلة بان رئيس وزراء إسرائيل قرر بصورة غير ديموقراطية أن يشرع بتنفيذ ما يعد شيئاً محرماً بالنسبة لليهود الأميركيين الذين كانوا مستائين من سلوكه. وليس واضحا إطلاقا من الذي خول هذه المجموعة الصغيرة والمشاكسة من المتعصبين أن توبخ رئيس الوزراء الإسرائيلي بهذه اللهجة، لكن «المنظمة الصهيونية في أميركا» تشعر بان لديها الحق في أن تتدخل في شؤون الجميع. فهي توجه رسائل أو تتصل هاتفياً بشكل روتيني برئيس جامعتي لتطلب منه أن يقيلني أو ينتقدني رسمياً بسبب شيء ما قلته أو كتبته، كما لو كانت الجامعات أشبه برياض أطفال وينبغي معاملة الأساتذة مثل جانحين أحداث. وشنت هذه المنظمة العام الماضي حملة تهدف الى إقالتي من المنصب الذي انتخبت إليه كرئيس لجمعية اللغات الحديثة التي تعرض أعضاؤها البالغ عددهم 30 ألف شخص الى التوبيخ من قبل المنظمة باعتبارهم بلهاء. يمثل هذا أسوأ صنوف «البلطجة» الستالينية، إلا أنه مثال نموذجي على الصهيونية الأميركية المنظمة في أسوأ صورها وأكثرها تعصبا.
وعلى نحو مماثل تبنى كتاب ومحررون يهود يمينيون (نذكر على سبيل المثال، نورمــان بود هورتز وتشارلس كروتهامر وويليام كريستول، ضمن الدعاة الأكثر صخباً) موقفاً نقدياً من إسرائيل لأنها أغضبتهم، كما لو أنهم أكثر أحقية بها من أي شخص آخر. وتمتاز مقالاتهم هذه وغيرها بلهجة كريهة، فهي توليفة منفرة من الغطرسة السافرة وادعاء الوعظ الأخلاقي وأقبح أشكال النفاق، وينفذ هذا كله في أجواء من الثقة الكاملة. وهم يفترضون أنهم قادرون بفضل نفوذ المنظمات الصهيونية التي تدعم وتؤيد صخبهم المشين على أن يفلتوا من دون حساب على هذا النوع من الهراء الذي لا يمت بصلة الى الحقائق السياسية الفعلية في الشرق الأوسط. وينظر إليهم معظم الإسرائيليين الواعين بنفور.
لقد بلغت الصهيونية الأميركية في الوقت الحاضر مستوى من الفنتازيا التامة التي يكون فيها ما هو صالح للصهاينة الأميركيين في إقطاعيتهم وخطابهم الخيالي صالحاً في الغالب لأميركا وإسرائيل، وبالتأكيد للعرب والمسلمين والفلسطينيين الذين يبدو انهم ليسوا سوى مجموعة منغصات تافهة. وكل من يتحداهم أو يجرأ على تحديهم (خصوصاً إذا كان عربياً أو يهودياً ناقداً للصهيونية) يكون عرضة لأقذع أنواع السباب والتوبيخ، وهي كلها ذات طابع شخصي وعنصري وإيديولوجي. إنهم قساة، يفتقرون كلياً الى أي سماحة نفس أو تفهم إنساني صادق. والقول بان نقدهم الساخر العنيف وتحليلاتهم شبيهة بالتوراة في أسلوبها يمثل إهانة للتوراة.
بمعنى آخر، سيكون أي تحالف معهم، على نحو ما حاولت الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية تشكيله منذ حرب الخليج، أغبى نوع من الجهل. فهم يناهضون بثبات كل ما يناضل من اجله العرب والمسلمون وبشكل خاص الفلسطينيون، وسيفجرون الوضع بدلاً من التوصل الى سلام معنا. ومع ذلك، صحيح أيضا أن معظم المواطنين العاديين غالباً ما يشعرون بالحيرة إزاء عنف نبرة هؤلاء، لكنهم لا يدركون حقاً ما يقف وراءها. وكلما تحدث المرء مع أميركيين ليسوا من اليهود أو العرب ولا يملكون أي خبرة حول الشرق الأوسط، ينتابه دائماً إحساس بالحيرة والسخط إزاء موقفهم المتغطرس إذ يتصرفون كما لو أن الشرق الأوسط كله ملكاً مستباحاً لهم. وقد خلصت الى أن الصهيونية في أميركا ليست تخيلات مبنية على أسس متصدعة تماماً فحسب بل أن من المستحيل إقامة تحالف أو توقع حوار عقلاني معها. لكن يمكن الالتفاف حولها ودحرها.
