
إنّ اسم دولوريس ايباروري - رئيسة الحزب الشيوعي الإسباني - معروف على نطاق واسع خارج اسبانيا. فحياتها في النضال الثوري رديفة للإخلاص لقضية تحرير الشغيلة، قضية الطبقة العاملة. وفي سنوات الحرب الوطنية الثورية في اسبانيا والحرب العالمية الثانية وما بعدها كانت نداءات باسيوناريا (اسمها الحركي – المحرر) النارية تلهم الالوف العزمَ على محاربة قوى الرجعية. في كانون الاول (ديسمبر) 1985 بلغت ايباروري التسعين من العمر. وننشر هنا ما قالته في مقابلة أجرتها معها مجلة “قضايا السلم والاشتراكية”.
السلم والاشتراكية: شهدتم تطورات كبيرة حدثت في هذا القرن وشاركتم فيها، وساهمتم بقسط كبير في النضال من اجل التقدم وبناء حياة افضل للشغيلة، وفي سبيل المُثل الشيوعية. كيف تعتقدون ان هذه المُثل أثّرت في التطور الاجتماعي التاريخي؟
ايباروري: ان مُثُلنا، المُثل الشيوعية لتحرير الشغيلة اجتماعيا اضاءت كل حياتي المكرسة بأكملها للنضال. وفي كتاب “الطريق الوحيد” اوضح ما عناه انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا بالنسبة لي. ففي ذلك الحين لم أكن قد ادركت تماما بعد جسامة هذا الحدث وأثره على مستقبلي ومستقبل ملايين الناس والبشرية جمعاء.
ومع ذلك شعرت بالفطرة انه كان أمرا عظيما لا يسبر غوره. ولم أستطع حينذاك ان أفكر بشيء سوى تلك البلاد التي اصبحت منذ تلك اللحظة قريبة إلينا جميعا. وطبعت كلمتان في ذاكرتي الى الأبد، تاركتين أبلغ الاثر في قلبي وعقلي: “روسيا ولينين”.
لقد مرّ زهاء 70 عاما منذ ذلك الوقت. وظهرت على خارطة العالم منظومة كاملة من البلدان الاشتراكية الخالية من الاستغلال الرأسمالي. ونفضت عشرات البلدان عنها نير الاستعمار لتصبح سيدة مصائرها. كما شرع وطني ـ إسبانيا حيث انتفضنا قبل نصف قرن ضد الفاشية ـ في السير على طريق الديمقراطية بعد سنوات العذاب الطويلة في ظل دكتاتورية فرانكو الملطخة بالدماء، مع ان ذلك لم يكن بالأمر الهين.
لهذا السبب مازالت مُثلنا مرشدا ومعينا من الأمل لا ينضب للمقهورين وغاية للنضال مهما بلغت الاتجاهات الاجتماعية – التاريخية الراهنة من تعقد وتنوع.
السلم والاشتراكية: انضممتم الى الحزب الاشتراكي ثم الى الحزب الشيوعي قبل ما يربو على ستة عقود. وبعد أن ذقتم مرارة الحياة التي كان عمال المناجم الاسبان وعائلاتهم يعيشونها في المعركة من أجل التحرر الاجتماعي للطبقة العاملة، من اجل حاجاتها وحقوقها. كيف تبدو اهمية هذه الاسباب بالنسبة لك الآن؟
ايباروري: الحق ان الكثير قد تغيّر في غضون هذه العقود الستة، لكن المبادئ ظلت واحدة، تغير تركيب الطبقة العاملة من بعض النواحي واتسعت صفوف حلفائها، ولم تتناقص نتيجة الثورة العلمية التقنية. وأصبحت أشكال النضال بالغة التنوع في الوقت الحاضر. بصرف النظر عن ذلك كله فإن هدفنا الدائم هو خدمة تطلعات وحقوق ومصالح الشغيلة. وبمعنى أوسع سائر المتأثرين بسياسات رأس المال الكبير. كما برزت بعض الظواهر الجديدة ومنها ما يعرف بـ “الحركات الاجتماعية الجديدة”: الحركات الايكولوجية والأنثوية، الخ، وهي، رغم انعدام تجانسها وافتقارها في بعض الاحيان الى الآراء المحددة بوضوح، حركات معادية للرأسمالية من الناحية الموضوعية واندمجت في موجة احتجاج عارمة تعكس وجود أزمة اجتماعية عميقة مكملة للأزمة الاقتصادية الراهنة. ولكن التناقض الرئيسي ما زال التناقض التناحري بين العمل ورأس المال، بين المضطهَدين (بالفتح) والمستغليِن (بالكسر). لذا ما زالت الطبقة العاملة هي المحرك الرئيسي وراء التغير الاجتماعي الحتمي بأوسع ما في الكلمة من معنى.
