توطئة
يتمتع صدر الإسلام بموقع خاص في مجمل التاريخ المطرد للعرب من جهة، وتاریخ الاسلام من جهة اخرى. وقد تبلورت في إبانه أمور كان لها تأثيرها على مدى عصور متعاقبة ربما اتصلت بأيامنا الحاضرة. فقد شهدت هذه الحقبة انتقال العرب من القبيلة الى الدولة ونشوء المجتمع العربي القائم على التراتب الطبقي، وفيها وقعت الانقسامات الكبرى في الإسلام، كما تحدد الكثير من الأوضاع الدينية والسياسية التي صارت من سمات مجتمع الاسلام في صيغته الناجزة. من المؤكد ان هذه التحولات ترتبط بأساس التحول الجذري الذي أصاب الحياة العربية بظهور الاسلام، ولكن اذا كانت ملابسات هذا الظهور مناط اختلاف شديد بين الباحثين ومنطوية، قبل ذلك، على مردودات سجلتاريخية في غاية التعارض، فان تاریخ صدر الإسلام يوفر لنا مجموعة من المواد المنسقة، يمكن أن تخدم هدف السعي الى تشخیص طبيعة ومجرى التحولات التي تمكنت فيه . وربما وفر ذلك اغراء لدراسة هذه الحقبة على انفراد، رغم ما في الاستجابة لهذا الاغراء من دلالة على حب العافية وإيثارها على الخوض في معمعة قد لا يخرج منها المرء بنتائج قاطعة ، مهما يكن الحال فان دراسة صدر الإسلام تتمتع بقيمة غير ضئيلة في دراسة ما قبلها، فضلا عن أهميتها بالنسبة الى ما بعدها، وذلك بالنظر إلى ترابط هذه الحقب.
كثيرا ما تواجهنا في دراسة هذه الحقبة وجهات رؤية ينطلق في إنشائها من المظهر الديني الغليظ الذي يسطح ناسها وأحداثها. وقد أعطى المستشرقون قسطا وافيا من الاهتمام بهذا المظهر فوقعوا في خطيئة التفسير العقائدي لوقائع مشبعة بالحوافز والنوازع البشرية، وانتهى الكثير منهم تحت تأثير هذا الفهم الى رسم لوحة لأحداث صدر الإسلام، يدور فيها الصراع بين طرفين: اهل الورع والتقوى، واهل الدنيا ... وانها لمفارقة ان تحملنا هذه اللوحة على العودة الى ما قبل الاستشراق، ساعين الى استجواب بعض الشهود العيان حول أسرار ما جرى لهم أو على مقربة منهم. وفي هذا الصدد يرد في بعض المصادر ان عمر عبدالعزيز (101 هجرية) قال مشيرا الى اختلاف المسلمين (1): “أن هذه الامة لم تختلف في ربها ولا في نبيها ولا في كتابها، وانما اختلفت في الدينار والدرهم”، وفي رواية عن الحسن البصري (110ھ) استغرب فيها من حمل السلاح ضد الخليفة الأموي قائلا انه لا يمنع احدا من “الصلاة وايتاء الزكاة والحج والعمرة”، فما الداعي لقتاله؟ وقد اجاب على ذلك ان رفع السلاح يستهدف مطالب دنيوية (2). وتكلم الداعية الإسماعيلي ابن حیون (363 هجرية) عن اختلاف الفرق الإسلامية فقال ان مرده الى الانقسام حول الخلافة، ای حول السلطة(3) وفي وسعنا أن نستذكر اخيرا نبوءة تقول ان الدينار والدرهم اهلكا من كان قبلكم وهما مهلکاکم. وقد اسندها صاحب أصول (الکافی 329 هجرية) الى علي عن محمد(4). وتقع هذه النبوءة في صميم احداث صدر الاسلام. ولعلها أن تكون من نسج هذه الاحداث نفسها.
هذه الإشارات تستبطن بدورها حقيقة ان قدرا من الخلاف حول فروع الدين لا يبرر كل تلك الحروب الأهلية الطاحنة. فأي وجه من الصراع الدامي يمكن ان يحمله الاختلاف حول شعائر الحج والصلاة؟ وحول ما إذا كان من الصواب في الوضوء المسح على الخفين او على ظاهر القدمين؟ في الواقع أن هذه الاختلافات في فروع الدين لم تتجاوز في تأثيرها دائرة النقاش الفقهي دون ان تصل الى تشكيل مبرر لتكفير الفقهاء بعضهم بعضا او لاشهار السلاح بين مسلم حاکم ومسلم محکوم.
ان ثمة عددا من العوامل التي كونت خلفية لصراع صدر الإسلام، تمنحه صفة الصراع الاقتصادي، بامكاننا أن نرصد من بينها، قوة العناصر الدنيوية في الاسلام المبكر والتأكيد الواضح للاهتمام بالمطالب الدنيوية وعدم التخلي عنها لاغراض رهبانية، لم تلق أي تحبيذ من مؤسس الاسلام. وقد اعطت الممارسات التي شكلت مفهوم “السنة” دليلا على ان التمسك بهذه المطالب يدخل في صميم خصائص المسلم ذي الايمان الصادق. وبازالة هذا التعارض بين الإيمان وحاجات الجسد انهار حجاب روحاني كان يمكن أن يكبح روح التنافس على المطالب الاقتصادية، والمادية بوجه عام. وقد تكافلت هذه النزعة مع التكوين السيكولوجي البدوي، المنحدر من بيئة تحكمها تقاليد البيئة “المشاعية”، والخاضع من الجهة الاخرى لتأثيرات ردود الفعل التي تثيرها المفارقة بين رفاهية المدينة وشغف البادية، مما يشكل بحد ذاته موقداً لصراع ذي محتوى اقتصادي سافر حيناً، ومستتر أحياناً.
ان هذه الدراسة تحاول بالاستناد الى هذه التخطيطات الأولية، القاء مزيد من الضوء على طبيعة هذا الصراع وابعاده، منطلقة من القناعات التي وفرتها المصادر ذات العلاقة.