دأبت من منتصف الثمانينات على أن أوضح لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية ولكل فلسطيني وعربي التقيته بان سعي المنظمة الى كسب تعاطف الرئيس الأميركي هو وهم كامل لان كل الرؤساء في العقود الأخيرة كانوا صهاينة مخلصين، وان السبيل الوحيد لتغيير السياسة الأميركية وتحقيق تقرير المصير يكمن في تنظيم حملة جماهيرية دفاعاً عن حقوق الإنسان للفلسطينيين، وهو ما سيمكن الالتفاف على الصهاينة والتوجه مباشرة الى الشعب الأميركي. فالأميركيون، الذين يعانون نقصاً في الاطلاع ولكنهم يتفاعلون مع نداءات الاستغاثة طلباً للعدل، كانوا سيتجاوبون كما فعلوا مع حملة المؤتمر الوطني الأفريقي ضد نظام التمييز العنصري، التي غيرت في النهاية توازن القوى داخل جنوب أفريقيا. وإنصافا ينبغي أن أشير هنا الى أن جيمس زغبي، الذي كان في ذلك الحين مدافعاً ناشطاً عن حقوق الإنسان (قبل أن يرمي بثقله الى جانب عرفات والحكومة الأميركية والحزب الديموقراطي)، هو أحد مبتكري هذه الفكرة. وان تخليه عنها كليا يدل على ما طرأ عليه من تغيير، وليس إبطالاً للفكرة ذاتها.
لكن اصبح واضحاً تماماً بالنسبة إلي أن منظمة التحرير لن تفعل ذلك أبدا لأسباب عدة. فهذا يقتضي جهداً وتفانياً. ثانياً، سيعني ذلك اعتناق فلسفة سياسية تستند في الواقع على تنظيم ديموقراطي على مستوى القواعد. ثالثاً، سيتعين أن تكون حركة بدلاً من مبادرة شخصية لمصلحة الزعماء الحاليين. وأخيرا، إنها تتطلب معرفة حقيقية وليست سطحية بالمجتمع الأميركي. بالإضافة الى ذلك، شعرت بان من الصعب جداً تغيير الذهنية التقليدية التي قادتنا من وضع سيئ إلى آخر، وقد اثبت الزمن أنني كنت على صواب. فاتفاقات أوسلو جسدت القبول ضيق الأفق من قبل الفلسطينيين بالتفوق الإسرائيلي - الأميركي بدلاً من كونها محاولة لتغييره.
وفي أي حال، سينتهي مآل أي تحالف أو حل وسط مع إسرائيل في الظروف الحالية، حيث تخضع السياسة الأميركية كليا لهيمنة الصهيونية الأميركية، الى النتائج ذاتها تقريباً بالنسبة للعرب بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص. فإسرائيل يجب أن تسود، ومخاوف إسرائيل هي الأساس، وستجري إطالة أمد الظلم الإسرائيلي المنظم. هكذا، ما لم يجر التصدي للصهيونية الأميركية وتجبر على التغيير - وهي ليست مهمة بالغة الصعوبة، كما سأحاول أن أبين في مقالتي المقبلة - ستكون النتائج هي ذاتها، كئيبة ومسيئة بالنسبة الى العرب.
(3)
أعطت أحداث الأسابيع الأربعة الأخيرة انتصاراً شبه كامل للصهيونية الأميركية، للمرة الأولى منذ عودة الحركة الوطنية الفلسطينية الحديثة الى البروز في أواخر الستينات. إذ تحولت إسرائيل خلال الصدامات الأخيرة، على صعيد الخطابين السياسي والإعلامي، الى ضحية، الى درجة أنه على رغم مقتل أكثر من 140 فلسطينياً وجرح نحو خمسة آلاف منهم فإن ما يسمى «العنف الفلسطيني» هو ما جاء ليعرقل التقدم الهادئ الذي كانت تحرزه عملية السلام.