السلم والاشتراكية: كونكم من المناضلين القدامى في الحركة الشيوعية العالمية ما رأيكم بدورها وموقعها في عالم اليوم؟
ايباروري: إنني من دون اطلاق أية تعميمات اعتقد بصفتي رئيسة الحزب الشيوعي الإسباني، أحد فصائل الحركة الشيوعية العالمية، إنها تضطلع بدور كبير في عالم اليوم لأسباب متعددة منها وجود بلدان بضمنها دول كبرى مثل الاتحاد السوفيتي والصين، تقودها أحزاب شيوعية. كما ان بلداناً اخرى سلكت طريق التطور الاشتراكي بسمات خاصة.
يضاف الى ذلك ان حركتنا مهما بلغت من تنوع وتباينت ظروف عمل الاحزاب المختلفة وجذورها التاريخية، الخ، ترص صفوفها على اساس احترام كل حزب واستقلاله في صياغة استراتيجيته وتكتيكاته وعدم التدخل في شؤون بعضها البعض.
لقد اظهرت التجربة التاريخية لنا ضرورة الابتعاد عن النظرة الجامدة الضيّقة شريطة ان نكون مخلصين اخلاصا تاما للنظرية الماركسية التي نراها تتطور باستمرار مواكبةُ روح العصر. انني معجبة بعبقرية لينين، وأيدتُ دائما موقفه الذي اعاد للماركسية زخمها الثوري، واثبت ان بالإمكان تطوير افكار ماركس وأنجلس في العصر الجديد – عصر الامبريالية. وفي الوقت نفسه فان ما يرتدي أهمية كبيرة بالنسبة للحزب الماركسي الثوري هو ان يعتمد سياسة تحالفات سليمة تعني الآن على مختلف جبهات النضال وحدة العمل او التقرب من الاشتراكيين والاشتراكيين الديمقراطيين والمسيحيين التقدميين وغيرهم وكذلك من الحركات الاجتماعية الجديدة التي سبق ان اتيتُ على ذكرها.
السلم والاشتراكية: إن اسمكم يقترن بسنوات المقاومة ضد الفاشية والتصدي لقوى الرجعية والحرب. فما هي برأيكم الدروس الرئيسية لتلك السنوات؟ وما هو شعوركم بمناسبة حلول الذكرى الخمسين في وقت لاحق من هذا العام لانطلاقة الحرب الوطنية الثورية في اسبانيا؟
ايباروري: ان العبرة الرئيسية لتلك الفترة، كما أراها، هي ان الشعب المناضل الموحد من اجل قضية عادلة والمصمم على تحمل كل المشقات شعب لا يقهر. لقد كان شعارنا “لن يمروا!” وعلى الرغم من هزيمتنا التي كان من اسبابها الرئيسية سياسة ميونيخ التي اتبعتها الدوائر البريطانية والفرنسية الحاكمة، فقد كان النصر حليف العدالة في غمرة نضال الشعب الاسباني من اجل الديمقراطية: لقد كان النصر حليف الشعب.