عرض للطبقات في مجتمع صدر الإسلام
شغل الاسلام في هذه الآونة كلا من شبه جزيرة العرب والعراق والشام وأفريقيا الشمالية وايران وكردستان واجزاء من القفقاس، ويمكن القول تبعاً لذلك ان هذه الاقطار أصبحت داخل ما يصح عليه وصف عالم الاسلام، وان كان دخولها ذلك متفاوت الدرجة.
بالقياس الى نفس الحقبة، فهناك فارق ملموس بين مدى انتشار وتمكن الدين الجديد في جزيرة العرب وما جاورها كالعراق والشام وبين تلك الاقطار التي لم يمض على وصول الاسلام اليها امد يكفي لاندماجها في مجتمعه. وعلى اية حال فقد نجم عن هذا الامتداد الواسع لمجتمعات صدر الاسلام تفاوت كبير في التوزيع الطبقي، حيث نجد: في شبه جزيرة العرب مجتمعا يتألف من القبائل الرحل أو القبائل الحديثة الاستقرار في المدن أو القرى، فهو مجتمع قبلي - بدوي في بنيته الغالبة. وهناك فئة من التجار كانت تتجمع بالدرجة الأولى في مكة، كما وجدت في الجزيرة بعض العلاقات الزراعية في المناطق التي كانت صالحة للاستزراع كاليمن والمدينة والطائف في الحجاز، الا ان هذه العلاقات ظلت - ربما لمحدودية البيئة الزراعية - محكومة بالوضع القبلي السائد، اعني انها لم تتطور الی الحد الذي يكفي لإحداث تبدل جوهري في النظام الاجتماعي.. على أن قبائل الجزيرة عانت في هذه المرحلة تغيرا كميا، تمثل في تحول أعداد هائلة من أفرادها الى “مهاجرین” وهو وصف يشمل افراد القبيلة الذين يتركون البادية الى المصر - المدينة - بقصد العيش فيه والانضمام الى جيوش الفتح(5) وكان المهجر الأول هو بلدة يثرب التي تحولت الان الى مركز سياسي وعسكري يملك ثقلا سكانيا واجتماعيا متميزا على نطاق شبه الجزيرة.
اما في العراق والشام ومصر وبقية شمال افريقيا، فان الأغلبية كانت من الفلاحين، في مقابل طبقة مالكي - او حائزي - الأرض. وقد وجدت في مدن وقرى هذه الأقطار فئات من التجار والكسبة وارباب المهن كانت في البداية محدودة التأثير. على ان المدن التي مصرت بعد الفتح الإسلامي، او المدن القديمة التي صارت مركزا للنشاط الإسلامي مثل دمشق، الكوفة، البصرة، والفسطاط ، أصبحت تضم عناصر اجتماعية جديدة تتألف من مهاجري القبائل العربية، الى جانب اعداد آخذة بالتزايد من الفلاحين الذين هجروا قراهم، ثم الموالي وهم المسلمون من غير العرب، كما ضمت هذه المدن اعدادا كبيرة نسبيا من العبيد، الذين تكاثروا بسبب حروب الفتح.
منطلق الصراع
كانت القبائل العربية - او بعضها على وجه الدقة - قد بدأت تواجه قبيل الاسلام بعض اشكال الانفصام الاجتماعي بين افرادها العاديين وشخصياتها المتنفذة التي اخذت حينذاك تحمل لقب (اشراف). وقد تصاعد نفوذ هذه الشخصيات باتجاه تکوین مرکز اقتصادی متمایز. وتمثل ذلك بقوة في نظام الحمى الشخصي، حيث كان بمقدور الشريف ان يستولي على مساحة يحددها بنفسه ويجعلها مرعى خاصا لأبله وأغنامه. ويشير الحمی الشخصي الى اتساع الهوة ما بين مقتنيات أفراد العشيرة او القبيلة. اذ من الواضح ان مقدرة الشريف على الحمى لنفسه مستمدة من كثرة ما يملكه من الابل والغنم. وقد اخذ التفاوت الطبقي شكلا حادا، نسبيا، في مدينة تجارية مثل مكة، وبدرجة أقل في بلدة زراعية كيثرب والطائف وكثيراً ما تحدث القرآن عن مظاهر هذا التفاوت وآثاره خاصة في آيات الفترة المكية.
هذه المظاهر الأولية بالانفصام الاجتماعي سبقت مرحلة اشتداده وتحوله نوعياً في عاصمة الدولة الاسلامية الأولى – وقد اشرت آنفاً الى ان هذه البلدة قد اتسمت لتغدو مدينة كبرى تكتظ بالسكان، الذين وفدوا اليها من البادية لينضموا الى جيش الدعوة. وكان الحافز المعلن لهذه الهجرة الواسعة دينيا، الا ان نجاحات الدعوة، خاصة بعد فتح مكة، حملت اغراء قوياً لتلك الجموع الغفيرة التي انهكها الفقر في بوادي جزيرة العرب. وكان الانتقال من الاعرابية – البداوة – الى “المهاجرة” يوفر ضماناً اقتصادياً لهذه الجموع لا تجده في باديتها. هذا الضمان ادخلته قيادة الدعوة في جملة أهدافها ليصبح في ما بعد قاعدة شرعية ملزمة. وقد طبق بطريقة متفاوتة في المساواة الى نهاية عهد الخليفة الثاني، ثم أخذ يتعرض للخرق في عهد الخليفة الثالث. وقد اطلق على سياسة هذا الخليفة مصطلح (استئثار) ويقصد به الاستيلاء على الموارد العامة لمصلحة الخليفة وحاشيته والمقربين اليه، ويعني ذلك بدوره حرمان جمهور الدعوة من نصيبها المقرر في هذه الموارد. وقد امتدت سياسة الاستئثار فضلاً عن الموارد المالية، الى قطاعات اقتصادية رائسة كالاراضي، حيث اخذ عثمان بالاقطاع من ارض الخراج وهي رقبة عامة لا يصح الاقطاع فيها. كما عاد الى اسلوب الحمى الشخصي للمراعي الذي مارسته الأرستقراطية القبلية في السابق وابطله الاسلام المبكر، وتشدد عمر خاصة في تحريمه(6).