وهناك الآن مجموعة من العبارات يكررها المعلقون الصحافيون، إما حرفياً أو بالاعتماد عليها كمسلمات ضمنية، وهي الآن محفورة في كل أذن وعقل وذاكرة، لتعمل بذلك كـ «دليل الحائر»، أو أنها بمثابة لائحة تعليمات جاهزة، أو آلة تضخ تلك العبارات التي ملأت الأجواء لشهر على الأقل. ويمكنني تلاوة غالبيتها عن ظهر قلب: باراك عرض في كامب ديفيد تنازلات لم يعرضها رئيس وزراء إسرائيلي قبله (90 في المائة من الأراضي وسيادة جزئية على القدس الشرقية). عرفات كان جباناً وافتقر الى الشجاعة اللازمة للقبول بعروض إسرائيل لإنهاء الصراع، والعنف الفلسطيني الذي يوجهه عرفات يهدد إسرائيل (هناك تنويعات كثيرة على هذه النغمة، من بينها الرغبة في إزالة إسرائيل، اللاسامية، الغضب الانتحاري ضماناً للوصول الى شاشات التلفزيون، وضع الأطفال في المقدمة لتحويلهم الى شهداء)، وان هذا العنف يبرهن على أن الدافع هو «حقد» الفلسطينيين القديم على اليهود. وأن عرفات زعيم ضعيف يسمح لشعبه بمهاجمة اليهود والتحريض ضدهم عن طريق إطلاق الإرهابيين ونشر كتب مدرسية تنكر وجود إسرائيل.
الأرجح أنني نسيت واحدة أو اثنتين من هذه الوصفات الجاهزة. لكن الصورة العامة تبقى أن إسرائيل محاطة ببرابرة يهاجمونها بالحجارة وأن الصواريخ والدبابات تستعمل لـ «حماية» الإسرائيليين من العنف ودرء تلك القوة المخيفة التي يمثلها الفلسطينيون. كما أن مطالبات بيل كلينتون (التي ترددها وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت مثل الببغاء) للفلسطينيين بـ «التراجع» توحي بقوة بأن الفلسطينيين هم الذين يستولون على أرض إسرائيل وليس العكس.
ما يستحق الذكر أيضاً أن النجاح في صهينة وسائل الإعلام الأميركية بلغ درجة أن الصحف وشبكات التلفزيون لم تحمل حتى الآن خريطة واحدة لكي تذكر القارئ أو المشاهد الأميركي - المعروف بجهله بالجغرافيا والتاريخ - بأن المعسكرات والمستوطنات والطرق والحواجز الإسرائيلية تقطع أوصال الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة. إضافة الى ذلك، ومثلما كانت الحال في بيروت في 1982، هناك الآن حصار إسرائيلي حقيقي على الفلسطينيين، حتى على ياسر عرفات ورجاله. وقد نسي الرأي العام الأميركي الآن، إذا كان فهم أصلاً، نظام تقسيم الأراضي إلى مناطق «أ» و «ب» و «ج»، الذي يستمر بفضله الاحتلال الإسرائيلي لـ40 في المائة من أرض غزة و60 في المائة من الضفة الغربية - ذلك النظام الذي لم يكن اتفاق أوسلو مصمما لإنهائه أو حتى تعديله في شكل كامل.
لهذا الفراغ الذي يتركه إخفاء البعد الجغرافي أهمية أساسية لأنه يزيل عن الصور التلفزيونية للأحداث أو وصفها من جانب المراسلين الصحافيين أي سياق ممكن، انه كما اعتقد إخفاء تعمدته وسائل الإعلام الصهيونية منذ البداية وأصبح تلقائيا الآن. وسمح هذا لمعلقين مزيفين مثل توماس فریدمان بتسويق بضاعته بلا خجل، مواصلا ثغاءه عن «الإنصاف» الأميركي ومرونة إسرائيل وكرمها وحكمته البراغماتية التي ينصح قادة العرب باتباعها - كل هذا ما يقذف الى أحضان النوم بقرائه الضجرين أصلا. النتيجة لم تكن إدامة الانطباع الممسوخ بأن ما يدور هو هجوم الفلسطينيين على إسرائيل فحسب، بل في المزيد من تجريد الفلسطينيين من الإنسانية وتصويرهم وحوشا من دون وعي أو دافع مفهوم. لذلك لا غرابة إذا لم نجد عند تلاوة أعداد الضحايا أي ذكر لانتمائهم، وهو ما يسمح للأميركيين افتراض أن الخسائر متساوية بين «طرفي الحرب»، بل أن التقارير تبالغ في تقدير معاناة اليهود فيما تخفف من معاناة العرب ومشاعرهم أو تحذفها كليا - عدا شعور «الغضب» بالطبع، وبكل أشكاله وأنواعه، الذي يبقى العاطفة الفلسطينية الوحيدة، بل الجوهرية، بالنسبة الى هذا المنظور : انه ما يفسر كل هذا العنف، ويطلقه كظاهرة قائمة بذاتها بما يسمح بتصوير إسرائيل مجتمعا يمثل الصلاح والديمقراطية محاطا دوما بالغضب والعنف، من دون احتمال وجود أي تعليل منطقي للمواجهة بين رماة الحجارة وإسرائيل الصامدة في «الدفاع» ضدهم.