وبالنسبة لي فإن الذكرى الخمسين لانطلاقة الحرب الوطنية الثورية في اسبانيا تستعيد في المقام الاول ذكريات البطولة التي ابداها شعبنا الذي ضرب مثالا لأوربا والعالم اجمع بصموده على امتداد ثلاث سنوات تقريبا، أمام هجمة العصاة الفرانكويين المدعومين بغزو قوات هتلر وموسوليني.
لقد عملت سياسة الجبهة الشعبية التي انتهجها الحزب الشيوعي الاسباني، على توحيد القوى الديمقراطية التي كانت دعامة المقاومة ضد الفاشية. ولم يتوقف القتال على الجبهة: إلا حين افلح المتخاذلون في فصم عرى هذا التحالف الشعبي بذريعة واهية هي الحاجة الى “سلام مشرف” رغم استمرار المقاومة ضد فرانكو، بوحي من حزبنا بالدرجة الرئيسية، على شكل عمل مسلح في البداية، ثم من خلال اقامة حركة عمالية وتضافر قوى الشغيلة والطلبة ومجموعات أخرى في المطالبة بإصدار عفو عام وإطلاق الحريات الديمقراطية.
السلم والاشتراكية: لقد اظهرت سنوات النضال الذي خاضه الشعب الاسباني ضد الهجمة الفاشية بشكل ساطع القوة الجبارة للأممية البروليتارية والتضامن الأممي للشيوعيين وسائر القطاعات التقليدية والديمقراطية في التصدي لمخططات القوى الإمبريالية والرجعية العدوانية وصيانة السلام والديمقراطية. ما هي في رأيكم أهمية هذا التضامن الآن؟
ايباروري: الحق ان التضامن الأممي للشيوعيين وسائر القوى التقدمية مع اسبانيا الجمهورية في نضالها ضد الفاشية المحلية والعالمية تجلى بأروع صورة في تلك السنوات. ومآثر الفيلق الأممي لن تنسى. ومنذ ذلك الحين أبدى الشيوعيون الاسبان في اكثر من مناسبة تضامنهم الأممي مع الشعوب المناضلة من اجل تحررها: مع فيتنام التي تصدت للامبريالية الأمريكية، مع كوبا التي واجهت بشجاعة الحصار والتدخل الأمريكي، مع الشعب الفلسطيني – ضحية العدوان الاسرائيلي، والآن مع شعب نيكاراغوا الذي يتعرض الى تهديدات واشنطن. وباختصار إننا، كشيوعيين، أمميون حقيقيون أيضا وبذلك نرد قسطا من دين التضامن الذي قدم لنا بثبات لا في خلال السنوات الثلاث من النضال المسلح فحسب، بل وفي فترة المقاومة ضد دكتاتورية فرانكو.
السلم والاشتراكية: كنتم في الثلاثينات عضوا في البرلمان ونائبا لرئيسه. وكان لخطاباتكم أثر بالغ في الجمهور وقد ألهمت الديمقراطيين الاسبان للنضال ضد الدكتاتورية. ما هو في رأيكم “السر” في الطريقة التي يؤثر فيها الخطيب أو الشخصية الاجتماعية في الجماهير؟ هل مازالت ثمة حاجة ملحة لأن يعمد القائد السياسي الى مخاطبة الناس بصورة مباشرة؟ هل طغى التلفزيون على هذا الفن؟
ايباروري: يتوقف تأثير الخطيب او السياسي في الناس على أمر في غاية البساطة لكنه لا يتحقق بسهولة، وهو المقدرة على الارتباط بهم ومشاطرتهم مشاعرهم والحديث بلغة يفهمونها (من دون تبسيط) عن القضايا التي تهمهم. وحين تخاطب جمهوراً كبيراً تشعر على الفور ما اذا كانت الكلمات استعصت على فهم الناس أم لم تستعص، ولا توجد وسائل خطابية تقليدية تعوض عن هذا الفن. وكان شاعرنا العظيم انطونيو ماتشادو يقول: “أن اتحدث كما يتحدث الشعب: ماذا يمكن ان اتمنى اكثر من ذلك”!