نجم عن سياسة الاستئثار ظهور فئة المستفيدين من السلطة الذين اطلق عليهم اصطلاح (اهل الاثرة) بفتحتين، اي الذين استأثروا بالمكاسب لانفسهم. وقد تألفت هذه الفئة من كبار الصحابة وقادة الفتح الذين أصبحوا بدورهم مالكي العبيد والعقارات والضياع، فضلا عن كنوز الذهب والفضة. ومن الجدير بالذكر ان عناصر هذه الفئة كانت محدودة الحرية في عهد عمر بن الخطاب الذي حجر على المتنفذين، من قريش خاصة، ومنعهم من مغادرة المدينة الى الامصار وذلك لخوفه، كما كان يقول: من استغلال مركزهم الدینی والسياسي للاثراء والتعسف بالناس. ويخبرنا الطبري ان عثمان رفع هذا الحجر فخرج هؤلاء إلى الأمصار، ولم يمض عليهم سنة حتى امتلكوا فيها الضياع والقصور. وكانت ثروات اهل الأثرة تتضخم بشكل مثير للانتباه بينما تركت جموع العرب المهاجرة في نفس حالتها التي كانت عليها، وهي في بواديها.
كان لمجمل هذه التطورات اثره الحاسم في احداث خلخلة في النظام القبلي على نطاق المدن، وذلك لحساب صراع اجتماعي كان قطباه: المستأثرين من مختلف القبائل، في مقابل جماهير العرب المسلمين من مختلف القبائل ايضا. وهنا واجه المجتمع العربي فرزا اجتماعيا تفاوتت فيه مواقع الناس، تفاوتاً حادا، بحسب علاقتهم بالسلطة وحظهم من أعطياتها وامتيازاتها. وقد اتخذت فئة أهل الأثرة وجها جديدا بالقياس الى شيخ القبيلة الجاهلي، حيث أصبح المستأثر يشغل موقعا سلطويا يستند الى تفوقه المالي. اما الفرد العادي فقد بات يواجه الى جانب انتمائه القبلي دولة يديرها “الجبابرة والأغنياء”. ومن الواضح بالاستناد إلى معطيات الأحداث ان المستأثر ينتمي الى “خاصة” المسلمين، اي الى الفئة القليلة منهم. اما الفرد العادي فينتمي الى “عامتهم” أي الى الاكثرية - وبذلك يأخذ الصراع حالة مجابهة بين أقلية حاكمة وأكثرية محكومة مما يؤدي بالضرورة الى اكتسابه محتوى ديمقراطياً في اطار معين. وسيأتي في الفقرات القادمة مزيد من الايضاح لهذه النقطة.
كان “الاستئثار” اذن محور الصراع بين مسلمي صدر الإسلام. وهنا ينبغي ملاحظة أن ظهور محرك اقتصادي أساسي لا بد أن يستتبع ممارسات تجري في الخط نفسه، فالتكامل بين نهج السلطة الاقتصادي وسياستها في سائر المجالات تمليه تبعية السلوك السياسي والقانوني للاقتصاد، وقد تحدثت مصادر سيرة الخليفة الثالث عن أمور تعتبرها من اسباب النقمة عليه، وهي في الحقيقة من مستلزمات النهج الذي سار عليه في المسائل الاقتصادية. من هذه الأمور ضرب الناس بالسوط والعصا، وهي كناية عن اسلوب معين للتنكيل مارسه الخليفة وعماله، ومنها استخدامه للصبيان المراهقين في المناصب السياسية والعسكرية. ويبدو أن هؤلاء كانوا يتصرفون على طريقة الجلاوزة المستبدين، وهو ما تشير إليه رواية للطبري وصف فيها علي بن ابي طالب سیاسة عثمان قائلا: اتخذ بطانة اهل غش ليس منهم احد الا وقد تسبب بطائفة من الأرض يأكل خراجها ويستذل اهلها. ويذكر القلقشندي عن عثمان أنه أول من اتخذ صاحب شرطة أي مدير للشرطة، ويعني ذلك تأسیس اول جهاز قمع في الاسلام. وتعكس هذه المبادرات بجملتها نزوعا نحو الاستبداد السياسی يسایر الاستثمار في المصالح الاقتصادية. وقد عبر احد اقطاب أهل الأثرة عن حاجة هذه الفئة الى البطش لمجابهة مد المعارضة لسياستهم، اذ يقول الزبير بن العوام - في رواية للطبري - معلقا على مقتل عثمان: إذا لم يفطم الناس عن أمثالها لم يبق إمام الا قتله هذا الضرب .. والضرب كناية عن الموجة التي اكتسحت الخليفة الثالث . ويتكلم الزبير هنا بلغة قد تبدو غريبة على مسمع عرب ذلك الزمن، الذين لم يكونوا قد استكملوا في أذهانهم، بعد، صورة ملموسة للقمع السياسي.