في كل هذا السيل الإعلامي لا نجد ذكرا لنسف المساكن ومصادرة الأراضي والاعتقالات اللاقانونية والتعذيب وما شابه، ولا نجد ذكرا للاحتلال العسكري الأطول عهدا في العصر الحديث (عدا احتلال اليابان لكوريا)، ولا عن قرارات الأمم المتحدة أو انتهاك إسرائيل لمواثيق جنيف - ولا شيء عن عذاب شعب بأكمله وتحجر شعب آخر تجاه ذلك. وغطى النسيان نكبة 1948 والتطهير العرقي والمجازر في دير ياسين وقبية وصبرا وشاتيلا، والسنين الطويلة من الحكم العسكري على مواطني إسرائيل غير اليهود، ناهيك عن اضطهادهم المستمر كأقلية تشكل 20 في المائة من سكان إسرائيل. أما أرييل شارون فهو في أسوأ الأحوال شخصية «استفزازية» وليس مجرم حرب. وباراك «رجل دولة» وليس ذلك المشارك في عمليات الاغتيال في بيروت، كما أن الإرهاب يأتي دوما من الجانب الفلسطيني، أما إسرائيل فتقتصر أعمالها على الدفاع.
ما يغفله فريدمان و «دعاة السلام» الإسرائيليون عند الإشادة بكرم باراك الذي لا سابق له هو جوهر تلك العروض؛ انهم لا يذكرون أن التزامه في «اتفاق واي» قبل 18 شهرا القيام بانسحاب ثالث (من نحو 12 في المائة) لم يتحقق أبدا. ما هي أذن قيمة المزيد من هذا النوع من «التنازلات»؟ ويخبروننا أنه مستعد لإعادة 90 في المائة من الأراضي، لكنهم لا يقولون أنها لیست 90 في المائة من المجموع، بل من المتبقي من أراض لا تنوي إسرائيل أبدا الانسحاب منها. فمساحة القدس الكبرى تزيد على 30 في المائة من الضفة الغربية، فيما مساحة المستوطنات الكبيرة التي تنوي إسرائيل ضمها تشكل 15 في المائة إضافية، زد إلى ذلك الطرق والمناطق العسكرية التي لم تحدد بعد. إذن، وبعد حذف هذه المساحات، فإن هذه التسعين في المائة من الباقي لا تعني الكثير.
أما بالنسبة الى القدس فقد كان التنازل الرئيسي الإسرائيلي هو الاستعداد في البحث، ومن ثم ربما، ربما فقط، عرض سلطة مشتركة على الحرم الشريف. الغش المذهل هنا أن عرفات تنازل أصلاً عن القدس الغربية بأسرها، العربية في شكل رئيسي في 1948، إضافة الى غالبية القدس الشرقية حسب توسيعها الهائل لاحقاً. ومن التفاصيل المفيدة أن إطلاق النار من بيت جالا من قبل الفلسطينيين على مستوطنة غيلو يصور على انه من قبيل العنف الأعمى. فيما الحقيقة التي لا يذكرها أحد أن غيلو تقبع على أرض صودرت من بيت جالا. إضافة ذلك فقد كان الرد الإسرائيلي مفرطاً في العنف، حيث قصفت طائرات الهليكوبتر بيت جالا بالصواريخ ودمرت فيها عدداً من مساكن المدنيين.