ولا ريب في ان التلفزيون وغيره من اجهزة الاعلام السمعية – البصرية العصرية قد جاءت معها بوسائل جديدة مما يؤسف له ان البرجوازية تستخدمها للتعتيم على الناس وتضليلهم لا لتنويرهم. ولكن ما من تقنيات مهما بلغت من تقدم تستطيع ان تحل محل الكلمة الانسانية المنطوقة، كلمة الشعب المصمم على دفع عجلة التاريخ باتجاه التقدم. وما زال من المتعذر الاستعاضة عن الحوار المباشر بين القائد السياسي بل وأستطيع القول بأن الناس يزدادون خبرة وتطلبا. وهو يدركون على الفور ما اذا كان القائد السياسي صادقاً ام مزيفاً.
السلم والاشتراكية: بوصفكم امرأة وأماً عانيتم الكثير من المحن – فأولا امتدت يد الفقر والمرض اللذين ابتليت بهما عائلات عمال المناجم، لتخطف منكم بناتكم ثم استشهد إبنكم في معركة ستالينغراد وهو يقاتل الفاشيين. ما الذي تتمنونه للنساء في مختلف البلدان؟ ما هو دورهن في عالم اليوم؟
ايباروري: ماذا يمكن أن أتمنى للنساء في مختلف البلدان؟ بادئ ذي بدء، السلام وإزالة خطر نشوب حرب نووية من المؤكد انه لن يكون فيها غالب او مغلوب. لن يكون أي شيء ممكنا من دون سلام. والنساء، كما تعلمنا حركة السلام الواسعة (والتي تكتسب في اسبانيا شكل حملة ضد حلف شمال الاطلسي ومن أجل حل التحالفات العسكرية في آن واحد ونزع السلاح وانتهاج سياسة حياد ايجابي) قوة كبيرة ليس من الناحية العددية فحسب، بل وبسبب تفانيهن بلا تحفظ في سبيل قضيتهن. وسيكون الفشل مآل كل تغيير ثوري اذا ما اخفقنا في ان نزج فيه جماهير النساء بطاقاتهن التي لا تنضب وبحكمتهن وتفانيهن.
السلم والاشتراكية: ما هي السمات التي تعتقدون أنها مميزة وهامة في الشيوعيين؟ وما الذي تتمنونه للشباب، للأجيال الجديدة من الشيوعيين؟
ايباروري: أعتقد أن من سمات الشيوعيين البارزة هي اخلاصهم التام في خدمة مصالح الشغيلة والمقهورين ومعارضتهم لأي شكل من أشكال اللامساواة الاجتماعية، صمودهم في الملمات والخطوب، احساسهم التضامني. هذا على وجه التحديد هو الخلق الشيوعي المستند الى مبادئ اخلاقية سامية والناجم عن قناعات شخصية وليس عن نمط من السلوك يفرضه عليك شخص آخر. واشعر ان لهذا الخلق أهمية بصفة خاصة فيما نعرفه بـ”المجتمع الاستهلاكي” الذي أوقع الناس في شباك من القيم الزائفة بالمعنى الحر للكلمة.
وإني اذ اتوجه الى الشباب كافة وبالتحديد الى الاجيال الفتية من الشيوعيين أتمنى لهم ان يواصلوا ارث الاجيال الثورية السابقة والحفاظ على هذا التقليد في النضال من اجل عالم أفضل وأكثر عدالة، تلك القضية التي وهب الكثير من الاخيار حياتهم من أجلها. واني اذ اقول ذلك لا أنطلق من مشاعر الامومة وحدها لأنني اريدكم ان تكونوا قادرين على بناء مجتمع يتناغم مع عصركم.
أتمنى أن تبقوا مخلصين لقضية الاجيال السابقة من الشيوعيين وألا تبقوا مشدودين الى الماضي وإنما ان تسيروا بثبات الى الامام في طموحكم، وان تقدموا الحلول وفقا لما تمليه افكاركم من المتطلبات الجديدة لهذا العالم الفسيح المتغير على الدوام.
* مجلة (الثقافة الجديدة)، العدد 175/ تموز 1986، ص 119 – 123.