مجرى الصراع
مرّ بنا أن مبدأ ضمان المهاجرين طبق حتى نهاية عهد الخليفة الثاني بطريقة متفاوتة الدرجة في المساواة. ويتعلق الأمر هنا بقدر من التحيز في خطة توزيع “العطاء” واذا تركنا جانبا مسألة المؤلفة قلوبهم لما تثيره من الملابسات، فان خطة عمر بن الخطاب تعطي مثالا لهذا النوع من التحيز. فقد فرق عمر في تقدير العطاء بين المسلمين بحسب السابقة والقرابة والبلاء: أي بحسب زمن الدخول في الإسلام ودرجة القرابة من النبي ودور الفرد في الجهاد. وبموجب هذه الخطة حصلت فئات معينة من المسلمين - الأولين وكبار الصحابة وبني هاشم وقادة الفتح علی امتيازات مالية خاصة، ما مهد لنشوء فئة المستأثرين التي ذكرناها في الفقرة السابقة. ويبدو أن عمر قد استشرف في اواخر ايامه مساوئ هذه الخطة فاعلن في رواية للطبري عزمه على مصادرة الفائض من اموال هذه المجموعة، ونص اعلانه يقول: لو استقبلت من امري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء ورددتها على فقراء المهاجرين.. (الفضول هي الفرائض) وفي رواية أوردها ابو يوسف في الخراج اعلن عمر نيته في نبذ خطته المذكورة والعودة الى المساواة في العطاء، أي الغاء الاعتبارات التي استخدمها لهذا الغرض. لكن عمر لم يعش طويلا حتى يحقق أفكاره الجديدة، وقد أتاح مقتله فرصة كبرى للفئة الجديدة لكي تقفز الى السلطة عن طريق عثمان وفق الأسلوب الذي اتبع في مسألة الشوری. وقد تصرف عثمان في خلافته كممثل لمصالح الذين استخلفوه حيث يسجل عهده بداية السيطرة الكاملة لأهل الأثرة على مرافق الدولة الإسلامية ومواردها. وهو يسجل في الوقت عينه، وتحت تأثير نفس العوامل، ظهور المعارضة المنظمة لسلطة الخليفة المسلم، وقد تمحورت نشاطات المعارضين حول علي بن ابي طالب الا ان العناصر البارزة في جبهة المعارضة جاءت من خارج قريش، اذا استثنينا محمد بن أبي بكر وهو ربيب علي - ويقفز الى المقدمة اسم عمار بن یاسر وهو كما نعلم من العبيد السابقين في مكة وابو ذر الغفاري ومالك الأشتر النخعي، وقد لعب الأول والثاني دورا أساسيا في التأليب ضد الخليفة، وبسبب ذلك نفي الثاني من الشام الى المدينة ثم عاد الى البادية وظل منفيا الى وفاته، نظر إلى عمار بوصفه من اوائل مثيري الفتن في الاسلام (7) وكان يتعرض بسبب نشاطه المناوئ للخليفة الى الضرب والجلد، هذا عدا الاضطهاد المعنوي الذي كان يعانيه بسبب ماضيه الطبقي. أما الأشتر فقد تولى تنظيم معارضة اهل الكوفة وقاد في نهاية الأمر مسلحيهم الذين قصدوا المدينة واشتركوا في حصار عثمان وقتله بالتنسيق مع الساخطين من مصر والحجاز.
كانت الانتفاضة المسلحة ضد عثمان مدخلا للحرب الأهلية في الإسلام، وقد اخذت هذه الحرب شكلها النظامي في عهد علي بن ابي طالب، الذي قيل عنه قديما انه اول من علم قتال أهل القبلة أي أول من وضع القواعد التي تحكم الحرب بين المسلمين. ويمكن اعتبار الجمل وصفين صدى عسكريا للمشكلة التي أثارتها سياسة الاستئثار. وكانت جبهتا المعارك تتألف من نفس طرفي الصراع في عهد عثمان: أهل الأثرة والمحرومين. وقد سجل استيلاء معاوية بن ابي سفيان على الخلافة بعد اغتيال علي، وتنازل ابنه الحسن نصرا حاسما للطرف الاول، حيث حققت سياسة الاستئثار أبعادها الكاملة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. وكان هذا التحول يعني في جوهره اتباع سياسة نهب منظم في الداخل مع اتخاذ النهب الخارجي - الفتوحات - بعدا متطرفا، هذا مع استكمال الدولة منذ عهد معاوية الأول طابعها الاستبدادي كدولة من الطراز الشرقي الشائع (8) على أن هذه السياسة كانت سببا في تشديد اوار الحرب الأهلية التي خاضتها من الجانب الاخر: عامة المسلمين من عرب شبه الجزيرة والموالي الذين دخلوا ساحة الصراع منذ وقت مبكر قد يتصل باواخر الراشدين. وقد انتظم هذا الطرف في تنظیمات ذات صفة حزبية (الفرق) وهي هنا: شيعة العراق، الخوارج، القدرية. وكانت هذه الفرق تسلك بوجه عام سبیل العمل السري ثم تظهر في حركات مفاجئة في المناطق التي تختارها ميدانا لنشاطها العسكري. وقد انفرد الخوارج باتباع اسلوب مشابه لحرب العصابات يظهر من رواية للجاحظ. ان تخطيطه يرجع الى الاحنف بن قيس (72هـ) احد الدهاة المشهورين(9). وانضم الى هذا المعسكر عدد من الفقهاء ذوي الميول المعادية للاستبداد حيث نشأت في هذه الاثناء حركة مقاطعة الاشتغال في الدولة - القضاء خاصة - وكونت تیارا ساحقا ساهم في عرقلة جهود الدولة الأموية لإقامة جهازها القضائي.
سلكت الحرب الأهلية في هذا العصر خطاً يختلف بعض الشيء عن خط الحروب الخارجية، فقد جرت الاخيرة ضمن الحدود المتعارف عليها دوليا في تلك الأيام، والتي وفر مبدأ المقابلة بالمثل عاملا هاما في فرض احترامها على الأطراف المتحاربة. اما الحرب الأهلية فكانت في منأى عن هذه القيود، وما هو اهم من ذلك كونها حربا تقوم على صراع اجتماعي مباشر ما جعلها تبدو في ممارستها من قبل الدولة حرب فظائع اكثر منها حربا اعتيادية. لقد اتبع الأمويون والزبيريون - وهو نفس النهج الذي سار عليه العباسيون في ما بعد – عددا من الاجراءات بحق الطرف الاخر في هذه الحروب يشمل:
1 - قتل الأسرى: ان الاسير في الحروب الخارجية كان يسترق او يفادى ولا يقتل الا في حالات مخصوصة. اما اسير الحرب الاهلية فليس أمامه الا القتل. وفي الحروب الكبيرة كانت هذه الخطة تعني مذبحة جماعية كما فعل الحجاج بأسری دیر الجماجم، ومصعب بن الزبير بأهل الكوفة بعد تصفية حركة المختار. وقد اقترن قتل الأسرى عند العباسيين باضافات: فالأسير لم يعد يقتل بالسيف في كل الأحوال، بل يحرق حيا او يشوى على نار هادئة او يبنى عليه بناء وهو حي.