قمت منذ 28 أيلول (سبتمبر) بجردة مفصلة للصحف الأميركية. ووجدت يومياً منذ ذلك التاريخ من واحدة الى ثلاث مقالات تحريرية في كل من «نيويورك تايمز» و «واشنطن بوست» و «وول ستريت جورنال» و «لوس انجليس تايمز» و «بوسطن غلوب». وكانت كل المقالات ربما باستثناء ما لا يزيد على ثلاث منها كتبت من منظور مؤيد للفلسطينيين في «لوس انجليس تايمز»، ومقالتين في «نيويورك تايمز»، واحدة من المحامية الإسرائيلية أليغرا باتشيكو والثانية من الصحافي الليبرالي الأردني المؤيد لأوسلو رامي خوري - مؤيدة لإسرائيل وعملية السلام برعاية الولايات المتحدة، وملقية المسؤولية عن الأحداث على العنف الفلسطيني وعدم تعاون عرفات والأصولية الإسلامية. وكان من بين كتابها معلقون دائمون مثل فريدمان ووليام سافاير وتشارلز كراوتهامر وأمثالهم، وكلهم كانوا سابقاً من المسؤولين العسكريين والمدنيين الأميركيين، ودعاة لإسرائيل ومسؤولين سابقين فيها، ومختصين وخبراء في مراكز أبحاث ومسؤولين في لوبي إسرائيل والتنظيمات المؤيدة لها بكلمة أخرى. هذه التغطية الشاملة في الصحف الرئيسية تفترض أن لا وجود لموقف فلسطيني أو عربي أو مسلم من قضايا مثل تكتيكات الإرهاب الإسرائيلية ضد المدنيين وكولونيالية المستوطنين والاحتلال العسكري، أو أن ذلك الموقف لا يستحق السماع.
إنه في الحقيقة وضع لا سابق له في تاريخ الصحافة الأميركية، وهو انعكاس مباشر لعقلية صهيونية تجعل من إسرائيل المقياس المطلوب للسلوك الإنساني، ومثل هذه النظرة المنصفة تقصي وجود 300 مليون عربي و2/1 بليون مسلم. هذا الموقف الصهيوني بالطبع انتحاري على المدى البعيد. لكن يبدو أن الغرور بالقوة يحجب هذه الحقيقة عن الجميع.
العقلية التي وصفت مذهلة في تهورها، ولو اقتصرت على تشويه الحقائق ربما أمكن اعتبارها نوعاً من الجنون الفرد، لكن خطرها هو ما تجرّه من مستتبعات عملية على الأرض.
فهي تتطابق في شكل دقيق مع سياسة إسرائيل الرسمية في التعامل مع الفلسطينيين ليس كشعب مسلوب تاريخيا وتتحمل إسرائيل في شكل رئيسي المسؤولية المباشرة عن ذلك، بل كإزعاج عابر بين حين وآخر لا رد ممكنا عليه سوى القوة. ومن المستحيل التفكير في أي أسلوب آخر غيرها، من ضمن ذلك التفهم أو التجاوب. ويفاقم من هذا العمى المذهل في الولايات المتحدة أن ليس فيها من اهتمام يذكر بالعرب أو المسلمين سوى (كما قلت في مقالة سابقة) استهدافها عدائيا من جانب السياسيين الطامحين الى البروز. من ذلك إعلان هيلاري كلينتون قبل أيام، في رياء مقرف، أنها ستعيد الى مجموعة أميركية مسلمة تبرعا لحملتها الانتخابية بمبلغ خمسين ألف دولار، لأن المجموعة، حسب كلينتون، تدعم الإرهاب. وكانت هذه كذبة صارخة، لأن تلك المجموعة لم تزد على إعلان تأييدها مقاومة الفلسطينيين ضد إسرائيل في المواجهة الحالية.
وإذا بدا هذا الموقف عاديا فهو إجرامي في أميركا اليوم، لأن الهيمنة الصهيونية تضمن لأي انتقاد لإسرائيل (أي انتقاد، مهما كانت درجته أو نوعه) الرفض الفوري الكامل له واعتباره أحط صنف من اللاسامية. هذا برغم أن العالم بأسره انتقد سياسة إسرائيل في إدامة الاحتلال والعنف المفرط وحصار الفلسطينيين. أما في أميركا فعليك عدم انتقاد إسرائيل، وإلا ستطارد كواحد من اللاساميين الذين يستحقون أشد الازدراء.
من الصفات الغريبة الأخرى للصهيونية الأميركية، وهي نظام من الفكر المتناقض والتحريف الكلامي الذي وصفه أورويل، هي أن من المستحيل الكلام عن العنف «اليهودي»، أو الأعمال «اليهودية» عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، برغم أن إسرائيل تقوم بكل أعمالها باسم الشعب اليهودي باعتبارها دولة يهودية. ولا يذكر أبدا أن هذه التسمية خاطئة لأن عشرين في المائة من السكان ليسوا من اليهود، وهو ما يفسر ذلك التفريق العجيب بين ما يسمونه «عرب إسرائيل» و«الفلسطينيين»، بحيث لا يمكن لمشاهد أو قارئ أن يعلم انهم الشعب نفسه وقد فرقته السياسة الصهيونية، أو أن المجموعتين تمثلان نتيجة للسياسات الإسرائيلية، سياسة الفصل العنصري للمجموعة الإنسانية الأولى، والاحتلال العسكري والتطهير العرقي في ما يخص الثانية.
الخلاصة أن الصهيونية الأميركية جعلت أي مناقشة جدية لوضع إسرائيل ماضيا وحاضرا ومستقبلا أمرا محرما تماما، برغم أن إسرائيل هي المنتفعة الكبرى، وبتفوق هائل على غيرها، من المساعدات الأميركية. وليس من المبالغة القول أنها القضية الوحيدة التي بقيت قيد التحريم، بعدما توسع النقاش العام ليتناول بحرية (ولو ضمن حدود) قضايا مثل الإجهاض والمثلية الجنسية وأحكام الإعدام، بل حتى الموازنة العسكرية التي اعتبرت دوما مقدسة وفوق أي نقاش. إن في الإمكان إحراق العلم الأميركي علنا في الولايات المتحدة، لكن من المستحيل تصور مناقشة سجل إسرائيل تجاه الفلسطينيين منذ ١٩٤٨ الى الآن، فهذه هي القصة التي لا يسمح لها بالظهور.
إن في الإمكان التعايش على مضض، مع وضع كهذا، لولا أن نتيجته هي تصوير الانتهاك المستمر لإنسانية الفلسطينيين على انه فضيلة أخلاقية. إن تقارير التلفزيون عن القتل الذي يتعرض له أي شعب في العالم تثير أشد الاستنكار من المشاهد الأميركي - عدا عذاب الفلسطينيين، الذي يظهر أن غالبية المشاهدين الأميركيين تعتبره عقوبة مستحقة. ويجري صرف أعمال القتل اليومية هناك على أنها من قبيل «العنف المتبادل»، وكأن رمي الحجارة من قبل شباب نفد صبرهم من الظلم والاضطهاد جريمة كبرى، وليس مقاومة شجاعة لمصير المهانة الذي تحاول إسرائيل المسلحة أميركيا فرضه عليهم - وليس إسرائيل وحدها بل «عملية السلام» تلك المصممة بعناية لوضعهم في معازل و «بانتوستانات» لا تصلح إلا للحيوان.
الجريمة الحقيقية هي المؤامرة المستمرة منذ سبع سنوات من جانب مساندي إسرائيل في أميركا، الذين يحاولون فرض وثيقة هدفها احتجاز شعب بأكمله كما في سجن أو محجر. ولا أستطيع فهم أو تصور محاولة تمرير هذا على انه «السلام» المطلوب إلا على انه أحط نوع من اللا أخلاقية. والأبشع في كل هذا أن هناك حائطا حديديا يحمي الخطاب الأميركي فيما يخص إسرائيل مانعاً أي سؤال يمكن طرحه على تلك العقول التي وضعت صيغة أوسلو ونجحت في تسويقها طيلة السنين السبع هذه على أنها تعني «السلام». ولا نعلم أيهما أكثر شراً: العقلية التي تعتبر أن لا حق للفلسطينيين حتى بالتعبير عن شعورهم بالظلم، لأنهم أحط من أن يتمتعوا بذلك الحق، أم تلك العقليات التي تواصل التخطيط لفرض المزيد من العبودية عليهم؟
لو كان هذا كل ما هنالك لكفى وزاد. لكن ما يفاقم وضعنا المزري إزاء الصهيونية الأميركية هو غياب أي مؤسسة هنا أو في العالم العربي قادرة على إيجاد البديل. كما أخشى أن تظاهرات الحجارة في بيت لحم وغزة ورام الله ونابلس والخليل وغيرها لن تنعكس في شكل فاعل على القيادة الفلسطينية المترددة، التي لا تستطيع الانسحاب أو التقدم. وهذا هو أشد ما يحزن.
نشرت المادة في الثقافة الجديدة/ العدد 297/ كانون الثاني 2000