2- استباحة المدن العاصية: ويتوقف هذا على مدى التأييد الذي يمنحه اهل المدينة للثائرين، ولهذا السبب استبيحت المدينة لمدة ثلاثة أيام على يد جنود أهل الشام سنة 63 هـ، لان اهلها اجمعوا على خلع الخليفة الأموي. وتفيد بعض المصادر أن سبعة الاف عذراء من بنات المدينة ولدن بعد هذه الحادثة من غير زواج، وهو يشير مع مراعاة المبالغة في الرقم، الى الشكل الذي تمت به الاستباحة، ونفذت خطة مماثلة في أول الحكم العباسي ضد مدينة الموصل. ومن الجدير بالذكر ان مثل هذه الحوادث لم يقع في حروب الفتح.
3 - التمثيل بجثث القتلى وحمل رؤوسهم المقطوعة من بلد الى اخر وتعليق أجسادهم في الأماكن العامة وحرقها بعد ذلك، وقد بلغت خصوبة الخيال عند بعض الولاة أنه أمر باحراق جثة احد الزعماء الثائرين في الكوفة، ونشر الرماد في مكانين: نهر الفرات والمزارع وقال معلقا على ذلك: يا اهل الكوفة لأجعلنكم تأكلونه في طعامكم وتشربونه في مائكم.
كما طبقت في الأحوال الاعتيادية اجراءات ضد المعارضة من قبيل:
1 - الحبس على التهمة - ويقصد به حجز المشتبه بولائهم. وليس للحبس امد معين فهو رهن بالوضع السياسي والعسكري. ومن الأرقام المثيرة في هذا الصدد قول المسعودي “في مروج الذهب” أن الحجاج مات وفي سجنه خمسون الف رجل وثلاثون الف امرأة منهن ستة عشر امرأة حبسهن عاريات وكان سجنه بلا سقف.. “الرقم يؤخذ للدلالة على الكثرة لا بحرفيته”.
2 - الإعدامات وكانت تسمى القتل صبرا. ويذكر المسعودي أن عدد من أعدمهم الحجاج بلغ مئة وعشرين الفا من العراقيين، في حين تذکر رواية للطبري أن هذا العدد بلغ عند ابو مسلم الخراساني ستمئة الف. وأعدم والي البصرة زمن معاوية، وهو الصحابي سمرة بن جندب ثمانية الاف.
الحدود الطبقية للصراع
أوضحت في السطور السالفة أن الصراع الاجتماعي في صدر الإسلام كان صراعا بين أهل الأثرة وجماهير المحرومين. ومن الجدير بالملاحظة أن كلا طرفي الصراع كان من العرب وهو لذلك، وكما بيّنا، اول تجربة من نوعها يخوضها هذا الشعب البدوي الذي نقله الاسلام من القبيلة الى الدولة. على ان ارتباط هذه العملية بالدين فتح باباً للخروج من اطار الشعب الواحد الى الشعوب المتعددة. وبالنظر الى ان اعتناق هذا الدين كان يمنح المرء عضوية كاملة مجتمعة فقد انضمت الى الصراع عناصر غير عربية، دخلت الاسلام مع بداية التوسع خارج بلاد العرب، وبهذا اتسع نطاق المحرومين بانضمام الموالي الى العرب في ظروف سيطرة الاستئثار على السلطة، ثم انضاف إلى هؤلاء فلاحو النبط - الآراميون - من الذين هجروا قراهم بعد اسلامهم ودخلوا المدن آملين أن ينقذهم ذلك من اوضاعهم السيئة. اما اریاف البلاد المفتوحة - الشام والعراق ومصر - فكانت مساهمتها محدودة نسبيا، وينبغي ان يلاحظ هنا ان العلاقات الزراعية لم يطرأ عليها تحول مهم في ظل الاسلام اذا استثنينا بعض الأحكام ذات المحتوى الإنساني البحت مثل: تحريم السخرة وعدم اقرار الارتباط بالارض - القنانة - ولم يكن لأوائل المسلمين معرفة بجوهر هذه العلاقات وذلك بحکم اصولهم البدوية. على اننا نلمس تحت تأثير هذه الأصول من جهة، وملابسات التركيب الاجتماعي للاسلام المبكر من جهة اخرى، میلا الى تعزيز هذه الأحكام عبر موقف سياسي معين، أن هذا ما تعکسه بشيء من الوضوح المحادثات التي يقول الطبري انها جرت بين مندوبي الجيش الإسلامي ورستم قائد الجيش الساساني قبيل معركة القادسية، حيث يؤكد بعض المندوبين العرب على مبدأ المساواة بين الناس ويدين العبودية عند الإيرانيين بشكل يترك أصداءه خارج المحافل الرسمية، فيثير حماس الفلاحين والعبيد الذين تدرجهم الرواية تحت اصطلاح (السفلة)، على وزن علية ورفقة، في مقابل هلع الدهاقين الذين عقبوا على ذلك بقولهم: “لقد رمى العربي بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون اليه”.
على أن تأرجح هذا الموقف وعدم تحديد مضمونه عمليا او شرعيا افقده التأثير المنتظر في صفوف الفلاحين.
في ما يتعلق بالعبيد، يسجل تاريخ هذه المدة مساهمتهم في اثنتين من الحركات المسلحة هما الإنتفاضة ضد عثمان وحركة المختار بن عبيد الثقفي (67 هـ). ويؤخذ من مجری الأحداث أن حضورهم في هاتين الحركتين كان مؤثرا الى حد ما، وقد اقترن في الحالتين بالتمرد على اسيادهم والانفلات من العبودية. ويذكر الطبري أن وضع العبيد في قضية عثمان كان من جملة اسباب الخلاف بين طلحة والزبير وبين علي بن ابي طالب، الذي اضطر تحت ضغطهما الى اصدار نداء يدعو العبيد للعودة الى سادتهم، ولا يخبرنا الطبري شيئا عن مصيرهم بعد صدور هذا النداء. أما في حركة المختار فان العبيد الذين حرروا انفسهم بالتمرد على اسيادهم كونوا فصيلا خاصا بهم في جيش المختار، وساهموا في المعارك التي خاضتها الحركة حتى مقتل المختار، حيث تمت تصفيتهم على يد مصعب ابن الزبير. وقد تميزت هاتان الحركتان بتنوع ترکیبهما الطبقي، اذ يورد الطبري روايات تصف الثائرين على عثمان بانهم: الغوغاء من الأمصار ونزاع القبائل والاعراب والعبيد. وتضيف رواية لصاحب العقد الفريد: “انباط يثرب” ولدى تحليل هذه العناصر نرى ان كلمة (غوغاء) تطلق في الاصطلاح السياسي القديم على فئات يقرب وضعها من وضع مايسمى في السياسات المعاصرة بالبروليتاريا الرثة، وان كان استعمالها خاضعا لمزاج المتكلم، الذي قد يجد من الدوافع ما يغريه باطلاقها على “العامة”. ولكن التفريق في هذا النص بين الغوغاء وبقية الثائرين يرجح تخصيصها بهذا المعنى. اما نُزّاع القبائل “بضم النون وتشديد الزاء” فهي كناية عن افراد القبائل المنضبطين عشائريا، واما “انباط يثرب” فلعل المقصود بهم فلاحوها او سفلتها بوجه عام، ومن المعروف ان الأنباط - الآراميين - هم فلاحو السواد وليست لهم صلة اقامة او عمل في المدينة، فربما كان استعمال الاسم في رواية العقد الفريد من باب الكناية. وفي حركة المختار كان الفرز الطبقي على جانب اكبر من الوضوح، فقد جوبهت الحركة بانتفاضة مسلحة قام بها اشراف الكوفة وهربوا بعد فشلها الى البصرة ملتحقين بمصعب بن الزبير، وبرروا تمردهم بقولهم عن المختار “تآمر علينا بغير رضا منا وادنى موالينا فحملهم على الدواب وعصتنا عبیدنا ..”، واشار احدهم إلى الحقد الطبقي الذي يحرك جيش المختار قائلا وهو يستعرض قوة هذا الجيش: “ .. ثم معهم عبيدكم ومواليكم، وعبيدكم ومواليكم أشد حنقاً عليكم من عدوكم” (10)..
بقي أن نشير الى أن جموع المهاجرين من العرب والموالي لم تنخرط كلها في الجهاد، فقد فرضت الحياة في المدن ان يتوزع اهلها بين النشاطات العسكرية والنشاط الاقتصادي المعتاد، فكان هناك الكسبة والحرفيون والتجار، تلك الفئات التي تدخل في ما نسميه اليوم طبقة وسطى ما عدا كبار التجار وهم اقرب الى الأرستقراطية. وكان وضع هذه الطبقة سيئا بوجه عام ما وفر دافعا لارتباطها بعلاقات تنظيمية مع بعض الفرق المعارضة، كالخوارج فضلاً، عن دخول الكسبة والحرفيين بحكم وضعهم الاجتماعي ضمن مفهومي “الضعفاء والغوغاء” اللذين استخدما لتسمية عناصر بعض الحركات مثل حركة المختار.
نخلص من هنا إلى أن دور الريف الإسلامي كان ضعيفا نسبياً طوال صدر الاسلام، اي ان الصراع لم يمتد حينئذ الى العلاقات بين الفلاحين ومستغليهم من ملاكي الأراضي او حائزیها. ربما مع استثناء حركة زید بن علی (121هـ) حيث نقرأ في الطبري رسالة كتبها هشام بن عبد الملك الى عامله على الكوفة يقول فيها عن زيد: لا يخف معه الا الرعاع واهل السواد .. ثم يعبر عن خوفه من بادرة السفلة وانهم قد يحملونه على الخروج .. اما دور العبيد فكان محدودا في حركتين اتسمتا بقصر المدة كما أن حجم هذا الدور - رغم بروزه في حركة المختار - لم يصل الى ان يعطي الحركتين طابع “انتفاضة عبید”. ويلاحظ الى جانب ذلك أن انتفاضات العبيد في العصور الاسلامية - بما فيها ثورة الزنج - لم ترفع شعار الغاء الرق وانما توقفت عند تحریر العبيد الذين يشتركون في الحركة، مما يسبغ عليها سمة ردود الفعل الموضعية ضد الاضطهاد الطبقي. وبذلك يبقى الصراع الاجتماعي في صدر الاسلام محكوماً بالتناقض الخاص بين الأرستقراطية العربية - الإسلامية وبين المحرومين من احرار المدن. وبكلمة اخرى انه صراع بين اغنياء المدينة الإسلامية وفقرائها. وبحكم هذا الاستقطاب المحدود ظل هذا الصراع يدور في حلقة مفرغة حالت دون أن يخلق مناخاً مؤاتيا للانقلابات الاجتماعية التي تلازم الصراعات الطبقية الحادة في المعتاد. هذا على الرغم من شدته التي تجسدت في حرب أهلية ضروس استمرت، لتنتهي الى تقويض الخلافتين الراشدية والاموية، ولكن دون أن تتوصل الى احداث تبدل جذري في أوضاع الفئات التي خاضت الحرب، ناهيك عن أوضاع سائر طبقات المجتمع الإسلامي.
ملاحظة تكميلية
يذكرنا الدوران الذي اتسم به صراع صدر الإسلام بتحليل انجلز للحركات الاجتماعية في الاسلام. وقد ورد موجز في هامش دراسته عن تاريخ المسيحية المبكرة، واشار فيه الى ان هذه الحركات هي في جملتها صدامات دورية كانت تحدث تحت شعار العودة إلى الشريعة وازالة الظلم، ولكن دون أن تتوصل الى تغيير جوهري في بنية النظام القائم حتى في حالة نجاحها. وقد طبق انجلز هذا الوصف على حركة المرابطين والموحدين بشكل خاص، وجعل طرفي الصراع اهل المدن واهل البادية. وتعطينا التجربة التي بحثناها توا دليلا على ان هذا الوصف يمتد الى ابعد من تاريخ المرابطين والموحدين كما أنها تضيف إلى الصراع بين المدينة والبادية صراع المجتمع المديني نفسه، وهو ما يشكل لحمة احداث صدر الإسلام. وبالنظر للاهمية الخاصة لتحليل انجلز في ما يتعلق بتقييم هذه المشكلات الاسلامية فسوف نختصه بدراسة مفصلة في مناسبة قادمة.
نتائج ومحصلات
اذا كان الصراع الاجتماعي في صدر الاسلام قد فشل في احداث نتائج اجتماعية على صعيد التغيير بالنظر الى طبيعة تركيبه الطبقي فان عنف هذا الصراع وشدة الاستقطاب بين طرفيه، الى جانب الاسس المادية والاقتصادية التي قام عليها، جعلته يترك بصماته على الكثير من نواحي الحياة العربية الإسلامية. وقد أومأت في مقدمة هذه المقالة الى أن ما حدث في هذه الآونة امتد تأثيره الى ما بعدها. وفي وسعنا الان ان نضع ضمن الاثار البالغة الأهمية مسألة الانشقاق بين المسلمين وتكوين الفرق التي تحولت بعد سقوط حضارتهم الى ما يعرف باسم الطوائف والمذاهب ذات المنحى الديني الصرف. ومن المعروف ان تكوين الفرق استمر طوال عصور الحضارة الاسلامية تحت تأثير مختلف العوامل ذات الصلة بتاريخ هذه الحضارة، الا ان انشقاقات صدر الإسلام تحتفظ بتفردها من وجهين: وضوح ومباشرية الصلة بالعوامل الاقتصادية وكون هذه الانشقاقات مصدرا للقسم الأكبر من الكيانات الفرقية والطائفية اللاحقة. ففي هذه الاثناء ظهرت الفرق الآتية:
الشيعة - الخوارج - القدرية - المجبرة - المرجئة، كما ظهرت أوليات الفكر السني.
وقد تفرعت الشيعة الى الكيسانية والامامية والزيدية في نفس المرحلة، ثم ظهرت الاسماعيلية وتفرعاتها في العصر العباسي. اما الخوارج فاستمروا بفروعهم، التي ظهر اكثرها في العصر الأموي، حتى العصر العباسي الأول، وبقيت منهم بقية الى العصر الحاضر، وتطورت القدرية الى المعتزلة بينما استمرت المجبرة والمرجئة من خلال الفكر الحنبلي والسلفي عموما.
إن استمرار هذه الفرق في العصور الاسلامية المختلفة يعكس ثبات المنحى العام للظروف الاجتماعو - اقتصادية طوال هذه العصور. ويتصل هذا الثبات بدوره ، بمسألة نمط الانتاج الأساسي الذي قامت عليه حضارة الاسلام ، وهي مسألة خارجة عن غرض هذا البحث. ومهما يكن الحال فإن الفرق التي تضرب بجذورها في القرن الأول للهجرة وصلت الى العصر الحاضر على شكل انتماءات دينية صرفة، قد تحمل بعض صفات الأحفور الا ان بقاءها حية يدل على مقاومتها لعوامل التغيير. تلك المقاومة التي تكرس منحى الثبات في ظروف نشأتها وديمومتها.
على صعيد السياسة: افرز الصراع بعض المبادئ التي جرى تأکیدها حينئذ واستمرت فيما بعد کمواد اساسية ضمن الفكر السياسي الاسلامي. وترتبط هذه المبادئ مباشرة بموضوعات الصراع الاجتماعية والاقتصادية:
1۔ مبدأ تدخل الدولة في النشاط الاجتماعي، مسؤوليتها عن مصائر الأفراد. تأثيرها الأحادي على الأخلاق العامة.
2 - زهد الحكام (كمطلب للمعارضة).
3 - مبدأ الخروج على الحكام الظلمة.
4 - مبدأ عدم الخروج على الحكام الظلمة.
5 - مبدأ ولاية العهد وبذور عقیدة الحق الإلهي.
6 - تقييد شرعية الخلافة بالاختيار.
وقد تناولت هذه الموضوعات بدراسة مفصلة ضمنتها كتابي المعنون (في السياسة الاسلامية بيروت 1975).
7 - اثارة العلاقة المتبادلة بين الفقر والغنى. ظهور تیار مناوئ للملكية الشخصية مع بعض الاتجاهات التنظيرية حول مشتركية المنافع والخيرات.
8 - تأكيد حق النقد السياسي. ظهور اوليات الرأي العام.
في مضمار الادب: ترك الصراع انعكاسات قوية في الشعر الأموي تمثلت في مولد الشعراء الرسميين وطغيان شعر المدح، استجابة لحاجة اعلامية ملحة أثارها الكفاح ضد المعارضة. وكان للمعارضة بدورها عدد من الشعراء الا انه قليل بما لا يقاس. اما موضوعات الصراع فلم تنعكس الا في شعر الكميت بن زيد الذي يشكل احدى الحالات النادرة في تاريخ الشعر العربي القديم.
وفي الفكر الفلسفي، ظهرت مبادئ القدرية حول خلق الإنسان لأفعاله - حرية الإرادة الإنسانية - كما ظهرت المجبرة بعقائدها عن القضاء والقدر خيره وشره من الله . وكانت الأولى عقيدة المعارضة والثانية عقيدة الخلافة الأموية، وهما تؤشران ظهور علم الكلام الذي يمكن اعتباره من هنا احد افرازات الصراع في هذا العصر. وقد فتحت القدرية بأطروحتها حول حرية الارادة وخلق القرآن باب الهرطقة، التي سايرت على يد هذه الفرقة شعارات المعارضة السياسية المطالبة بالعودة الى احكام الشريعة، ثم تطورت في فكر العصر العباسي على صورة زندقة مستقلة عن هذا الخط، الا انها حافظت في بداية ذلك العصر على صلتها بالسياسة، مستعيدة نفس تقاليد الهرطقة القدرية في العصر الأموي (تمثل ذلك في اتحادها مع الشيعة). ثم استمرت في الفكر الفلسفي من خلال مدارسه المختلفة.
ملحق لغوي
وردت في هذه المقالة مفردات تحتاج إلى تحديد وهي: سجل تاريخي: ترجمة حرفية لكلمة Historiographic
وتعني التاريخ كمادة خام قبل أن تخضع لإجراءات (علم التاريخ Historiology وقد فضلت استخدام هذا المصطلح لتفريقه عن كلمة (تاريخي) التي تدخل في استعمالات اخرى.
رائس: صيغة قياسية من “رأس يرأس” وقد فضلتها على كلمة (رايس ورئيسي) لتخليصها من الالتباس بمفهوم الرئاسة. مع العلم ان هذه الصيغة كانت مستعملة قديماً في بعض الرتب العسكرية.
بلدة: مقابل Town الإنكليزية. ان الكتّاب العرب يخلطون بين هذه المفردة والمفردة الاخرى City رغم اختلاف دلالتيهما. فالأولى تتمتع بخواص (المدينة) الريفية، أما الثانية فهي المدينة الكبيرة التي تضم نشاطاً صناعياً تجارياً واسعاً. وقد فرق العرب القدماء بينهما فسموا (Village) بأسماء مثل: ضيعة، رستاق، فلوجة، جمعها فلاليج – وهذه الأخيرة وثيقة الصلة بالكلمة الإنكليزية. ومن هذا أطلقت على يثرب والطائف اسم بلدة، وعلى مكة اسم مدينة.
القبيلة والعشيرة: الاولى عامة والثانية خاصة – فرع فعندما نذكر قريش مثلاً نقول: قبيلة فاذا ذكرنا بني أمية أو بني هشام وجب أن نقول: عشيرة، والكتابات المعاصرة لا تفرق بينهما وهذا خطأ.
أحفور: وهو المتحجر من نبات أو حيوان. وقد استعملت في موضعها من هذه المقالة استعمالاً مجازياً.
الهوامش:
- ابن كثير - البداية والنهاية في التاريخ ج 10 الفصل المكرس لترجمة عمر بن العزيز أيضا: أبو القاسم الاصبهاني – سير السلف .. مخطوطة في مكتبة الأوقاف ببغداد رقم 4883. ورقة (133).
- ابو حيان التوحيدي – البصائر والذخائر – تحقيق ابراهيم الكيلاني – دمشق 1964 ج1/185.
- شرح الاخبار- مخطوطة في مكتبة الاوقاف في بغداد 6596-39 ب. الصفحات غير مرقمة.
- الكيليني – اصول الكافي – ط. طهران 1381هـ ج2 - 216.
- اطلقت “مهاجر” أول الأمر على من هاجر الى يثرب قبل فتح مكة، وقد توسعت بعد هذا الفتح فصارت تطلق على من يترك البادية او الريف الى اية مدينة اسلامية، ولذلك تستعمل هذه الكلمة مقابل “اعرابي” كما هو واضح في ارجوزة للحجاج الثقفي: قد لفها الليل بعصلبي أروع خراج من الدوي مهاجر ليس بأعرابي .
- ابن عبد البر – الاستيعاب – ط، حيدر آباد 1318 – هـ - ج 2 / 405. وترد فيه مقطوعة شاعر معاصر لعثمان، تعدد انحرافاته ومنها: وأعطيت مروان خمس الغنيمة أثرته وحميت الحمى ولعائشة في هذا المعنى عن عثمان: انما نقموا عليه ضربه بالعصى وتأميره الصبيان وحماية موضع الغمامة وفي العبارة الأخيرة كناية بليغة عن المراعي.
- يروي المقريزي في (النزاع والتخاصم) ان يوسف بن عمر حاكم العراق لهشام بن عبد الملك خطب يوماً فقال: ان أول من فتح على هذه الأمة باب الفتنة وسفك الدماء علي وصاحبه الزنجي. يقصد عمار بن ياسر. والزنجي تصغير زنجي بقصد التحقير.
- تتحدث المصادر عن بعض السمات الأساسية للحكم الاموي من قبيل:أ- الحديث عن تحول الخلافة الى ملكية. وترد اشارات مماثلة لعلي وعمار في أيام صفين عن معاوية وجماعته انهم يريدون أن يكونوا “حبارين ملوكاً” ويبدو ان معاوية كان واعياً لمهمته هذه، اذ يخبرنا ضيفور (280) في بلاغات النساء انه خاطب امرأة من همدان تجرأ عليه قائلا: لقد لمظكم ابن ابي طالب الجرأة على السلطان وبطيئاً ما تفطمون.ب – استيلاء الاسرة الحاكمة وحواشيها على الاراضي الخراجية.ج – فرض ضرائب اضافية على الفلاحين واتباع اسلوب الضرائب غير المباشرة في المدن.
- انظر: كتاب البغال – ضمن رسائل الجاحظ لعبد السلام هارون، القاهرة 1964 حيث يقول الجاحظ ان الخوارج دسوا رجلاً منهم ليتعرف الى رأي الاحنف فيهم. فقال اما انهم ان جنبوا بنات الصهال (الخيل) وركبوا بنات النهاق (البغال والحمير) وأمسوا بأرض واصبحوا بأرض طال أمرهم وقد اتبع الخوارج في معظم الحالات اسلوب القواعد المتحركة.
- الطبري – فقرات من الجزء الرابع بين ص 501 و577 ط الاستقامة 1939